درس من السيرة
إن ما حصل في أحد وما بعد أحد يعطينا درسا في أن فهم السياسة الخارجية ضروري للمحافظة على الأمة والدولة ولنشر الدعوة الإسلامية.
يقول الله تعالى في وصف ما حصل في أحد: ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ).
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى نصره على المسلمين يوم أحد ابتداء وذلك حينما أطاع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي حينما قاموا بأسباب النصر فولى الكفار الأدبار بعد ما أصابهم الذعر والهلع رغم أن عددهم كان يزيد عن أربعة أضعاف عدد المسلمين فقد كان عدد المسلمين 700 وكان عدد الكفار 3000 من قريش ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) . ولكن المسلمين عطلوا الأسباب فترك الرماة الجبل إلا القليل منهم رغم أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم المغادرة مهما كانت الظروف وقال لهم : ” إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأنهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم” فرغم هذا الأمر ترك الكثير ن الرماة الجبل فكانت الهزيمة . قال تعالى: ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ).
فالنصر هو بيد الله سبتحانه وتعالى ينصر من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الملك وهو على كل شيء قدير ولكن الله عز وجل جعل للنصر أسبابا لا بد من الأخذ بها وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رغم ثقته بالله عز وجل وأن الله ناصره وحافظه ومعز دينه ومظهره على الدين كله ، رغم كل ذلك فقد كان يأخذ بالأسباب الت يتؤدي إلى النصر ويتوكل على الله عز وجل حق التوكل ليعطينا درسا فإذا أخللنا بالأسباب فلا يحصل النصر ولذلك عندم أخل المسلمون في أحد بالأسباب حصلت الهزيمة رغم وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الناس وأحبهم إلى الله عز وجل.
فقد حصلت الهزيمة وجرح فيه رسول الله ونزل دمه الطاهر وكسرت ثنيته وذلك ليرينا الله عز وجل مدى أهمية الأخذ بالأسباب وأن الأيام دول والحرب سجال يوم لك ويوم عليك وأن لا نهمل الأسباب والأخذ بها .
والهزيمة في أحد كانت من الممكن أن تعصف بالدولة الإسلامية الفتية التي كانت محاطة بالأعداء الذين يتربصون بها الدوائر وكان ممكنا أن تزيل كيان الإسلام نهائيا لولا حنكة الرسول السياسية، فقد كان رسول الله يدرك ما يدور حوله والحاصل أنه بعد رجوع قريش من أحد رأت أنها أخطأت بذلك وقالوا: أصبنا حد أصحابه ( أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. ويقول الزبعري:
فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعدلنا مل بدر فاعتدل
لا ألوم النفس إلا أننا **** لو كررنا لفعلنا المفتعل
وكان اليهود يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين الدوائر وقد بلغتهم هزيمة المسلمين في أحد وفي إرادة قريش العودة إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين ولذلك أخذوا يتربصون للانقضاض على المسلمين ، وقد قالوا لعنهم الله لو كان نبيا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ولكن ، كأي ملك تكون له الدولة وعليه.
وكذلك فإن قبائل العرب المحيطة بالمدينة والتي كانت تنظر ما سيتمخض عنه الأمر بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقريش ، لم تكن تضمر خيرا للمسلمين.
أهمية الأعملا السياسية
كل هذه الأمور كان يدركها رسول الله وهو القائد والمعلم الذي يرينا كيف تكون الحرب وكيف تكون السياسة فأراد أن يظهر لهؤلاء الكفار جميعا قوة المسلمين وأن ما أصابهم هو جرح ولكن الجسم ما زال قويا يستطيع العمل والنصر ورد كيد الأعداء الذين يريدون للإسلام والمسلمين شرا فأراد أن يخيف قريشا المنتصرة والتي هي القوة الرئيسة في جزيرة العرب والتي تقف حجر عثرة في وجه الدعوة ، وقبائل العرب تنظر لقريش نظرة احترام وتقدير. لذلك قرر رسول الله ملاحقة قريش ، قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أ؛د وذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة : وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض:لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم وحدهم وتركتموهم ولم تبتروهم فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.” فلما كان اليوم التالي ليوم أحد أذن مؤذن رسول الله في الناس يطلب العدو، وأن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس” , ويقول ابن اسحاق: ” وإنما خرج رسول الله مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن دعوهم.” قال الله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله الغذ من يوم أحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح وقال تعالى فيهم ( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم، الذين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) فلما سمعت قريش بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافت من ذلك وقالت والله لولا أن محمدا خرج بقوة أكبر من القوة التي لقينا بها في أحد لما تجرأ على اللحاق بنا ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، فولوا الأدبار إلى مكة فتسمعت بذلك قبائل العرب واليهود فهابت المسلمين، وحفظ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدولة والأمة، قال تعالى ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم) وقد أدى هذا الفهم والإدراك إلى الجرأة في الإقدام على الأعمال.
إن ما قام به هو عمل سياسي أدى إلى حفظ الدولة والأمة والمبدأ ثم استطاع إزالة قوة اليهود المتمثلين في بني النضير فقد كان اليهود وبني النضير يتولون الكفار على المسلمين وزعمائهم من أمثال حيي بن أخطب كانوا أشد الأعداء لله وللرسول وكانوا قوة يحسب لها حساب وكانوا يعتقدون أن قوتهم وحصونهم تمنعهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حتى دخل في روع المسلمين أنهم لا يستطيعون إخراجهم ، ولكن خاب ظنهم ، يقول الله تبارك وتعالى واصفا حالهم وحال المسلمين معهم : ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أ،هم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار).
فالوعي على السياسة الخارجية ضروري لحماية الدولة والمبدأ والعمل على نشر المبدأ. ولذلك فرغم مصاب المسلمين في أحد ، فقد قام رسول الله بالإضافة إلى إزالة كيان بني النضير بعملين آخرين مستقلين لحمل الدعوة ونشر الإسلام فقد أرسل ستا من الصحابة رضوان الله عليهم لتعليم الناس أساس الإسلام فغدرت بهم هذيل في الرجيع إلا أن ذلك لم يفت في عضد الرسول ولم يثنه عن المهمة الرئيسة ألا وهي نشر الإسلام فما كان منه إلا أن بعث أربعين من الصحابة لتعليم أهل نجد الإسلام ونشر الدعوة بينهم فاستصرخ عليهم عامر بن الطفيل لعنه الله قبائل العرب فأحاطوا بهم وقتلوهم رضي الله عنهم وأرضاهم فهم أحياء عند رب العالمين.
فهذه أمثلة من السيرة النبوية الشريفة تبين لنا أهمية فهم السياسة الخارجية والقيام بالأعمال التي تحقق حمل الدعوة . وحينما ندرس السيرة إنما ندرسها للعمل بها فهي أحكام شرعية، ولا ندرسها مثل دراسة أي تاريخ لأخذ المعلومات، وإنما هي سنة واجبة الاتباع. ولذلك لا بد من السير على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإقامة دولة الإسلام التي ترعى شؤون المسلمين في الداخل والخارج وتعمل على تطبيق الإسلام ونشر دعوته في العالم. والله ولي المتقين.