التحجيم الأميركي للمنافسين
1995/09/30م
المقالات
3,086 زيارة
بقلم: طالب نصر الله
خرجت الولايات المتحدة الأميركية من شرنقة العزلة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة لصفقة (تشرتشل – روزفلت) التي تعهد بموجبها حكام بريطانيا أن يمنحوا الأميركيين حصة كبيرة من ثروات البلدان الواقعة تحت سيطرة بريطانيا، مقابل تدخل أميركا في الحرب.
ظن الإنجليز أن مهارتهم السياسية ستجعلهم يسخرون الأميركيين لخدمتهم في يعيدونهم إلى سابق عزلتهم – كما حصل عقب الحرب العالمية الأولى – بعد أن يرضونهم بالنزر اليسير. تمحورت المراسلات العديدة بين وزارتي الخارجية في كلا البلدين (التي كشفوها) حول طلب الأميركيين تسديد فاتورة الحساب ومحاولة الإنجليز المماطلة والتهرب من الدفع.
لم تنتظر أميركا طويلاً وقررت وراثة مستعمرات حلفائها الأوروبيين لأنها متفوقة عليهم عسكرياً واقتصادياً، ولذلك توالت بسرعة الثورات والقلاقل والانقلابات العسكرية في مناطق النفوذ وحققت أميركا انتصارات جزئية لكنها لم تفلح كثيراً في سنوات الخمسينات.
مع بداية الستينات، التقط الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية أنفاسهم ووقفوا على أقدامهم، وكان يمكنهم إرجاع أميركا إلى عزلتها لكنهم أساءوا التصرف. بدلاً من ذلك رسمت أميركا سياسة التحجيم لكل المنافسين (القائمين والمحتملين)، وحتى تضمن البقاء على عرش العالم، فإن التحجيم لا يعني القبول بأن تكون أميركا في الطليعة بينما يسير المنافسون خلفها بمسافة ضئيلة. التحجيم الناجح يكون عند إصابة المنافسين بالشلل وفقدان القدرة على الإنتاج في العمل السياسي والاستسلام الذليل للهيمنة الأميركية.
كل رئيس أميركي مع طاقم إدارته منذ أيزنهاور وحتى كلينتون كان لديهم قائمة مهمات تتطلب الإنجاز أبرزها محاولة تحجيم بلد معين أو مجموعة بلدان. التحجيم قد يكون بضربات خارجية (مثل انتزاع منطقة نفوذ من بلد منافس)، أو بضربات داخلية (مثل دعم الإرهاب في داخل البلد المنافس). أدرك الأميركيون منذ البداية صعوبة التحجيم الفوري لبعض البلدان وضرورة التدرج الذكي في إنجاز ذلك، لكنهم في النهاية يصدق فيهم قول ذلك السياسي الألماني [إن أميركا أرادت تحجيم كل شيء فيما عدا نفسها].
أرادت أميركا من الخدعة المسماة (الوفاق الدولية9 – التي توجت بلقاء كيندي مع خروشوف – تسخير الاتحاد السوفيتي في تحجيم أوروبا. في الوقت ذاته أرهقت أميركا الاتحاد السوفيتي بالسباق العسكري المحموم وغزو الفضاء وبالالتزامات الأممية مما قاد إلى تدهور الوضع الاقتصادي. لم يجد حكام الكرملين جماهير تصبر على قلة الزاد لأن السوس الأميركي كان قد نخر نسيج المجتمع السوفياتي، فكان لا بد من (إعادة النظر – البريسترويكا) و(المصارحة – غلاسنوست) على طريقة غورباتشوف… بعدها انهار الاتحاد السوفيتي. ومن المنتظر الآن أن تصب أميركا الجهد على تحجيم روسيا الوارثة الكبرى حتى تفككها.
كان حلم أميركا، ولا يزال، عودة بريطانيا لأن تصبح بلداً صغيراً في جزيرة صغيرة نظراً لخطورتها على سيادة أميركا على الأرض. في عقدي الخمسينات والستينات، كانت أميركا تعتقد أن نزع ممتلكات بريطانيا كفيل بتحجيمها، ولذلك أخرجت عدة بلدان من نفوذ الإنجليز. عندما لاحظ الأميركان مقاومة الإنجليز وإمكانية استردادهم لما فقدوه من خلال جهود عملائهم. قررت أميركا العمل داخل بريطانيا بطريقة ذكية متعاونة مع السوفيات وبعض الأوروبيين.
بدأ العمل حين أسقطت أميركا حكومة (هيث)، وركزت الهجوم على مؤسسة الحكم (الاستخبارات، القصر الملكي، حزبي العمال والمحافظين). وباستثناء الصفوف الأولى من حزب المحافظين، يمكن القول أنها قد اخترقت الجميع (بيرجيسن ماكلين، فيليبي، …الخ).
كادت سكوتلاندا أن تنفصل سلمياً عن بريطانيا في عهد حكومة كالاهان بتشجيع من أميركا. كانت أميركا، ولا تزال، المساند للجيش الجمهوري الأيرلندي الساعي لسلخ شمال أيرلندا عن بريطانيا بالعنف سابقاً، وبالأسلوب السلمي المؤقت حالياً. ولم تنفع احتجاجات الإنجليز في منع اللقاء بين زعيم (شين فين) المدعو آدامز مع كلينتون.
تدعم أميركا بخبث بعض الحركات الدينية النصرانية المتزمتة داخل بريطانيا (المورمون – شهود يهوه) وهؤلاء يدعون في الظاهر في الالتزام بالأخلاق الفاضلة، لكن الصحيح أنهم يهدفون إلى تشجيع المحافظة والرجعية والتقوقع والانعزالية في المجتمع البريطاني لتبقى بريطانيا في حالة تراجع عن الركب الحضاري وهذا فيه تحجيم لبريطانيا. مجتمع بريطانيا المحافظ يمكن جعله ينبذ بسهولة مرتكبي الفضائح الذين تريد أميركا ضربهم (مثل أفراد العائلة المالكة وبعض الشخصيات السياسية المبدعة).
لا يستبعد السياسي وجود يد خفية للأميركيين في طلاق الأميرتين آن ومارجريت وفي انفصال تشارلز عن ديانا. ومن المؤكد طبعاً أن الأميرة سارة قد طلقت من الأمير أندرو بعد ظهور صورتها وفي أحضان عشيقها الأميركي. إذا نجحت أميركا في تدمير سمعة عائلة ويندرسو الأرستقراطية التي تنحدر منها الملكة أليزابيث وفي كشف فضائح بعض العائلات المتنفذة عبر بعض صحف بريطانيا المأجورة، فسيكون ذلك ضربة حقيقية لحكام بريطانيا الحقيقيين. يوجد حالياً عدد محدود من الرجال في حزب المحافظين يحاولون إنقاذ بريطانيا. ولكن يلوح في الأفق احتمال تحجيمها نهائياً عندما يدخل العمالي (توني بلير) إلى مقر رئاسة الوزراء.
إن كبرياء فرنسا التي جسدها ديجول الرافض للتحجيم الأميركي، جعلت أميركا (المخترقة لنسيج المجتمع الفرنسي المهلهل) تتحرك لإسقاطه، وكان لها ما أرادت وخلفه رجل ضعيف بومبيدو، ثم سارت بالتدريج لتنقل الحكم من يمنيين ديغوليين إلى يمينين غير ديغوليين (ديستان) وبعد ذلك إلى اليساريين (ميتران)، ولذلك كان طبيعياً أن يجعل فرنسا تتحجم حسب رغبة أميركا لسنوات طويلة.
الرئيس الديغولي الجديد شيراك يحتاج إلى معجزات لإعادة الأمجاد وستواجه أميركا محاولات تمرده بضراوة ليس أقلها إرهاب الانفصاليين الكورسيكيين.
في كل بلد أوروبي تقريباً، توجد مشاكل قابلة للانبعاث حين تريد أميركا (أسبانيا مع الانفصاليين الباسك، إيطاليا مع المافيا والألوية الحمراء، اليونان مع تركيا وبالعكس… الخ).
طبخت أميركا تجزئة يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وأطالت مشكلة البوسنة والهرسك لتشجيع الانقسامات في أوروبا، ولتوريط عدة بلدان فيها.
البلد الأوروبي الوحيد الذي يفهم أساليب أميركا هو ألمانيا، ولذلك فهو موضوع تحت المراقبة المشددة.
لا تشكل اليابان منافساً حقيقياً لأميركا نظراً لضعفها السياسي والعسكري، لكن الاقتصاد الياباني قد يجلب الأمرين مستقبلاً بمعنى قوة عسكرية مع نفوذ سياسي. ستتزايد وتيرة الهجوم الأميركي على داخ ل ذلك البلد لتفريغ جيوبه عبر ألاعيب كثيرة، وسيسهل تحجيمه. الصين قوية من زاويتين، الناحية العسكرية والكثرة البشرية، حيث أنها الآن في مرحلة البناء الداخلي، لذلك فهي محجمة لنفسها بمحض إرادتها وهذه ليست مشكلة بالنسبة لأميركا. حين تحاول الخروج تبدأ معها المشاكل الحقيقية.
بالحسابات الأميركية البراغماتية المجردة، يبدو للأميركان اقتراب لحظات الانتصار على جميع المنافسين الحاليين بدون حرب وبحلول نهاية القرن، ولذلك لم تكن صدفة أن يكون عنوان كتاب الرئيس الأسبق نيكسون (نصر بلا حرب 1999). ولعل ذلك ما جعل الرئيس وسابقة (كلينتون وبوش) يتفقان على العمل لأن يكون القرن القادم أميركياً. لقد كان جميع منافسي أميركا في جيبها الصغير حين ساقتهم إلى الحرب ضد العراق، والواقع أنهم لا يزالون في جيبها لكن الجديد في السياسة أنهم صاروا يتملمون وهم في داخل الجيب.
لا يوجد لدى أحد من المنافسين العزم على تحديها وجهاً لوجه ولا يمتلكون الجرأة لفعل ذلك. أقصى ما يستطيعونه الإيعاز لدويلة عميلة لتفعل ما يغضب أميركا، وهذا لا يؤثر إطلاقاً عليها.
في حقيقة الأمر، لا تخشى أميركا كثيراً منافسيها الحاليين لأنها تعرف حدود قوتهم وكيفية تحجيمهم. ولكنها تخاف أميركا من قوة منتظرة في المستقبل وهي دولة الخلافة، لذلك فهي تبذل جهوداً هائلة للحيلولة دون قيام هذه الدولة، ولضرب طموحات المسلمين.
1995-09-30