بسم الله الرحمن الرحيم
الكلّ الشُعُورِيّ
عثمان بن رزق
إن الفهم الصحيح لمسألة الكلّ الشعوريّ يقتضينا دراسة سرّ حياة التكتل الصحيح. وإبتداء أتناول تفسير كلمة «الكُل» وكلمة الشعور، – فقد جاء بالمعجم الوسيط بخصوص كلمة الكلّ أنها تفيد الاستغراق لأفراد ما تضاف إليه أو أجزائه، نحو قوله تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )، وحديث: «كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» وتعتبر “كُلّ” في هذه الحالة مفرداً مذكراً بحسب اللفظ، أمّا معناها فهو بحسب ما تضاف إليه، كما في التنزيل العزيز : (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ). وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ).
و تستعمل «كُلّ» ظرف زمان للتعميم إذا لحقتها (ما)، كما في التنزيل العزيز: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } . وتقع «كُلّ» وصفاً مُفيداً للكمال كما في نحو : هو العالم كُلّ العالم، وتقع توكيداً كما في التنزيل العزيز: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}.
– كما جاء بالمعجم الوسيط بخصوص كلمة الشعور أنها تفيد الإدراك بلا دليل والإحساس، ويقال عند الذم فلان لا يشعر، ويطلق على ما في النفس، وعلى ما يشتمل عليه العقل من إدركات وجدانية ونزعات.
واصطلاحاً فكلمة الشعور تعني الميل الذي يحصل تباعاً للطاقة الحيوية الكامنة في الإنسان. وبما أن الإنسان جُبِل على التفكير، فإن شعوره يكون متناسقاً مع فكره، فيحصل عنده ما يسمى بالإحساس الفكري، وهو تمثل للفكرة في الذهن أي تصور لها، بحيث يحدث تناسقاً مرهفاً لفكره مع شعوره أي مع ميله، ويكون لديه حينها إحساس فكريّ مرهف أي مفهوم… والإحساس الفكري المرهف يقوى ويضعف تبعاً لوضوح الفكرة وتصورها وتبلورها في الذهن…
وعليه فالإنسان يكيف سلوكه بفكره، والتكييف هو تناسق الفكر مع الشعور، وبمعنى آخر فإن مشاعر الكره أو الحبّ تتكيف بالفكر، فتميل المشاعر الحيوية حيث مال الفكر المبلور، وهذه الميول المتناسقة تكون مُركّزة حارة قويّة متينة…
أمّا بخصوص «الكُلّ الشعوريّ» فمفاده أن الشعور ليس المقصود منه الإنسان بفرديته، وإنما المقصود منه كُلّ الإنسان، وأن «كُلّ» الإنسان يكون له شعور كليّ ، وعليه يكون له ميل واحد أي فكر واحد وشعور واحد، أي شخصية واحدة بعقلية متميزة ونفسية راقية، وهذا “الكُلّ” الذي أقصده هو الأمّة الإسلاميّة، وتحديداً الفئة المتميزة منها، التي كان لها إحساس عميق مرهف، وتركز عندها شعور الأمّة الكُليّ، فعبرت عنه بفكر نقيّ واضح مبلور…
لذا أعود لدراسة سر حياة التكتل أي نشأة الروح فيه. وبداية النشأة كانت بحصول هزات عنيفة جعلت الحيوية تَدبّ في الأمّة ، نتج عنها إحساس مشترك، وهذا الإحساس الجماعي يؤدي إلى عملية فكرية.
و تَرَكز الإحساس في من نالوا قدراً أعلى من الإحساس، وكان المبدأ مركز تنبههم الطبيعي، بعد تمركز الفكرة وانطباع إحساسات الجماعة فيهم… لقد أثمر غرس المبدأ فيهم الثمر الطيب، فتحركوا حركة وعي وإدراك، وكانوا عيون الأمة. وبوتقة صَهْرها… هذه الثلة انجذبت إلى مغناطيس المبدأ، فحلّقت بفكرها للعمل من أجل غاية واضحة محددة في كنف جو إيماني نقيّ، وتولّت العملية الصهرية، وذلك لإخضاع الواقع وتغييره، بإيجاد الطبيعة النقيّة في الأمّة، وتهيئة الكُلّ الشُعويّ فيها، وبتكوين الروح الجماعية، وإيجاد الاستعداد الجماعي فيها ، بناء على عالميّة المبدأ… على خلاف المدرسة التي تُهيئ الجزء الشُعوريّ، بثقافة رتيبة…
وعليه فالكُلّ الشُعوريّ هو نتاج فكرة عميقة، تركزت عند جهة متينة البنيان وطيدة الأركان ثابتة الكيان. والفكرة العميقة تتميز بالوضوح والبلورة والنقاء، وهي فكرة أساسية، تناسق معها شعور قويّ عميق، نتاج إحساسها فكريّ مرهف حار بحرارة المبدأ، فحصل التناسق بين القلب والعقل…
وهذا الإحساس الفكري ناتج عن إدراك حسيّ، بمعنى الإدراك الذي فيه إحساس مباشر بالواقع، كالإحساس بنعم الله والإحساس باحتياج الكون والإنسان والحياة لخالق مُدبّر، والإحساس بانحطاط المجتمع، والإحساس بِثِقَل حمل الدعوة…
فيكون ذلك الفكر قد عمّق ورسّخ في الإنسان الفاهم لشعوره، منطق الإحساس أو العقل المسند إلى الحس: قلت: يكون قد رسّخ فيه شعور «فكريّ» كُلّي، وبذلك الفكر نشأة روح التكتل وسرّ حياته… وتمثلت الفكرة في إنسان نقيّ، كان الخلية الأولى والنواة التي قامت على الفكرة بعمقها ووضوحها… وحين تجسد المبدأ لم يطق أن يبقى حبيساً، وسرعان ما تكاثرت الخلية الأولى إلى حلقة، فنبتت الكتلة، واحتاجت الكتلة إلى رابطة حزبية، وهي العقيدة التي تنبثق عنها فلسفة الحزب، والتي يتسم بمفاهيمها، فكان الحزب فكر وشعور يتبعه عمل في جو إيمانيّ.
إن الإحساس الفكري الذي تجسد في الخلية الأولى فالكتلة، فالحزب، أحدث ثورة جامحة، فاحترق الشعور الكليّ بالفكر في الأشخاص الصالحين للتكتل، فشاعت وأشعَّت فيهم الدعوة وألهب الحماس شعورهم فكان الحماس تبعاً للوعي. وأصبح وجودهم من أجل المبدأ ومن أجل الدعوة، فكان المبدأ وحده مركز الدائرة الذي تدور حوله مصالحهم الشخصية. وكانت هذه الفئة المتميزة قد جعلت طريقة الربط العقيدة الإسلامية والثقافة الحزبية، فكانوا كالجسم الواحد، وترسّخ فيهم الكلّ الشعوري، حتى كان هواهم تبعاً لما جاء به محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأحسوا إحساساً فكرياً عميقاً بالجزئية الحزبية، فعملوا على نمو الحزب وصونه، وتكثير خلاياه، بكل وعي وإدراك تامين، وذلك بإعداد الأشخاص الصالحين، أي بإيجاد التناسق بين فكرهم وشعورهم الكليّ، لكي يُمحى من قلوبهم الشك والسواد، وتقتلع الريبة والأحقاد، ويُزَال التذبذب والدوران حول منافعهم، واليأس من نفوسهم، والتقاعس والتعرض للمساومة… وحتى توجد الإرادة الصحيحة فيهم، أي توجد فيهم الرغبة المقترنة بأمر، حتى لا تفتر هممهم، وذلك بسقيهم بالثقافة الحزبية، التي توحد الهدف والعمل وخط السير لديهم. فيحصل الالتزام بالدعوة فقط والطاعة والتنفيذ، دون أي تقاعس…
إن الرابط الذي يربط بين أعضاء التكتل الواحد ليس مجرد فكرة التكتل أو مجرد حماسة تدفع للتكتل أو صداقات قديمة، أو لوجاهة الأعضاء، أو لمجرد اسم التكتل، أو أساس جمعيات محلية وإقليمية تهدف إلى غايات خيرية أو ثقافية أو خُلُقية، وإنما التكتل الصحيح يقوم على فكرة هي الروح لجسم الحزب، وهي نواته وسر حياته. وعليه كانت الناحية التكتلية تقوم على أربعة أمور وهي :
1 – الفكرة التي تم الاجتماع عليها.
2 – الطريقة التي يسلكها.
3 – مدى إيمان الأشخاص بالفكرة والطريقة.
4 – الكيفية التي يتم بها الانضمام. فتولدت الحركة الموتورية فيهم بوصفهم موتوراً اجتماعياً، وكان الحزب كله حاملاً للحركة الموتورية.
والحزب حين ينتقل من مرحلة التثقيف بمعالجة التناسق بين الفكر والشعور الكليّ، أي التناسق بينه وبين مجتمعه، بشكل إنشائي ارتقائي، فإنه سرعان ما ينتقل لمرحلة التفاعل مع الأمّة أي إيجاد الطبيعة النقيّة في الأمّة، بإنضاج الروح الجماعية والاستعداد الجماعي فيها. أي إيجاد العرف العام الناتج عن وعي عام، وذلك بالعمل الإصلاحي الانقلابي، وذلك لقيادة الأمة بالحركة الجماعية، حتى تمكنه (القوة) الكامنة في الأمّة من وضع الفكرة موضع التنفيذ…