الدعوة إلى الإسلام (24)
1994/11/30م
المقالات
2,627 زيارة
هل أقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم النجاشي الذي أسلم، على الحكم بشريعة كفر؟!
إن من يحمل الإسلام صادقاً، ويعمل لإعادته إلى واقع الحكم والحياة مخلصاً،سواء أكان فرداً أم كتلة لا يمكن أن يشارك في حكم كفر، وهو يدعي أنه يعمل لهدمه، لأن المشاركة في حكم كفر يطبق أنظمة الكفر وقوانينه هو تثبيت لأنظمة الكفر، وليس هدماً لها. وإن أية حجة يُؤتى بها لتبرير المشاركة في الحكم الكافر ما هي إلا مخادعة للنفس قبل أن تكون مخادعة لله وللذين آمنوا، خاصة عندما تكون تلك الحجة تتعارض مع الأدلة الشرعية القطعية الثبوت، القطعية الدلالة.
وإنه لبلاء شديد، وإثم كبير أن يلجأ حامل الدعوة إلى اتخاذ المصلحة التي يرتئيها عقله، والتي لم يعتبرها الشرع، دليلاً يبرر به لنفسه مخالفة النص القطعي الثبوت، القطعي الدلالة. أو أن يلجأ إلى ما لا يصل إلى شبهة دليل ليتخذ منه مبرراً للمشاركة في حكم كفر يحكم بغير ما أنزل الله، مع أن هذه المشاركة في الحكم الكافر تتناقض مع الأدلة القطعية الثبوت، القطعية الدلالة، التي توجب الحكم بما أنزل الله، والتي تحرّم الحكم بغير ما أنزل الله.
وذلك كاتخاذ قصة النجاشي الذي نعاه الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة يوم موته، وصلى عليه صلاة الجنازة دليلاً مبرراً للمشاركة في حكم كافر يحكم بغير ما أنزل الله، ذهاباً إلى أن النجاشي قد أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي يحكم بالنظام الذي كان يحكم به قبل أن يسلم، مع أنه نظام غير إسلامي، وقد ساقوا لذلك ستة أحاديث أوردها البخاري، تتعلق بموته، وبالصلاة عليه، ثلاثة منها رواها عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وثلاثة منها رواها عن أبي هريرة. مع أن هذه الأحاديث الستة لا تنهض أن تكون دليلاً مبرراً للمشاركة في حكم كافر، يحكم بأنظمة الكفر وقوانينه. وبيان ذلك بالتالي:
1- إن البخاري عندما روى هذه الأحاديث ترجم لخمسة منها بعنوان «باب موت النجاشي» والسادس أورده في «باب الجنائز». والأحاديث الستة تتعلق بموت النجاشي، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بموته، وأنه رجل صالح، وأنه أخوهم، والطلب منهم الاستغفار له، والصلاة معه عليه صلاة الجنازة. مما يدل على أنه كان مسلماً.
2- علَّق ابن حجر العسقلاني في الجزء الثاني عشر صفحة 191 من كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري على ترجمة البخاري بعنوان «موت النجاشي» وعدم ترجمته بإسلامه بقول: «وقد استشكل كونه – أي البخاري – لم يترجم بإسلامه – أي النجاشي – وهذا موضعه، وترجم بموته ذلك أنه لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامية وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد اسلم».
3- صيغة الأحاديث التي أوردها البخاري تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بموت النجاشي وبإسلامه يوم موته من طريق الوحي، كما تدل على أن الصحابة لم يعرفوا بإسلامه وموته إلا عندما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك. ففي حديث جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلّوا على أخيكم أَصْحِمَة» وفي حديث أبي هريرة ورد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى لهم النجاشي، صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه» مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم بموت النجاشي وبإسلامه يوم موته من طريق الوحي. وإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة فيما رواه جابر بن عبد الله «مات اليوم رجل صالح» وقوله: «فقوموا فصلوا على أخيكم أَصْحِمَة» ليدل على أنهم لم يكونوا يعرفون بإسلامه، لأنهم لو كانوا يعرفون بإسلامه لما كان هناك من داعٍ لأن يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه التعابير «رجل صالح» «أخيكم» لأنه لم يكن يأتي بمثال هذه التعابير عندما كان يدعوهم للصلاة على من يموت عندهم من الصحابة.
4- هذه الأحاديث تدل على أن النجاشي كان قد اسلم قُبيل موته، لكنها لم تبين متى كان إسلامه، وصيغتها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم بموته وبإسلامه يوم أن مات من طريق الوحي، كما ذكرنا سابقاً، ولم يرد أي خبر صحيح يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بإسلام النجاشي في غير هذا الموقع.
5- إن هذا الأحاديث الستة ليس فيها ما يدل على أن النجاشي الذي نعاه الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة، وصلى عليه صلاة الجنازة هو النجاشي الذي كان حاكماً للحبشة عند هجرة المسلمين إليها، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنه هو النجاشي الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي يدعوه فيه إلى الإسلام لأن كلمة: «النجاشي» ليست اسم علم لشخص معين، وإنما هي لقب يلقب به كل حاكم يحكم الحبشة، كما أورد ذلك النووي في الجزء الثاني عشر من كتابه شرح صحيح مسلم، وكما أورده ابن حجر العسقلاني في الجزء الثالث من كتاب الإصابة.
6- ورد في الجزء الثاني عشر من صحيح مسلم شرح النووي أن النجاشي الذي أرسل له النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي يدعوه فيه إلى الإسلام في نهاية السنة السادسة من الهجرة بعد عودته من غزوة الحديبية ليس هو النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة ونص الحديث: «… عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى. وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم» ومن هذا الحديث يتبين أن النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو غير النجاشي الذي هاجر إليه المسلمون إلى الحبشة ليعيشوا في جواره، وليس هو النجاشي الذي جاء إلى الملك بعد موت النجاشي الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً في نهاية السنة السادسة يدعوه فيه إلى الإسلام، وإنما هو النجاشي الذي إلى الملك بعد موت النجاشي الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً مع عمرو بن أمية الضمري يدعوه فيه الإسلام، والذي لم يجب دعوة الرسول ولم يسلم، لأنه لو أجاب الرسول وأسلم لأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بذلك، ولصلّى عليه، ولكان جعفر بن أبي طالب والمهاجرون معه قد علموا بإسلامه، فإنهم رجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة بعد فتح خيبر، أي بعد إرسال الرسول الكتاب للنجاشي، ولو أنه أسلم لكان لإسلامه صدى وفرحة لدى المسلمين، خاصة بعد أن فتح الله عليهم خيبر، ولكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشرهم بإسلامه، ولكان لم يقتصر بعد قدوم جعفر على قوله: «ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر» [سيرة ابن هشام] ولزاد على ذلك «أم بإسلام النجاشي» ولكنه لم يأت على ذكر النجاشي في هذا الحديث مع أن المقام يقتضيه فيما لو كان قد استجاب لدعوته وأسلم.
7- إن الذين ذهبوا إلى النجاشي الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة هو نفس النجاشي الذي هاجر إليه المسلمون ودخلوا في جواره، ونفس النجاشي الذي أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي يدعوه فيه إلى الإسلام في نهاية السنة السادسة من الهجرة. قد وَهِمُوا فيما ذهبوا إليه. وقد جاءهم هذا الوهم من كون النجاشي الذي هاجر إليه المسلمون كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثنى عليه ومدحه ووصفه لمن طلب منهم أن يهاجروا إليه: «بأنه ملك لا يُظْلَم عند أحد، وأن أرضه أرض صدق» [سيرة ابن هشام] ومن كونه أحسن جوار من هاجر إليه من المسلمين، وأمَّنهم فعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحداً، ولكونه رفض أن يسلمهم إلى رسولي قريش بعد أن طلبا منه ذلك مخالفاً رغبة بطارقته، ومنعهم منهما، وحماهما، وقال لهما: أنتم آمنون في أرضي من سبّكم غرم. ومن كونه علّق على إجابة جعفر له لما سأله عما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: «إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة» وعلى إجابة جعفر في اليوم التالي لما سأله عما يقولون في عيسى، وكان أخذ عوداً من الأرض، «والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود» [سيرة ابن هشام] فوهموا من كل ذلك أنه قد أسلم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن عنه أنه أسلم، كما أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، لم تذكر أنه أسلم عندما تحدثت عنه، وعما جرى لهم في ارض الحبشة، حيث قال: «لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي، أمِ،َّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه.. وقالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه ملكه، قالت: فوا الله ما علمتنا حَزِنّاً قط كان أشد علينا من حزن حزناً عند ئذ، تخوفاً أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. وقالت: بعد أن نصر الله النجاشي على عدوه؛ ومكَّن له في بلاده فوالله ما عَلمتُنا فرحنا فرحة قط مثلها، قالت روجع النجاشي وقد اهلك الله عدوه، ومكَّن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنَّا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة [سيرة ابن هشام] فحديث أم سلمة هذا لا يدل على أن النجاشي قد اسلم.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فكأن من قال بأن النجاشي الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفس النجاشي الذي أرسل إليه المهاجرين، والنجاشي الذي أرسل له الكتاب الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فكأنه لم يطلع على حديث أنس بن مالك الذي رواه مسلم في صحيحه والذي ورد فيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه صلى الله عليه وسلم».
هذا الرسالتان اللتان أوردهما محمد حميد الله في كتابه «الوثائق السياسية للعهد النبوي» أنه أخذ هذه الوثائق من كتب التاريخ للطبري والقلقشندي وابن كثير وغيرهم؛ ولم يذكر أنه أخذ أياً منهما من أي كتاب من كتب الحديث. وكتب التاريخ غير موثقة، لأنها لا تعتني بتخريج الأحاديث مثل كتب الحديث، وهي تجمع أخبارها كحاطب ليل لا يدري أتقع يده على عصا أم على أفعى. لذلك لا قيمة لهاتين الرسالتين، فضلاً عن أنهما تتناقضان مع حديث أنس الذي رواه مسلم، ومع رواية أم سلمة في حديثها عن النجاشي، وعن المهاجرين في الحبشة، وعدم ذكر المهاجرين إلى الحبشة، وآخر من رجع منهم جعفر، أيَّ خبر يفيد أن النجاشي قد اسلم، مع أن جعفر رجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة بعد فتح خيبر، وبعد أن أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء. ولذلك لا تصح هاتان الرسالتان، ولا يستقيم الاستدلال بهما، فتُردّان. ومن ذلك كله يتضح أن النجاشي الذي أسلم، والذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة ليس هو النجاشي الذي هاجر إليه مهاجرو الحبشة، وليس هو النجاشي الذي أرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام في نهاية السنة السادسة من الهجرة وأوائل السنة السابعة مع عمرو بن أمية الضمري، وإنما هو النجاشي الذي وصل إلى مُلك الحبشة بعد موت النجاشي الذي أرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي يدعوه فيه الإسلام.
وهذا النجاشي الذي أسلم كان قد تسلَّم الملك في السنة السابعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل رسله إلى الملوك والأمراء، بمن فيهم النجاشي بعد رجوعه من غزوة الحديبية، وكانت في نهاية سنة ست من الهجرة في شهر ذي القعدة، فيكون قد مات هذا النجاشي في السنة السابعة، وفيها تسلم النجاشي الذي أسلم، والذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة، والذي كان موته قبل فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، كما ذكر البيقهي في دلائل النبوة.
وبذلك تكون الفترة بين توليه الملك وإسلامه، وبين موته فترة قصيرة أسلم فيها سراً، ولم يعرف بإسلامه أحد، حتى ولا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي بموته وإسلامه يوم موته، كما دلت عليه صيغة أحاديث البخاري الستة التي رواها عن موته. والوقت القصير الذي قضاه مسلماً قبل أن يموت لا يمكّن من أن يعرف أحكام الإسلام. وعدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لم تجعله يرسل له ما يجب عليه أن يقوم به.
وبذلك لا يصلح هذا أن يكون دليلاً لمن أباح لنفسه أن يشارك في حكم الفكر الذي يحكم بغير ما أنزل الله، وتبطل دعواه في ذلك ¨
1994-11-30