أضواء على مفهوم الديمقراطية
1992/03/31م
المقالات
1,950 زيارة
بقلم: حافظ صالح
الديمقراطية هي أن تمارس إرادتك باختيار رب لك ينظم لك حياتك ويملك زمام أمرك، وأن تمارس إرادتك أو تنيب عنك ربك لاختيار من ينفذ مشيئة هذا الرب فيطبق عليك ما يتخذ من قرارات، وما يضع من تشريعات لتنظيم حياتك كما يشاء. ولك أن تستبدل هذا الرب أو بعض أجرائه حين يبدو عليها التلف أو الضعف أو انتهاء المدة المقررة لهذه الربوبية، والتي يتفق عليها عادة وتتراوح ما بين أربع وست سنوات حسب ما يشرع هذا الرب الجديد لهذه المشكلة.
الإيمان بالديمقراطية يعني أن يتخذوا من مجلس النواب، الكونغرس، مجلس العموم… إلى غير ذلك من أسماء، أن يتخذوا منها أرباباً من دون الله، تحل لهم ما تشاء وتحرم عليهم ما تشاء. وقد تبيح هذه المجالس اليوم ما حرمته بالأمس، أو العكس. وما على الناس إلا السمع والطاعة، وإلا تعرض المخالف للعقوبة التي شرعتها هذه المجالس لمن يخالف أمرها أو يخرج على مشيئتها.
بالأمس كان اللواط محرماً بشريعة من اتخذه الانجليز رباًن ثم رأى هذا الرب المزعوم أن يخفف عن عباده المؤمنين به فأباح لهم اللواط، وأما من اتخذه الأميركان رباً (الكونغرس) فقد كان سباقاً بالتخفيف عن عباده فأباح الزواج بين الذكرين أو بين الأنثيين، كما أباحت أرباب أخرى افتتاح بيوت الدعارة، وحدائق العراة وغير ذلك. وهكذا فإن هذه الأرباب تنظر دائماً فيما يحقق لعبادها رغباتهم ويشغلهم عن النظر في واقع حياتهم، فتضع لهم التشريعات المناسبة التي توافق هواهم.
نعم، إن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب، أي أن الشعب هو الذي يضع “دستوره” أي القانون الأساسي، وكافة القوانين التي تنظم حياة الفرد والمجتمع وتحدد علاقاتهم الداخلية والخارجية. وأما السبيل الموصول على ذلك فهو تمكين الفرد من ممارسة إرادته لاختيار من يمثله بذلك، لاستحالة أن يجتمع الناس كل الناس لوضع الدستور، أو تشريع القوانين. ولذلك كان لا بد من اختيار ممثلين لهم أو نواب عنهم كما يزعمون، ثم يختار هؤلاء النواب من يقوم على تنفيذ ما يشرعون – أي رئيس الدولة – وقد يختاره الناس مباشرة، فيستأجرونه ليقوم بتنفيذ ما يريدون، فعين معه هيئة تساعده على عمله – الهيئة التنفيذية – أي الحكومة.
يوضع القانون الأساسي (الدستور) ويجري عرضه على الناس أو على نوابهم ليقولوا رأيهم فيه، مع أن الناس بعامتهم أو نوابهم لا يستطيعون أن يفقهوا مواد هذا القانون لأنها تحتاج إلى فهم معين، واختصاص في هذا الشأن.
ثم يوضع هذا القانون العام – الدستور – كقاعدة أساسية للهيئة التشريعية أي مجلس النواب لتستنبط منه كافة الأحكام والتشريعات التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، شريطة أن تكون الحريات العامة، بزعمهم، هي المنطلق لهؤلاء النواب عند تشريع الأحكام وسن القوانين، فلا بد من أخذ هذه الحريات العامة بعين الاعتبار.
هذه هي الديمقراطية بلا زيادة ولا نقصان. وهذا هو مجلس النواب الذي يقرر متى يمنح للفرد حق ممارسة إرادته (أي حريته) ومتى يمنعه من ممارسة هذا الحق، وهو الذي يحرم بعض السلع، ويجيز البعض الآخر، وهو الذي يجيز العقد الفلاني، ويمنع عقوداً أخرى، وهو الذي يجيز إنشاء علاقة مع مجتمع آخر، ويمنع هذه العلاقة مع مجتمع غيره. فهو المالك لزمام الأمور جميعها وهو القاهر فوق عباده، ولا تفلت من قبضته شاردة ولا واردة، حتى العلاقة بين الفرد ونفسه والعلاقة بين الفرد وزوجه وولده. أليست هذه هي العبودية المطلقة لمن آمن بها؟
ومن هنا كان مجلس النواب بمنزلة الربوبية، وكان على الناس السمع والطاعة، وهذا واضح جداً حين نطلق على مجلس النواب السلطة التشريعية، ونضع الهيئة التي يختارها لتنفيذ إرادته، وتنفيذ تشريعاته (رئيس الدولة والحكومة) موضع المنفذ لمشيئة الرب. وتطلق عليها الهيئة التنفيذية.
هذا الأمر مسألة بديهية، ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي، ويعيش بشكل جماعات، ولكل فرد في الجماعة حاجات وجوعات فلا بد له من إشباع هذه الجوعات، وتحقيق تلك الحاجات. فإذا ترك له أن يمارس إرادته حسب هواه – أي أن أعطي حريته – فإن من المستحيل عليه أن يعيش في مجتمع أياً كان لأن القوي يأكل الضعيف، وأعني أنه إذا ترك الفرد يمارس إرادته المطلقة ويتمتع بحريته دون قيد أو شرط فإن ذلك يعني الانحدار بالإنسانية إلى الفوضى أو مجتمع الغاب. ولذلك كان على الناس أن يتخلوا عن حق ممارستهم إرادتهم – حريتهم – ويستسلموا لعبودية مجلس النواب يعطي ويمنع كيف يشاء، فلا سلطان عليه لأحد، متخذاً من القانون العام – الدستور – كتاباً مقدساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالرب هو منزل هذا الكتاب، والرب هو شارح هذا الكتاب ومبينه ومفصله بآيات بينات هي القوانين والتشريعات، وهو الذي يحق له تعديله.
هذه هي الديمقراطية، وهذا هو الرب الذي اختاره لتنظيم حياتهم ومعاشهم، وهذه هي شريعته التي فرضها عليهم من كتابه المقدس – الدستور – وآياته المجيدة، المبينة لهذا الكتاب، والمفصلة لمجمله، والمخصصة لعمومه، والمفيدة لمطلقه. وأعني بها التشريعات والقوانين.
أما ما جاء في هذه الآيات، وما استندت إليه من قواعد أصولية مثل الحريات العامة، وأخذ الرأي، وقدسية الحرية الشخصية، وغير ذلك من القواعد فقد كانت ضغثاً على أبالة، ومستنقعاً نتناً غرق فيه ربهم المزعوم حتى أذنيه، حين التزم هذه القواعد، وأمست معالجته لشؤون عباده المؤمنين به تستند إلى هذه القواعد.
فالحريات العامة مثلاً ماذا تعني؟ حينما تكون تصرفات الفرد في حياته مسيّرة بالشريعة التي وضعها ربهم المزعوم – مجلس النواب – يسمح للفرد بكذا، ويحرم على الفرد كذا وحين يحدد أجهزة الدولة، وصلاحية كل جهاز، ومسؤولية كل فرد في هذه الأجهزة فما الذي أبقاه حتى نطلق عليه كلمة حرية.
ماذا تعني حرية الاعتقاد؟ هل يسمح للفرد اعتقاد الديمقراطية، والكفر بها في آن واحد، وهل تسمح الديمقراطية لمن يعمل على إزالة الديمقراطية. فإن كانت حرية الاعتقاد قائمة. فإن ذلك يعني أن تسمح الديمقراطية لمن يعمل على إزالتها. وهذا مناف للحقيقة فإن قيل إنه لا مانع إن اتفقت الأكثرية على إزالتها وتغييرها. نقول إذن إنها فكرة تحمل في طياتها بذور فنائها. فكيف استطاعوا الجمع بين النقيضين، ودمج المختلفين، أم أنها وجه آخر من وجوه الميكافيلية؟!
وإن كان هذا في ما يسمى بحرية الاعتقاد التي لا تتعدى موضوع الإيمان وما يقتضيه العمل بهذا الإيمان، فكيف إذا أنعمنا النظر فيما يسمى حرية التملك أو غيرها من اجتماع وحكم وسياسة واقتصاد، فهل ترك ربهم مسألة لم يضع لها قانوناً؟ أما إن كان قد عالج جميع المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أي نظم جميع العلاقات القائمة بين الناس، فلم يبق مجال إذن للحرية ما دام القانون قد قيد جميع العلاقات القائمة بين الناس. وأما ما ينشأ من علاقات جديدة، ومشاكل حديثة، فهي مسؤولية ربهم أن يضع لها ما يشاء من حلول ولا يترك الأمر للفرد يتصرف حسب هواه.
فأية حرية تعني، وكيف اتخذت تلك قاعدة أصولية، تستنبط منها الأحكام الفرعية؟
وأما حرية الرأي، والالتزام برأي الأكثرية فإن هذه المسالة تحتاج إلى شيء من التفصيل سينشر في العدد القادم إن شاء الله تعالى.
أما حقيقة هذا الأمر واتخاذ مجلس النواب رباً من دون الله فقد قال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) جاء في تفسير ابن كثير، في تفسير هذه الآية قال: (قدم عدي بن حاتم الطائي المدينة وكان رئيساً في قومه طيّ فدخل على رسول الله ﷺ والرسول يقرأ قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) فقال عدي أنهم لم يعبدوهم. فقال رسول الله ﷺ: «بلى، انهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فتلك عبادتهم»).
كما جاء أيضاً في التفسير نفسه: (وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية «استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم»).
ومثل ذلك ورد في مجمع البيان قال: (روي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: «أما والله ما صاموا ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون»)
1992-03-31