أميركا تريد أن تبدل دين الله (1)
1995/03/31م
المقالات
1,739 زيارة
بقلم: أحمد المحمود
إن أميركا دولة استعمارية، وما من شك في ذلك. وهي تعتبر أن منطقة الشرق الأوسط واقعة ضمن مصالحها الاستراتيجية، وأنه لا يمكنها التهاون في أمرها، وتركها لمصيرها، بل إن مصلحتها تقتضي صياغة المنطقة صياغة تجعلها تمسك بها بقوة لا تفلت من يدها، وتنافسها في ذلك الدول الأوروبية. لذلك ما رأت أميركا أن مصالحها في المنطقة مهددة، وأنها مرشحة للخروج منها، بعد انتصار العراق – الذي كانت أوروبا تقف وراءه – على إيران، قررت أن تأتي بنفسها لتضع المنطقة تحت سيطرتها، فاستدرجت صدام حسين – الذي كان يتوق لأن يعلب دور الشرطي في الخليج، ولأن يتبوأ مركز الزعامة في المنطقة، والذي كان أداة طيعة في يد أوروبا، وعلى رأسها بريطانيا – استدرجته للدخول إلى الكويت لتتخذ من ذلك ذريعة حية تستطيع بواسطتها الإمساك مباشرة بالمنطقة التي كادت أن تفلت منها، وهذا الذي حدث فعلاً. لقد أتت أميركا بحجة أنها تريد دفع العدوان، وردع المعتدي، وإقامة العدل، ونصرة الدول الضعيفة، والمحافظة على السلام. ووضعت المنطقة كلها تحت سيطرتها العسكرية حيث استقدمت نصف مليون جندي أميركي، لا لتحقق ما ادعته، بل لتصوغ المنطقة كلها صياغة تتناسب مع مصالحها، ولأمد بعيد، لذلك فإن وجودها مرشح للاستمرار إلى أن تتمكن من فرض ذلك.
وبعد أن تمت لها السيطرة المادية انتقلت للبحث في كيفية تحقيق السيطرة الفكرية. فطلبت من الباحثين والمفكرين والخبراء لديها أن يضعوا دراسات مستفيضة عن المنطقة وأهلها وتوجهاتهم، وكيف ينظرون للغرب، وإلى ماذا يتطلعون، وكيف ينظرون إلى حكامهم و…، وطلبت منهم كذلك أن يقترحوا عليها الخطط التي تمكنها من السيطرة لتتبنى منها ما تراه مناسباً، وهكذا كان، فقد كثرت الدراسات والآراء والاقتراحات التي تحدثت عن أن شعوب المنطقة تعاني بغالبيتها فقراً يمنعهم من الحياة الكريمة التي يتطلعون إليها، وأنهم ينقمون على حكامهم لأنهم بنظرهم هم المسؤولون عن أوضاعهم المادية السيئة، ولأنهم ظالمون ومجرمون بحقهم، وينقمون على الغرب لأنهم يرون أنه هو الذي يقف وراء هؤلاء الحكام، وينظرون إلى دول الخليج على أنها تسقهم وتحرمهم حقهم من تلك الثروات الطائلة التي يصرفونها على ملذاتهم التافهة، بينما هم محرومون من أبسط وسائل العيش، وكذلك رأت هذه الدراسات أن هذا الوضع الشيء ألجأ الناس إلى دينهم، حيث راحوا يرون فيه الملاذ الوحيد الذي يعدهم بالتخلص من كل هذه الأوضاع، ويعيد إليهم كرامتهم التي امتهنت، ويحسن أوضاعهم المادية والمتردية، وهذا ما أوجد حالة إسلامية عامة، يرى الناس فيها عامة الخلاص.
ثم إن هذه الدراسات اقترحت الخطط المواجهة هذه الحالة قبل أن تستشري. وكان على أميركا أن تتبنى خطة متكاملة متعددة الجوانب، تمكنها من السيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية الطويلة الأمد، والتي تطول بمقدار ما في المنطقة من ثروات. وإننا حين نتكلم عن أميركا لا يغفل نظرنا عن أوروبا التي ينطبق عليها ما ينطبق على أميركا، فهي تنتظر الفرصة السانحة ليكون الأمير بيدها، لا بيد غيرها.
ونحن الآن لسنا في صدد تحليل سياسي، يتناول خطة أميركا في المنطقة، وإنما ما يهمنا هو أن نسلط الأضواء على موقف أميركا من الإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن رأت أن هناك صحوة إسلامية تجتاح المنطقة، ولقد بسطنا هذا الكلام ليكون مفهوماً المنطلق الذي تنطلق منه أميركا في استغلالا الإسلام والمسلمين، ولنفهم جيداً حقيقة ما يطرح على أرض المسلمين من فتاوى مفصلة على قياس مصالح أميركا، لا تمت للإسلام بصلة. وكلامنا هذا، ليس للعرض فحسب، ولكن ليحذر المسلمون العاملون على مختلف مستوياتهم مما يكاد لهم، وليعلموا خطورة الانجراف وراء المخطط المرسومة، فالتحذير والإنذار يأتي بعد البيان الواضح قال تعالى: (هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه…ِ). ولنعرض أولاً ما أعلن على لسان المسؤولين الأميركيين، ثم ما جرى على أرض الواقع من مواقف سياسية للحكام، وفتاوى دينية للعلماء، تصب كلها في مجري السياسة الأميركية التي تسعى لاستعمار المنطقة كما أسلفنا.
لقد تكرر القول على لسان أكثر من مسؤول أميركي، وفي أكثر من مناسبة: إن المحرمات الموجودة في منطقة الشرق الأوسط يجب أن تتغير وتتبدل. وهذا الكلام يعني الأفكار التي كانت سائدة بين شعوب المنطقة، من كون إسرائيل دولة يجب القضاء عليها، أو شعار (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف) من شعوب المنطقة بإسرائيل، أو أن إسرائيل دولة مغتصبة، أو أنه يحرم التعامل مع إسرائيل، أو أنه لا لقاء بين المسلمين وإسرائيل إلا في ساحات القتال. كل هذه الأفكار السائدة يجب الانتهاء منها إلى ما يقابلها من أن إسرائيل دولة شرعية ومقبولة في المنطقة، وأنه يجب إنهاء حالة العداء معها وإقامة علاقات طبيعية بينها وبين شعوب المنطقة. وبعبارة أخرى فإن أميركا تسعى إلى فرض خطة جديدة تصوغ فيها المنطقة صياغة تناسب مصالحها. وهذه الخطة تقتضي فيما تقتضي، أن تكون إسرائيل دولة مهمة في المنطقة، وأن تقوم علاقات طبيعية بينها وبين دول المنطقة، وأن تربط هذه الدول مع بعضها بسلسلة من المشاريع الاقتصادية المشتركة، بل وتربط إسرائيل مع غيرها من الدول بأحلاف سياسية وعسكرية. وهذا الوضع الجديد الذي تسعى أميركا إلى فرضه لا بد من أن يكون له أعداء ومعارضون، وقد خلصت أميركا إلى أن المعارض الحقيقي لمشروعها الذي سمته مشروع السلام هو العدو لمصالحها.
وصرح كلينتون إثر التوقيع على معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل بأن هذا العدو يتمثل في الأصولية الإسلامية. وهذا ما أشار إليه دجيرجيان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط في محاضرة له في 20/06/92 أعلن فهيا سياسية أميركا في المنطقة، ونظرتها إلى الإسلام، وكان يعبر بذلك عن سياسة دولته حيث قال: إن الإسلام دين عالمي، وله حضارته، وإن بلاده تحترمه، وأن المسلمين العاملين هم فريقان، فريق لا يقبل بالرأي الآخر – ويقصد أنه لا يقر ولا يعترف بالديمقراطية – وهؤلاء هم أعداونا، وفريق يقبل العيش والتعايش مع الآخرين – أي يقبلون بالديمقراطية – وهؤلاء لا مشكلة معهم، ويمكن التعامل معهم.
بسطت هذا الكلام ليكون مفهوماً الواقع الذي قيلت فيه هذه الكلمة الخطيرة التي لا يجوز للمسلمين وخاصة العاملين أن لا يعوا أخطارها وأبعادها، وهي قولهم إن المحرمات السابقة يجب تغييرها واستبدالها بمحرمات جديدة. إنه قول جلل يجب أن يلقي له المسلمون كل بالهم.
ونكرر القول إننا لسنا بصدد تحليل سياسي، وإنما ما يهمنا هو تناول الموضوع من زاويته العقائدية أولاً، ووعي علماء المسلمين وحركاتهم على ذلك ثانياً حتى لا يسيروا على غير هدى من الله.
إن عملية التحليل والتحريم عند المسلم هي لله حصراً، وإن طريق معرفة حلال الله من حرامه هو الكتاب والسنة، لا أميركا، وإن هذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، بل هو من الأسس التي يقوم عليها الإسلام وبدونها ينهار بناء الإسلام فشاهدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تقتضي إفراد الله في العبادة والخضوع والتشريع، وإفراد الرسول بالتأسي والاتباع. وإن الخروج عن ذلك اعتقاداً هو خروج عن الإسلام وكفر، بينما الخروج عنه عملاً دون الاعتقاد هو إثم عظيم، وهو في الحالتين منكر. فالله في اعتقاد المسلمين هو الخالق العليم والمدبر، الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلح له، وهو الذي يشرع وأمر التشريع لم يترك للإنسان لأنه عاجز وناقص ومحتاج وضعيف ومحدود. فكما أن لله الخلق وحده كان له الأمر وحده. فالإيمان بالله المدبر ناشئ من الإيمان بالله الخالق، والمسلمون مأمورون بتبليغ ذلك للناس أجمعين، ومأمورون بالعمل على إدخالهم في الإيمان طوعاً وعن قناعة، أما بالنسبة لتدبير فإنه يجب أن يكون لله وحده، ويشمل مسلمهم وكافرهم، فنحن مأمورون بأن نحمل الشرع الإسلامي للناس عن طريق الجهاد لمن لم يقبله ليكون الدين كله لله. ويبين ذلك كثير من آيات الله الكريمات التي يجب أن تُقرأ بروية وتمهل، وأن نتدبر معانيها لما فيها من إشارات واضحات توضح سبيل الإسلام موقفه من الأديان والمبادئ الأخرى. قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وقال: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ @ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ @ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ @ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
إن المطلوب في هذه الآيات التي تشكل مع بعضها موضوعاً واحداً هو أنه يجب على المسلمين أن يجعلوا دين الله هو المسيطر الغالب الظاهر المهيمن في العالم، أن يجعلوه ظاهراً على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، والذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.
وقد روى الترمذي وأحمد بن حنبل وابن جرير: قدم عدي المدينة، وكان رئيساً في قومه طيء. وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال فقلت إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فتلك عبادتهم إياهم… ».
وهذه الآية توضح أن العبادة هي اتباع التشريع كما فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية لهم، بل اعتبروا أن الأحبار والرهان مشرعين وتلقوا منهم تشريعاتهم بالاتباع، فقبول التشريع وطاعته واتباعه يعتبر عبادة. فالإسلام، دين الحق، لا يقبل من المسلمين إلا اتباع شرع الله وحده، بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، وهذه الآيات. وهذا الحديث فيها وصف لواقع ما كان عليه اليهود والنصارى، وفيها تحذير لنا من ذلك، وتبين الآيات اللاحقة بأن تشريع الآخرين هو إطفاء لنور الله بأفواههم، والله سبحانه يأبى إلا أن يكون نوره تاماً يعم البشرية جمعاء، لذلك أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هذه ألقيت على عاتق ورثة النبوة، العلماء الأتقياء الشعث الغبر، الذين لا يعلو عندهم على صوت الحق صوت، أولئك القائمين على الحق الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله – والله وعد وصدق وعده على لسان رسول صلى الله عليه وسلم حين قال: وهم ظاهرون – والمؤيدون من الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، والذين لا يتلونون ولا تتلون أحكامهم فتميل مع أهواء وشهوات الحكام ومن وراءهم.
(يتبع العدد القادم).
1995-03-31