أميركا في عهد كلينتون
1992/11/08م
المقالات, كلمات الأعداد
1,963 زيارة
إعداد: محمد أبو وائل
الرئيس بوش (الذي أسقطه الأميركيون) هو من أقدر الرؤساء الأميركيين. لقد خدم في الجيش الأميركي ثم دخل المخابرات (C.I.A) وصار مسؤولاً فيها عن منقطة واسعة في آسيا، ثم صار رئيساً لها (C.I.A)، ثم صار مندوباً لأميركا في الأمم المتحدة، ثم صار نائباً للرئيس الأميركي (ريغان) لمدة ثماني سنوات، ثم صار رئيساً لأميركا لمدة أربع سنوات. فهو ذو خبرة واسعة، وقدم لأميركا إنجازات كبيرة، ومع ذلك فضّل الأميركيون عليه رجلاً يفتقر إلى الخبرة في الحقل الدولي والداخلي. وبذلك نسمح لأنفسنا أن نقول بأن الشعب الأميركي لا يعرف مصلحة نفسه ولا يعرف كيف يقوّم الرجال. هذا من حسن حظ العالم، لأن رؤساء أميركا (مثل غيرهم من رؤساء الدول المستعمرة) هم ذئاب مفترسة، وكلما زادت خبرتهم وقدرتهم زاد خطرهم على الإنسانية والعالم.
كثير من المراقبين يقولون بأن بوش كان يوجه اهتمامه إلى السياسة الخارجية، وكان يهمل السياسة الداخلية، ويهمل الشؤون الاقتصادية. والشعب تهمّهُ الشؤون الاقتصادية والداخلية أكثر من الخارجية. ولهذا يحاول الرئيس المنتخَب كلينتون إيهام الأميركيين بأنه سيولي الاهتمام الأول للشؤون الاقتصادية والداخلية وسيهتم بالسياسة الدولية بمقدار ما تخدم الشأن الداخلي.
والحقيقة أن بوش لم يكن مهملاً للشؤون الاقتصادية والداخلية بل كان يضعها في مقدم الأولويات،ن فحرب الخليج دخلها بوش ليس من أجل عيون الشيخ جابر بل من أجل الإمساك بمفتاح النفط لاتخاذه أداة منافسة وضغط على دول أوروبا واليابان، أي لتحسين الظروف الاستعمارية (الاقتصادية) لأميركا. وكذلك كانت أميركا تغذي استمرار الحرب بين العراق وإيران من أجل بسط استعمارها على المنطقة. حتى أن دعم أميركا لإسرائيل هو من أجل اتخاذها قاعدة لها في المنطقة لتضمن عدم خروج المنطقة عن استعمارها.
بوش كان وعد في حملته الانتخابية عام 88 بأنه لن يزيد في فرض الضرائب، ولكنه اضطر أن ينكث ويزيد الضرائب. والآن كلينتون أعطى مثل هذه الوعود، ونحن نؤكد ن الآن أنه سينكث مرغماً. ذلك أن المشكلة موجودة في الشعب الأميركي نفسه وليست في سياسة الرؤساء. الشعب الأميركي تعوّد على الإسراف والتبذير والهدر بدون حساب، والمجتمع الأميركي هو مجتمع استهلاك بدون حدود. وكانت بعض المؤسسات الإحصائية قد نشرت قبل بضعة أشهر أن الدخل الأميركي اليومي يقدّر بثلاثة مليارات دولار، وأن الإنفاق الأميركي اليومي يقدّر بأربعة مليارات دولار، أي أن العجز هو مليار دولار كل يوم. فمن أين سيأتي الرئيس بهذا المليار كل يوم من أجل إشباع نهم الشعب الأميركي؟ لا يوجد أمام الرئيس إلا طريقان: إما أن ينصح الشعب الأميركي كي يقتصد في الإنفاق (على قدر فراشك مد رجليك)، وإما أن يزيد النشاط الاستعماري ليتغلب على الدول الاستعمارية الأخرى المنافسة ويمتص خيرات البلاد المتخلفة (العالم الثالث) حتى لو ماتت جوعاً من أجل رفاهية الشعب الأميركي.
أما الطريقة الأولى فد جربتها أميركا سنة 1974 وأخفقت؟ ذلك أنه في أعقاب حرب 1973 (حرب رمضان أو تشرين) بين اليهود والعرب قامت السعودية وبعض دول الخليج بحظر النفط عن أميركا قائلين: النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي. وارتفع سعر برميل النفط نتيجة لهذا الحظر من ثلاث دولارات إلى أحد عشر دولاراً. وشحّت كمية النفط في محطات البيع في أميركا، وصار الشعب الأميركي يقف في الصف عدة ساعات ويدفع أربعة أضعاف الثمن ليحصل على شيء من البنزين. وقد ظن بعض السذّج عند ئذٍ أن النخوة والجرأة بلغت عند حكام النفط لأن يعاقبوا أميركا ويقطعوا النفط عنها. والحقيقة كانت أن حكام أميركا (نيكسون وكيسنجر) أوعزوا إلى حكام النفط أن يقوموا بعملية الحظر من أجل أن يعّودوا الشعب الأميركي على الاقتصاد. ولكن دون جدوى. والآن يستحيل على الشعب الأميركي أن يقتصد في الإنفاق أو يقلع عن الإسراف.
وهناك من يفكر بأن تلغي أميركا قواعدها المنتشرة في العالم وأن تعيد جيوشها وأساطيلها وذلك من أجل خفض الإنفاق، وأن تقلل مساعداتها التي تقدمها لدول العالم مثل إسرائيل ومصر. وهذا معناه أن تعود أميركا للانزواء في أرضها. إن هذا التفكير ضرب من الوهم لأن أميركا توفر بذلك مبالغ صغيرة وتخسر استعمارها الذي يجلب لها المبالغ الخيالية. ولا يمكن لأميركا أن تعود للانزواء بعد خرجت إلى العالم وذاقت طعم الاستعمار، وهي تحاول إخفاء الوجه الاستعماري وتزعم أنها تريد البقاء في العالم من أجل الحفاظ على الشرعية الدولية والنظام الدولي الجديد.
ولا يوجد أمام حكام أميركا من أجل سد العجز وتوفير ما يشبع نهم الشعب الأميركي للاستهلاك، لا يوجد إلا زيادة الاستعمار وسلب ثروات العالم لإعطائها للشعب الأميركي. إذاً ستكون هناك منافسة بل صراع وتكالب على ثروات العالم.
العالم الإسلامي ليس طرفاً من الأطراف التي تصارع بل هو الفريسة التي يتصارع عليها الأقوياء الاستعماريون. دول العالم الإسلامي لا تطمح لأن تصارعن وليس لها سياسة خارجية، حتى ليس لها سياسة داخلية مستقلة. إنها دول تابعة وتكتفي بان تسير حسب توجيهات الدولة التي تتبعها. ولذلك لن تستفيد دول العالم الثالث ومنها دول البلاد الإسلامية، لن تستفيد حين يأتي إلى سدة الحكم في أميركا رئيس قليل الخبرة مثل كلينتون. دولة اليهود ستستفيد على حساب العرب.
أما الدول الاستعمارية المنافسة لأميركا مثل دول أوروبا فإنها تفرح فرحاً شديداً بسقوط بوش لأنه حاكم قوي استطاع أن يجرجر دول العالم كلها خلفه في حرب الخليج، واستطاع أن يجعل أميركا تنفرد بقيادة العالم، واستطاع أن يضع يده على دول الخليج، وكان يحاول وضع يده على دول شمال أفريقيا ووسط أفريقيا وعلى دول آسيا الوسطى ودول البلقان.
المتوقع الآن أن تحاول اليابان الإفلات من يد أميركا، وأن تحاول دول أوروبا العودة لتحدي كبرياء أميركا ومشاركتها بشكل فعال في قيادة العالم وثرواته.
قد يقول قائل: إن سياسة الديمقراطيين في أميركا لا تختلف عن سياسة الجمهوريين، وها هو كلينتون يقول بأنه سيسير على نهج بوش في غالبية الأمور الدولية. ونقول: نعم، هذا صحيح، ولكن الأمر لا يقوم على البرامج وحدها بل يقوم على الفريق الذي ينفذ البرامج، والفريق يستمد زخمه وحيويته وحسن سيره من رئيسه. فلو وضعنا فريقين ورسمنا لهما البرنامج نفسه، فنحن لا نتوقع أن تكون نتيجة التنفيذ نفسها، بل تعتمد على مهارة الفريق وجرأته وبُعْدِ نظره وقدرته على المناورة أمام الأطراف المنافسة.
ومن هنا فنحن نتوقع أن تتعثر سياسة أميركا في تعاملها مع دول أوروبا واليابان وروسيا وفي منافسة هؤلاء على استعمار العالم، ونتوقع أن لا تستطيع الاحتفاظ بالقيادة الفردية لمجلس الأمن والأمم المتحدة والعالم.
1992-11-08