أسامة مطر
يثار في الوقت الحاضر في العالم الإسلامي ما يسمى بمسألة التجديد في الفكر الإسلامي، ويطال هذا التجديد عند البعض إضافة إلى التصورات الإسلامية الفكرية والفقهية ككون العالم منقسم في الإسلام إلى دارين دار إسلام ودار كفر، وككون اليهودية والنصرانية منذ بعثة محمد وغلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ديانات كفر، يطال بالإضافة إلى ذلك مباحث أصول الفقه، ويستند دعاة التجديد في دعوتهم إلى الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها»، وهذا الحديث لا يجوز أن يفهم أو يحتج به بعيداً عن النصوص الشرعية الأخرى المعلقة بهذا الباب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «… وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فقد حصل عند المسلمين – وعلى وجه الخصوص في هذا العصر من جراء سيطرة مفاهيم الغرب – خلط بين مفهومين تناولهما الإسلام بالبحث، وهما مفهوم التجديد ومفهوم الابتداع، فالتجديد هو مما أقره الإسلام ودعا إليه، أما الابتداع، فقد نهى الإسلام عنه واعتبره ضلالة، والفرق بين المفهومين يتضح بمراجعة الأحاديث التي في الباب، ونكتفي هنا بما أسلفناه من حديث التجديد وأحاديث الابتداع.
مفهوم الابتداع:
البدعة في اللغة هي الإتيان بشيء على غير مثال سابق، قال تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ) أي لست أول رسول بل قد سبقني من قبل رسل كثيرون، والبدعة في الشرع هي الإتيان بشيء على غير مثال سابق في أمر من أمور الدين، وهذه نوعان بدعة في الاعتقاد قد تصل بالمرء إلى الخروج عن ملة الإسلام، كمباحث الصفات عند بعض أهل الكلام، وكالقول بألوهية علي أو تناسخ الأرواح كما هو الأمر عند بعض الفرق الضالة من غلاة الشيعة، وبدعة في الشريعة يأثم المرء إن قام بها وقد توصله إلى الكفر إن اعتقدها، وذلك كالبدع التي في العبادات مثل شد الرحال إلى غير المساجد الثلاث، أو إحياء أعياد الكفار بالذكر والتسبيح وكتحديد فترة لخلافة الخليفة والقول بجواز تعدد دول الخلافة. والنوعان على ضربين: إثبات وإنكار، فمن أثبت أمراً مما لم يثبه الإسلام فقد ابتدع، وهذا المعنى هو الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، ومن أنكر ما أثبته الإسلام فقد ابتدع وهذا المعنى متضمن في قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )وقوله: (… وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)، فإن الكتاب كاملاً والرسول مما أثبته الإسلام فمن أنكره أو أنكر جزءاً منه فقد ابتدع.
مفهوم التجديد:
أما التجديد فإن الإسلام لم يقصد به مطلقاً الإتيان بجديد، والرسول عليه الصلاة والسلام قد استعمل اللفظ الدال بدقة عن المراد من أنه إحياء ما مات، وبناء ما اندرس، وإزالة ما زاد، فقد قال “يجدد” ولم يقل “يأت بجديد”، وفرق بين اللفظين، فالتحديد يعني أن الأمر كان من قبل جديداً، ومع مرور الوقت طرأ عليه نقصان أو زيادة كذهاب اللون عن الأجسام وعلو الغبار والأوساخ عليها فإذا أردنا تجديد هذه الأجسام فليس معنى ذلك أن نأتي بشيء لم يكن قد وجد سابقاً، إذ هذه إضافة، إنما يكون التجديد بإزالة الغبار والأوساخ مما زاد على الأجسام. والأمر في الإسلام هو من هذا القبيل فقد أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكمل وبلغه الرسول بكماله كما جاء به الوحي، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وقال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ).
وكان إذ ذاك جديداً نقياً صافياً كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجة البيضاء» وقال: «والله لقد جاءتني بيضاء نقية» ومع طول الأمد ومرور الأيام طرأت البدع زيادة ونقصان فكان لا بد من تنقيته أي الإسلام كل فترة من الزمن مما شابه من أدران عقدية وشرعية، وإعادة ما أسقط منه وهذا هو التجديد الوارد في الحديث «يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها».
هذا فيما يتعلق بمفهوم التجديد جملة أما التجديد في أصول الفقه فهي دعوة محدثة جداً، وسنحاول وضع هذه الدعوة في كفة مفهوم التجديد الذي أقره الإسلام لنعرف رصيد هذه الدعوة من المصداقية.
لقد عرفنا في العدد السابق من المجلة بعلم الأصول وبينا حدة، وهو يدور على محاور أربعة:
-
الحكم ومتعلقاته.
-
أحوال المجتهد والمقلد.
-
دلالات النصوص.
-
مصادر التشريع.
فالمحاور الثلاثة الأولى لم تكن موضع بحث بالنسبة لدعاة التجديد، إذ هذه المحاور يصعب التلاعب فيها والابتداع وهي باستثناء مبحث الحاكم لا تؤثر بشكل أساسي على الحكم الشرعي فالوجوب والحظر والإباحة، وكون الناسي والمكره والصبي ممن لا يكلف ومباحث السبب والشرط والعلة، وصيغ الأمر والنهي والعموم والخصوص، ومفهوم الموافقة والمخالفة وصفات المجتهد، وكيفية التقليد وما شابهها من مباحث مندرجة تحت هذه المحاور الثلاثة لا تؤثر مباشرة على كون الحكم شرعياً أم غير شرعي. وأما المحور الرابع فقد كان هو مجال دعاة التجديد إذ دعا هؤلاء إلى التوسع في مفهوم بعض مصادر التشريع من المتفق عليها والمختلف فيها.
إن المنطق الذي يسيطر على دعاة التجديد، ونلمسه في كتابتهم هو منطق تطويري توسيعي، وليس منطقاً تجديدياً. يقول أحدهم [وفي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن نؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة، لكن تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نتلمس فيه الهداية لم يعد مناسباً للوفاء بحاجاتنا المعاصرة حق الوفاء لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث]، وهذا الذي ذكر هو أبعد ما يكون عن مفهوم التجديد الذي بيناه لأنه لا يكتفي هنا بما كان عند المسلمين من أصول فقه بحجة عدم الكفاية، ومقصده بأصول الفقه هنا مصادر التشريع لأنه يدعو بعد ذلك إلى التوسع في المصادر، وفي مفهومها حتى يتسنى للمسلمين معالجة المشاكل المستجدة.
والصحيح أنه لا يتأتى التطوير ولا التوسيع في مصادر التشريع لأن التشريع مرجعه إلى الوحي، وعندما بحث المسلمون في المصادر حين أوجدوا علم الأصول كانت غايتهم حصر الطرق المؤدية إلى معرفة الوحي، أو بعبارة أخرى كان مقصدهم معرفة ما هو الوحي، حتى لا يأخذوا أحكامهم عن غير ما جاء به الوحي.
والوحي هو هو لم يتغير ولم يتبدل منذ توفى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما عرفة منه علماؤنا السابقون هو ما نعرفه اليوم، فكيف يمكن أن يدخله التطوير والتوسيع، ثم إن المسلمين قد عاشوا حياتهم الإسلامية المنضبطة بأحكام الإسلام في كل مجالاتها وسدت حاجتهم، دون هذا التوسيع والتطوير.
ولنضرب مثلاً عن كلام هؤلاء في الدعوة إلى التوسع في مفهوم القياس والإجماع:
-
القياس: يقول أحدهم [فالقياس كما أوردنا تعريفاته وضوابطه في أدبنا الأصولي لا بد فيه من نظر حتى نكيفه ونجعله من أدوات نهضتنا الفقهية، وعبارة القياس واسعة جداً… وتشمل المعنى الفني الذي تواضع عليه الفقهاء من تعدية حكم أصل إلى فرع بجامع العلة المنضبطة إلى آخر ما يشترطون في الأصل والفرع ومناط الحكم…، ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبيين أحكام النكاح والآداب والشعائر، لكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها لها مناطقة الإغريق واقتبسها الفقهاء بالضبط في الأحكام الذي اقتضاه حرصهم على الاستقرار والأمن خشية الاضطراب والاختلاف في عهود كثرت فيها الفتن وانعدمت ضوابط التشريع الجماعي الذي ينظمه السلطان]، ثم يتابع ليبين نوع هذا القياس الذي يدعو إليه ويريد أن يقيمه بدل القياس التقليدي المعقد، فيقول [ولربما يجدينا أيضاً أن نتسع في القياس على الجزئيات لتفسير طائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة، وهذا فقه يقربنا من فقه عمر بن الخطاب t لأنه فقه مصالح عامة واسعة لا يلتمس تكييف الواقعات الجزئية تفصيلاً فيحكم على الواقعة سالفة بل يركب مغزى اتجاها سيرة الشريعة الأولى ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة].
هذا القياس الذي يتحدث عنه ليس له علاقة في الحقيقة بالقياس الاصطلاحي عند الأصوليين إلا الاسم، إذ هو خرج بالقياس عن واقعه ومستواه، فأصل القياس في الإسلام وعند الأصوليين هو وجود علل نصبها الشرع وجعلها سبباً لتشريع الحكم المعين المنصوص عليه ليبين لنا أن الباعث على التشريع لم يكن الحكم بذاته وإنما وصف آخر دعا إلى إصدار هذا الحكم، وهو المقصود فإذا وجد هذا الوصف أي العلة في واقع آخر غير المعالج في النص فإنه يتعدى حكم الواقع المعالج إلى الواقع المبحوث له عن علاج أي عن حكم، وعلماء الأصول عندما بحثوا الضوابط التي أوردها صاحبنا ورفضها إنما وضعوها لمعرفة كيف تستفاد العلة من النصوص، فالعلة يجب أن ترد في النص بوجه من الوجوه حتى تعتبر علة شرعية، ويتأتى القياس عليها، ولذلك فإن العلماء لم يخترعوا هذه الضوابط من عقولهم وإنما لاحظوا اللغة العربية والنصوص الشرعية فوضعوا الضوابط التي تبين الوصف الذي يحتوي التعليل والوصف الذي لا يحتويه حتى لا يتم القياس مع كل وصف، تماماً كما فعل النحويون حين درسوا اللغة واستفادوا منها علوم النحو،وعليه فإن هذه الضوابط ضرورية وهي شرعية تستند إلى النصوص وإلى اللغة وصياغاتها، ولا يجوز للمجتهد أن يتنازل عنها بحال من الأحوال بحجة أنها تعيقه في استنباط الأحكام، لأن المقصود هو استنباط أحكام الشرع لا أي أحكام، والاجتهاد يقتضي بذل الجهد لا الراحة. ثم إن العلل التي وردت بها النصوص لم تكن علل عامة بل علل جزئية، فكيف يجوز لنا طلب العلل العامة وهي لم ترد في النصوص، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما يقول: «أينقص الرطب إذا يبس» فإنه إنما يبين العلة في هذه المسألة الجزئية ولا يتحدث هنا عن علل عامة غير مضبطة.
لذلك فإن هذه الدعوة هي في حقيقتها هدم للقياس وإتيان بقياس جديد لم يكن معروفاً عند المسلمين من قبل مطلقاً، فأين هذا من التجديد.
-
الإجماع: يرى أصحاب الدعوة التجديدية في أصول الفقه أن الإجماع من مصادر التشريع التي اختلف في حدها المسلمون، وإن اتفقوا فيها من حيث المبدأ، وهم لا يقولون بأي رأي كان من الآراء السابقة عند المسلمين بل يريدون التوسع بمفهوم الإجماع ليشمل الاستفتاء الشعبي والرجوع إلى عموم الناس عند البحث عن مسألة شرعية من قبل الحاكم المسلم، وهم يشبهونه بما عند الغربيين من تشريع يستند إلى الشعب. [والتقدم التقني اليوم يمكننا – لا كالسابق – من معرفة إرادة الناس بسرعة ويسر فكان لا بد من تطوير مفهوم الإجماع الذي اصطلح عليه المسلمون سابقاً من أنه إجماع المجتهدين أو العلماء إلى إجماع الشعب]، وهذا الرأي يعني فيما يعنيه جعل الشعب مصدراً من مصادر التشريع، وهو ما لا يرضاه الإسلام لأن التشريع في الإسلام يستند إلى الوحي لا إلى الشعب، فكان هذا النوع من التجديد هو زيادة على الإسلام وليس تنقية ولا تتميماً كما هو الواجب في التجديد، والعلماء السابقون الذين تحدثوا عن الإجماع قال قسم منهم بعدم تصور حصوله، وقال آخرون بأنه لا يكون إلا في الأمور القطعية التي لا يختلف فيها المسلمون فيجمعون عليها، وهذا الإجماع كما ترى لا يستند إلى الناس إنما يستند إلى أدلة من الكتاب والسنة قطعية. وإنه وإن كان الإجماع المعتبر كما يترجح من البحث الدقيق هو إجماع الصحابة لأنه يكشف عن دليل، ولأنه هو الإجماع المتصور الوقوع بل الذي وقع بالفعل، فإن إجماع الأمة كما هو عند البعض لا يجوز أن يعني بحال من الأحوال إرجاع الأمر إلى الشعب أو الأمة لتقرر، فهذا يخالف مفاهيم الإسلام القطعية، ولو كان عملهم من قبيل التجديد لدرسوا مقالات العلماء في ذلك ولرجحوا الرأي الذي يستند إلى الدليل، ولما جاءوا ببدعة جديدة تضاف إلى ما سلف.