مفاهيم حمل الدعوة فكرةً وطريقةً
1995/01/31م
المقالات
2,789 زيارة
يقول الحق تبارك وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ)، هذه الآية الكريمة قد بيّنت وبشكل قاطع لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد كمل وتم، فلا يجوز لأي مسلم بعد ورود هذه الآية المحكمة أن يظن – مجرد ظن – أنه لا توجد في الإسلام معالجات لقضايا الإنسان ومشاكله سواء في الماضي أم في الحاضر أم في المستقبل. كما لا بد وأن يدرك الناس، وبالأخص، المسلمون أن القيادة الفكرية يجب أن تكون للإسلام، ولا يكون ذلك إلا بإدراك أن جميع قضايا الإنسان ومشاكله قد وضع لها الإسلام حلولاً ومعالجات هي أحكام شرعية أشار إليها صراحة أو وضع لها أمارة يستدل بها عليها.
بيد أنه يجب أن يدرك أن هذه الأحكام الشرعية تشتمل على معالجات لقضايا الإنسان ومشاكله، وبيان كيفية القيام بهذه المعالجات، وأنه لا يجوز ولا يستقيم الحل إذا أخذ منفصلاً عن طريقة معالجته. فغريزة البقاء مثلاً، والتي تحافظ على وجود الإنسان كفرد، من أبرز مظاهرات التملك. وإشباع هذه الغريزة من خلال هذا المظهر عند الإنسان مشكلة من المشكلات التي تواجه المجتمعات، وقد وضع لها الإسلام المعالجة بتحديد طرق التملك الشرعية، وتنمية الثروة، من عمل وارث وبيع وهبة ونهي عن السرقة والاحتكار والغش والغبن، وربط ذلك كله بتطبيق نظامه الاقتصادي تطبيقاً كلياً كاملاً. فالسرقة مشكلة فرعية من مشكلات إشباع غريزة البقاء وقد علاجها الإسلام بتحريمها، وجعل بيان كيفية المعالجة، وهو طريقة المعالجة التي هي قطع يد السارق، مرتبطاً بالدافع وراء السرقة، فلا تقطع اليد إذا كان الإنسان يسرق من جوع أو يسرق شيئاً غير محرز أو يسرق من مال فيه شبهة العموم للمسلمين. والتملك عولج عند الإنسان بإباحة التملك وبتحديد طرق التملك، وحتى المشكلات الفرعية الناشئة عن الخروج على طرق الإشباع الشرعية قد عولجت وبيّ،ت كيفية المعالجة. وهكذا جميع مشاكل الإنسان وقضاياه قد أتى لها الإسلام بمعالجات هي أحكام شرعية، وبيان لكيفية المعالجات هو أيضاً أحكام شرعية يجب أن تلتزم، فلا يجوز أخذ معالجات غير معالجات الإسلام، كما لا يجوز أخذ بيان كيفية المعالجات – طريقة المعالجات – من غير الإسلام.
وعلى هذا إذا ذكر الجهاد، وهو فرض فرضه الله على المسلمين لإعلاء كلمة الله في الأرض، فيجب إدراك أنه طريقة معالجة حمل الدعوة للأمم والشعوب إذا حيل بينها وبين الإسلام. وأنه طريقة معالجة تعرض بلاد المسلمين للغزو من قبل الكفار أي طريقة حماية الدعوة حيث أن بلاد المسلمين هي المكان الذي فيه ومنه تعلوا كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). فهو طريقة الإسلام لنشر دعوته إذا منعت من الوصول إلى أذهان الناس وأفهامهم ووضعت الحواجز المادية أمام الدعوة، مما يوجب الجهاد لإزالة تلك الحواجز حتى يمكن للناس معايشة تطبيق الإسلام عليهم مباشرة وإقامة الحجة عليهم، وبعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وحسابه عند ربه.
أما في حال تعرض بلاد المسلمين للغزو من قبل الكفار فيصبح الجهاد فرض عين على أهلها، فإن لم تقم بهم الكفاية انتقل إلى من يلونهم من المسلمين، فإن لم تقم بهم الكفاية استغرق الفرض جميع الأمة.
وعلى هذا فإن «استئناف الحياة الإسلامية وحمل الإسلام دعوة للعامل بالدعوة والجهاد» هو معالجة الإسلام لحمل دعوته وحمايتها. أما بيان كيفية المعالجة – أي بيان طريقة ذلك – فهو بما فرضه الله على المسلمين من إقامة دولة تنوب عنهم في إقامة الحياة الإسلامية وحمل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد، فهي التي لها صلاحية استنفار المسلمين للجهاد لحمل الإسلام دعوة للعالم حينما توضع الحواجز والعوائق المادية أمام الدعوة، وهي التي تقيم الحياة الإسلامية بتطبيق أنظمة الإسلام.
أما تعرض بلاد المسلمين للغزو من قبل الكفار في حال عدم وجود دولة إسلامية فهي مشكلة، ولا يجوز تصور أن الإسلام لم يُعطها معالجة، بل أعطاها معالجة وبيان طريقة المعالجة، وذلك حينما أوجب الجهاد على المسلمين لصد هذا الغزو، وجعل طريقة تنفيذ هذه المعالجة بالقتال من قبل المسلمين أهل البلد، ومن يلونهم من المسلمين إن لم تقم بأهل هذا البلد الكفاية، حتى يستغرق الفرض الأمة جميعها، بغض النظر كان هناك دولة إسلامية أم لم يكن «فالجهاد ماض إلى يوم القيامة».ولذلك كان من الخطأ شرعاً – وهذا ليس خطأ في اجتهاد – تصور أن التبرعات للمسلمين في البلاد التي يجتاحها الكفار يسقط الإثم، أو أن الدعاء لهم بالنصر وعلى أعداء المسلمين بالهزيمة والشتات يسقط الإثم، لا والله لا يسقط الإثم. بل يجب على المسلمين أولاً دفع هؤلاء الحكام إلى استخدام القوة العسكرية ودفعهم إلى استنفار المسلمين، والعمل على إقامة دولة الإسلام – دولة الخلافة جنباً إلى جنب. فهذا هو الحل الجذري لوقف نزيف دماء المسلمين وامتهان كرامتهم وهتك أعراضهم. أما الدعاء، وإن كان عملاً من أعمال الإسلام إلا أنه ليس طريقة الإسلام في صد العدوان. وهو يستحب دائماً في جميع الأوقات، وكذلك دفع التبرعات وإن كان عملاً من أعمال الإسلام إلا أنه صدقات تستحب في جميع الأوقات، ولا تكون من الجهاد إلا إذا قصد تجهيز المقاتلين، وليس تسمين المسلمين للذبح، واستخدامهم وقوداً لحرب تخدم مصالح الكفار. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، في يوم بدر، يوم أن صف الصفوف وقام يدعو بعد ذلك «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم». نعم، الهمّ، هو تعبّد الأرض لله رب العالمين بيد المسلمين وليس الهمّ هو أن يفرج الكرب عن المسلمين وكأنهم أقلية يبحث لها عن حق في الحياة. إن اللجوء إلى الدعاء والاكتفاء به، وإن كان من أعمال الإسلام، مخالفة لشرع الله في هذه الحالة، بل وقد يلجأ إليه الطواغيت الظلمة لتنفيس غضب المسلمين، وإضفاء الشرعية على أعمالهم. وحتى تتضح الصورة في الأذهان، نضرب هذا المثال: هل يعقل أنه إذا أتى للإنسان من يريد ماله أو عرضه، أن يلجأ إلى الدعاء إلى الله أن يقضي على هذا الباغي أو أن يكسر قدمه؟ وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورد فيه: «أرأيت إن جاء رجل يريد مالي؟ قال: فلا تعطيه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار».
إن إقامة الدولة في الإسلام – دولة الخلافة – في حد ذاته ليس غاية، بل طريقة. فالغاية هي أن تستأنف لحياة الإسلامية ويحمل الإسلام رسالة للعالم بالدعوة والجهاد، وكلاهما فرض على المسلمين بلا خلاف. ففي حال وجود دولة الإسلام، لا شك أن الحياة الإسلامية ستستأنف، وذلك بعد توقفها بسقوطها سنة 1924، ويجب أن تباشر الدعوة للإسلام فوراً وأن تدعو للجهاد ضد كل من يحول بين الإسلام والناس. هذا في حال وجود الدولة والتي هي طريقة الإسلام لتنفيذ هذا الواجب على المسلمين. أما في حال غيابها فأصبح فرضاً على المسلمين العمل على إيجادها، لأنها حكم شرعي من رب العالمين للعيش في حياة إسلامية وحمل الإسلام للعالم. فالبرغم من أنها طريقة إلا أن غيابها أصبح مشكلة يجب أن يبحث لها عن حل من خلال الإسلام. وحيث أنه – أي إقامة الدولة – واجب، كانت طريقة إقامته أيضاً واجباً من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». والمتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجده عليه الصلاة والسلام سار في مكة، وهي التي لم يوجد فيها حياة إسلامية إبتداءاً، بطريقة شرعية تضافرت الأدلة من السيرة النبوية الشريفة على شرعيتها. فمكة كمجتمع لا يحيى حياة إسلامية، كانت تعالج بوحي من الله رب العالمين. وهذه المعالجة أدت إلى إقامة حياة إسلامية بتطبيق أحكام الإسلام وأنظمته من قبل دولة. وعلى هذا عند السير في إقامة دولة الإسلام، التي هي طريقة الإسلام للعيش في حياة إسلامية وحمل الإسلام دعوة للعالم يجب التزام طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التكتلات التي حملت على عاتقها ذلك.
كما يجب أن يوضع في الاعتبار أن التزام طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أخذ لطريقة المعالجة لمجتمع لا يحيى حياة إسلامية، وليس معناه الدعوة المطلقة إلى الإسلام إبتداءاً أو أن هناك أحكاماً تعطل أو تتوقف إلى أن تقام الدولة بحسب مفهوم المرحلية (المرحلة المكية والمرحلة المدنية كما يقول البعض) وهذا منافِ لمفهوم آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ… )، بل معناه أخذ طريقة المعالجة ذاتها مع إدراك أن الأحكام التي شرط فيها وجود خليفة المسلمين يأثم المسلمون على عدم تطبقها بطريقتها، أمّا الأحكام التي ليس شرطاً فيها وجود الدولة فيجب على المسلمين القيام بها.
وهذه الطريقة بوجه عام تعتمد على الصراع الفكري بين الإسلام وأفكار الكفر التي تحول بين الناس، وبالأخص المسلمين، والإسلام. فكما كان القرآن ينـزل منجّماً طبقاً للحوادث والوقائع داحضاً أفكار الكفر، مسفهاًَ صناديده الذين يحولون بين الإسلام والناس، كان لزماً عل من يحمل الدعوة اليوم وبعد توقف الحياة الإسلامية، أن يبحث في وقاع المجتمع منقباً عن أفكار الكفر وعملائه الذين يحولون بين الإسلام والناس، وأن يأتي من الإسلام بما يدحض هذه الأفكار ويضع أفكار الإسلام موضعها، ويكشف عملاء الكفار وأساليبهم في الصد عن الإسلام والكيد للمسلمين، حتى يوجد للإسلام نقطة ارتكاز يحمل منها رسالته للعالم بالدعوة والجهاد. فالقرآن سفَّه اللات والعُزّى وغيرها، وعاب وأد البنات، وتطفيف الكيل، وتوعد أبا لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم، وهكذا عالج الإسلام في مكة العقيدة، وعالج أنظمة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتصدى لزعماء الكفر، وأوجد في المدينة نقطة ارتكاز تطبق الإسلام وتحمله للعالم.
فاليوم، الواقع لا يختلف، وخاصة بعد غياب الحياة الإسلامية وسقوط دولة الإسلام. فكان لا بد لمن يريد العمل للإسلام أن ينقب في المجتمع. فاليوم اللات والعزّى اختلفت في أشكالها وإن لم تختلف في واقعها، والأنظمة المطبقة على المسلمين تتناقض مع الإسلام، والقائمون عليها أعداء للإسلام والمسلمين. فمن هنا كان لا بد لمن يريد العمل للإسلام أن يدخل في صراع فكري، وكفاح سياسي يتبنى فيه مصالح الأمة ويتصدى لعملاء الكفار من الحكام بحسب طريقة الإسلام، مجمعاً المسلمين على رأي عام واعٍ، ساعياً إلى كسب القوى القادرة على التغيير والتأثير في المجتمع، لإيجاد نقطة ارتكاز للدعوة، وعند ئذ يكون الجهاد لحمل الدعوة إذا حيل بين الأمم والشعوب والإسلام.
وغياب الحياة الإسلامية وعدم حمل الإسلام للعالم وتوقف الجهاد وإن كان من المنكر إلا أنه يجب التفريق بينه وبين المنكر حينما يقع من خليفة المسلمين، وبين المنكر حينما يقع من الأمير المتغلب في دار الإسلام، وبينه وبين منكر عدم وجود دار إسلام ووجود طواغيت ظلمة مغتصبين لسلطان الأمة.
فالمنكر حين يقع من الحاكم، خليفة المسلمين، يعالج بحسب درجة المنكر، فالخط العالم هو الصبر عليه مع المحاسبة وإن أخذ الأموال وجلد الظهور. أما إذا أتى بالكفر الصراح أي الكفر الذي أقيمت عليه البيّنة القاطعة كالحكم بغير ما أنزل الله كفراً وجحوداً، وبعد حكم قاضي المظالم بذلك، فلا يكون هناك سمع ولا طاعة، بل يجب على المسلمين التغيير عليه باليد أفراداً وجماعات.
هذا في حق خليفة المسلمين، أما الواقع الذي نحياه اليوم، فيختلف عن واقع وجود خليفة للمسلمين ونظام الإسلام مطبق، ودار الإسلام لها وجود، فالواقع اليوم هو اغتصاب طواغيت ظلمة للسلطان من الأمة. فالله سبحانه وتعالى أعطى الأمة سلطاناً بأن تقطع يد السارق وترجم أو تجلد الزاني وتحمل الإسلام رسالة للعالم بالدعوة والجهاد، وهكذا جميع أحكام الإسلام، فالأمة هي المخاطبة بتنفيذ الأحكام في العبادات والمعاملات والعقوبات والمطعومات والملبوسات، ولها سلطان التنفيذ، إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل طريقة التنفيذ أن تعطى الأمة هذا السلطان إلى من ينوب عنها فيه، فإن هو قصر فبالإضافة إلى إثمه تأثم الأمة إن سكتت عليه ولم تحاسبه، لأنها هي المسؤولية عن تنفيذ الأحكام، وجعل الله خليفة المسلمين ينوب عنها في ذلك. فاغتصاب هذا السلطان في دار الإسلام، وقع الخلاف بين الفقهاء في معالجته بين من يتبنى قتال هذا المغتصب، وبين عدم قتاله درءاً للفتنة. وتعرف هذه المسألة بمسألة «ولاية المتغلب» وهي بحث فقهي غير هذا الواقع الذي نبحثه ألا وهو «اغتصاب طواغيت ظلمة للسلطان من الأمة».
ولبحث هذا الواقع، أولاً لا بد من إدراك أن الخلافة عقد شرعي بين الأمة وخليفة المسلمين، وموجبات هذا العقد أن يحكم خليفة المسلمين بالإسلام ويحمل الإسلام رسالة للعالم بالدعوة والجهاد، ويحمل الأمة على ذلك إن هي أبت، وعلى الأمة السمع والطاعة أبداً، والمحاسبة، والخروج عليه بالقتال عند الإتيان بالكفر البواح. هذه هي موجبات العقد، والعقد بين طرفين: بين الأمة والخليفة، فمن الخطأ تطبيق هذا العقد بموجباته بين الأمة وهؤلاء الطواغيت الظلمة مغتصبي السلطان، لأنه ليس هناك عقد من الأساس يلزم الطرفين. بل أن تطبيق موجبات العقد عليهم يضفي عليهم نوعاً من الشرعية.
إن هذه الحالة مثلها مثل من يسكن في دار تملّكها غصباً ثم تأتي إليه وتطالبه بدفع الأجرة بحسب عقد الإجارة وعلى هذا فواقع هؤلاء الطواغيت الظلمة هو واقع «المغتصب» فهم مغتصبون السلطان من الأمة، وهذا واقع غير واقع إقامة دولة الخلافة، وغير واقع الجهاد، وغير واقع الحكم بغير ما أنزل الله, وغير واقع خليفة المسلمين، فهذا واقع «اغتصاب ومغتصبين» ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» وحديث: «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرَضين» وحديث: «من أخذ من الأرض شيئاً» ليس وصفاً مفهماً حتى يكون خاصاً به مخرجاً خلافه بل هو من قبيل النص على فرد من أفراده لأنه لا مفهوم له، ولذلك كان قوله: «يطوقه يوم القيامة من سبع أرَضين» وقوله: «خسف به يوم القيامة إلى سبع أرَضين» دليلاً على أنه يعذب عقاباً على غصبه عذاباً مغلظاً، وهذا يعني أن تغلظ العقوبة على الغاصب. وقد عد بعض الفقهاء الغصب من الكبائر. أما الدليل على مقاتلة الغاصب لمنعه من الغصب واسترداد المغصوب فهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاء جل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطيه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال هو في النار»، فالحديث يدل على جواز القتال لمغتصب المال، ولم يقع الخلاف إلا في القدر الذي يقاتل من أجله، فالمالكية لا ترى جواز القتال في القدر اليسير، ولا خلاف في المال الكثير والشيء العظيم، بل أن البعض حمله على وجوب القتال وإنما قيل بالجواز وليس بالوجوب لأن طلب المقاتلة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «قاتله» وأن اقترن بقرينة تدل على الوجوب وهي قوله: «فأنت شهيد» وفي رواية أخرى: «فإن قتلت ففي الجنة»، يعتبر طلباً غير جازم لأن هناك قرينة تمنع من الجزم وهي أن لمالك المال أن يسامح الغاصب بماله، وهذا يعين أن له أن لا يقاتله ويترك ملاه، ما يتنافى مع الجزم، ولذلك كان الحكم بجواز المقاتلة وليس بوجوبها. وعلى هذا يكون على هؤلاء الطواغيت الظلمة المغتصبين رد ما اغتصبوه للأمة، وأن تغلّظ عليهم العقوبة على الغصب، وجائز، وإن كان ليس بواجب، قتالهم وقتلهم من أجل ذلك ومن باب الاغتصاب وليس من باب الحكم بالإسلام أم عدمه، وليس من باب إقامة دولة الخلافة، وليس من باب أنهم ولاة أمر أتوا بكفر بواح. وإذا كان من باب تغيير المنكر باليد فلا بد من توفر الاستطاعة حيث أن الاستطاعة شرط، فإن لم توجد الاستطاعة يُسعى إلى إيجادها وتوفيرها.
فيجب إدراك أن التغيير على حاكم المسلمين إذا أتى بكفر بواح أو صراح – أي لا شك فيه بالدليل القطعية – يكون باليد حال وجود الإسلام مطبقاً كاملاً، أي حال وجود المسلمين ي دار الإسلام. أما في حالة غياب دار الإسلام بغياب دولته وتطبيق أنظمة غير أنظمته، فالمصيبة أعظم، إذ ليست القضية قضية حاكم يحكم بغير ما أنزل الله في دار الإسلام بل القضية هي غياب هذه الدار بالكلية. فالإسلام أوجب طاعة الحاكم الفاجر والفاسق في دار الإسلام وجعل الجهاد من خلفه واجباً أيضاً. فالقضية اليوم ليست هي كفر حاكم أو إسلامه بل القضية إقامة دولة الإسلام وداره.
إن حمل الدعوة هو تبليغ الإسلام إلى الكفار بوجه لافت للنظر، وهو فرض من رب العالمين حدد لنا طريقته وجعلها فرضاً. فالله تبارك وتعالى يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ويقول تعالى أيضاً: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ويقول تبارك وتعالى: (أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ويقول تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله… الحديث»، وهكذا الكثير من الأدلة التي تدعو إلى حمل الإسلام إلى العالمين، وطريقة هذا الحمل يجب أن تكون من خلال دولة تنوب عن المسلمين في ذلك وتستنفرهم للجهاد من أجل ذلك فتدخل الأمم والشعوب في دين الله أفواجاً. وأية أفراد أو جماعات قاموا لحمل الإسلام دعوة للعالم دون إدراك أنه لا بد من إقامة دولة الإسلام التي تنوب عن المسلمين وتستنفرهم للجهاد من أجل ذلك، يكونون قد خالفوا الطريقة الشرعية التي حددها الله لحمل الإسلام دعوة للعالمين. ويجب التفريق بين دعوة الأفراد للإسلام إبتداءاً وبين حمل الدعوة للعالم. فإذا كان المسلم في وسط غير المسلمين فعليه أن يدعوهم للإسلام وإذا أسلموا فجيب أن يعلمهم أن الله فرض عليهم حمل الإسلام دعوة للعالم بإقامة دولته. ولا يقال أن الإسلام انتشر في كثير من البلدان عن طريق التجار المسلمين بل الصحيح أنه انتشر نتيجة جهد هؤلاء المستند إلى دولة تملأ الدنيا نوراً وتشرئب إليها الأنظار مهدت الطريق أمام هؤلاء التجار، بل والأهم إدراك الناس إن وراء هؤلاء الدعاة دولة على أتم استعداد لتسيير الجيوش ودك الحصول إذا مست شعرة من هؤلاء التجار أو حيل بينهم وبين الدعوة.
أمّا ما يقوم به البعض الآن من جماعات تسافر إلى بلاد الكفار لدعوة الناس أو إقامة حملات طبية وتعليمية، أو إقامة تكتلات تسعى إلى الإصلاحات الجزئية والتدريجية معتمدة على إصلاح الأفراد، والانخراط في أنظمة كافرة بحجة إصلاحها، فبالإضافة إلى فقدانهم فكرة الإسلام وطريقته، أو عدم ربطهم فكرة الإسلام بطريقته، فهذا مع الأسف ومع حسن نية هؤلاء، لا يرضي الله ورسوله ولا يرفع الإثم عنهم وعن المسلمين. بل هو، على العكس، منافٍ لقول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي… ) وذلك باتباع أساليب وطرق لا تمت إلى فكرة الإسلام وطريقته بشيء، وتعتمد على وجهة النظر الغربية في الواقعية والحل والوسط ونظرتها إلى المجتمع على أنه مجموعة أفراد، وليست وجهة نظر الإسلام الذي يرفض الواقع ويسعى إلى تغييره وعدم التكيف معه، ولا يعتمد الحل الوسط لأنه ليس هناك وسط بين الإسلام والكفر، ويرى أن المجتمع مكوّن من أفراد وعلاقات ناشئة عن أنظمة، ولا صلاح للأفراد إلا بصلاح الأنظمة، واقعه بذلك فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «لن تقوم الساعة حتى تتبعوا سَنَنَ من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة والباع بالباع، ولو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه. قال: اليهود والنصارى قال: فمن».
وليد عبد الوهاب المصري
1995-01-31