صوت من التحرير
لا شكَّ أنّ أُمّةَ الإسلامِ تُكَبِّلُها الأغلالُ والقيودُ، ويلُفُّها ليلُ التخلُّفِ والجمودِ، وتَعيشُ في السُفوحِ والوِهادِ، ولكنّ الأُمّةَ التي حمَلتْ إلى العالَمِ مشاعلَ النورِ، وتعودتْ صُعودَ القِمَمِ، وتذوَّقتْ طَعْمَ العزّةِ والمجدِ، لا يمكنُ أنْ تظَلَّ غارقةً في الظَلامِ، عائشةً في السُفُوحِ والوِهادِ، راضيةً بالذُلِّ والهوانِ. وصوتُ التَحْرِيرِ نداءٌ يهُزُّ أعماقَها، ورايةُ الخلافةِ تنتظرُ مَنْ يَحملُها إلى ساحةِ الجهادِ والأمجادِ.
صوتٌ من التحرير
أَرى أُمّتي تَزْدادُ صَمْتاً مُداجِيا***ولم يَزْدَدِ الأَعْداءُ إلا تَمادِيا
أَراها تُخِيطُ الذُّلَّ ثَوباً وتَرتَدِي***هَواناً مِن الأَعْداءِ تُكْساهُ ثانِيا
وتَدْفِنُ رَأْساً في الرِمالِ لَعلَّها***تُغَطّي مِن السَوْءاتِ ما كانَ بادِيا
وفي كلّ يومٍٍ صَوْتُ عاصِفةٍ بها***نَذِيرٌ مِن الجُلّى يَهُزُّ الرَواسِيا
ونارٌ تُذِيبُ الصَخْرَ مِن لَفَحاتِها***ولَيْلٌ على الأَبْصارِ يُلْقِي الغَواشِيا
أَلَمْ تَرَ أُفْقَ القُدْسِ يَغْرُبُ نَجْمُهُ***ويَلْبَسُ جِلْباباً مِن الحُزْنِ داجِيا
يَغَصُّ أَذانُ الفَجْرِ فيهِ بِعَبْرةٍ***فَتَحْسَبُهُ صَوْتاً مِن النَوْحِ باكِيا
ويَسْتَصْرِخُ الأَقْصى ويَعْلُو نِداؤُهُ***ولم يَلْقَ مِن صَوْتٍ يُجِيبُ المُنادِيا
ومَسْرى الهدى قد لَفَّ صَخْرَتَهُ الأَسى***وعادَتْهُ ذِكْرى الأَمْسِ إِذْ كانَ زاهِيا
وخَفْقُ بُراقِ النُورِ ضَمَّخَ أُفْقَها***وقد جاءَها في اللَّيْلِ بِالنُورِ سارِيا
وعادَتْهُ ذِكْرى الفَتْحِ والقُدْسِ تَزْدَهِي***وزَحْفُ جُيُوشِ النَصْرِ كَالبَحْرِ طامِيا
وقد أَقْبَلَ الفارُوقِ كالطَوْدِ شامِخاً***وكَالصُبْحِ بَسّاماً وكَالشَمْسِ هادِيا
وأَلْقَتْ مَفاتِيحَ المدِينةِ أَهْلُها***لِمَنْ جاءَها لِلحَقِّ والعَدْلِ بانِيا
وظَلَّتْ سَرايا الفَتْحِ تَسْتَشْرِفُ العُلى***لِتَبْنِيَ مَجْداً عالِيَ الأُفْقِ سامِيا
وتَصْرَعُ دَيْجُورَ الظَلامِ مُمَزَّقاً***وتَكْشِفُ عن وَجْهِ الصَبَاحِ الغَواشِيا
وتَهْوِي بِأَرْبابِ العُرُوشِ أَذِلّةً***وتَسْحَقُ طاغُوتاً وتَمْحَقُ طاغِيا
إلى أنْ تَعالى فوقَ كلّ مَنارةٍ***أَذانٌ بِفَجْرِ النُورِ يَهْتِفُ داعِيا
ورَفَّ لِواءُ الحقِّ في كلّ بُقْعةٍ***يُنِيرُ القُرى نِبْراسُهُ والبَوادِيا
كِتابٌ يَبُثُّ النُورَ في الأرضِ هادِياً***وسَيْفٌ جِهادِيٌّ يَصُدُّ العَوادِيا
وأُمَّتُنا الشَمّاءُ جَلَّتْ مَكانةً***وعَزَّتْ رِباطاً بَيْنَها وتَآخِيا
تُبِيدُ ذِئابَ الأرضِ تَصْرَعُ لَيْلَها***وتَخْنُقُ فِئْرانَ الأَذى والأَفاعِيا
وكمْ حَطَّمَتْ أَظْفارَ وَحْشٍ وكمْ لَوَتْ***رِقاباً تَحَدَّتْ بَأْسَها ونَواصِيا
فما بالُها أَضْحَتْ يَباباً رُبُوعُها***مِن العِزِّ والأَمْجادِ والرَوْضِ ذاوِيا
وعاثَ بها الدّاءُ الوَبِيلُ ولم تَجِدْ***لِداءِ مَآسِيها ولِلجُرْحِ آسِيا
وعادَتْ طَعاماً لِلذِئابِ ومَغْنَماً***لِمَنْ جاءَها مِن أَجْبَنِ الخَلْقِ غازِيا
أَذَلُّ عَبِيدِ الأرضِ أُسْدٌ تَصُولُ في***حِماها وتَغْزُو سَهْلَها والرَوابِيا
تَصُبُّ لَظاها حيثُ شاءَتْ مُغِيرةً***مِن البَحْرِ أو في البَرِّ والجَو عاتِيا
ولم تَلْقَ مَنْ يَلْوِي جِمَاحَ غُرورِها***إلى الثَأْرِ سَبّاقاً ولِلعِرْضِ حامِيا
وتَشْمَخُ أَصْنامُ العُرُوشِ وثَوْبُها***مِن العِزَّةِ الخَرْقاءِ قد عادَ بالِيا
وعارُ مَخازِيها يُجَلِّلُ هامَها***فَتَزْدادُ ذُلاًّ صاغِراً ومَخازِيا
وما تاهَ جَبّارٌ بِتَاجِ غُرُورِهِ***على النّاسِ إلا ارْتَدَّ بِالذُّلِّ كاسِيا
وخَرَّ صَرِيعَ الكِبْرِ غيْرَ مُعَظَّمِ***وأَضْحى مِن الأَمْجادِ والعِزِّ عارِيا
جَهَنَّمُ نُمْرُودٍ تَلَظَّتْ وأُخْمِدَتْ***وعادَ لَظاها بعدما شَبَّ خابِيا
وعِزَّةُ فِرْعَوْنَ اسْتَكانَتْ وحُطِّمَتْ***وزُلْزِلَ صَرْحُ البَغْيِ يَنْهارُ واهِيا
فيا مَشْرِقَ الآمالِ مِنْ فَجْرِ أُمَّتِي***تَأَلَّقْ ضِياءً يُرْشِدُ الرَكْبَ هادِيا
ويا حُلْكَةَ الدَيْجُورِ قد أَقْبَلَ السَنا***يُمَزِّقُ لَيْلاً أَرْبَدَ الوَجْهِ غاشِيا
وهذي تَباشِيرُ الصَبَاحِ تَلأْلأَتْ***على أُفْقِها فَاخْتالَ يَبْسِمُ زاهِيا
ودَوّى نَشِيدٌ لِلْخِلافَةِ هادِرٌ***يُنَبِّهُ جَفْناً لِلعُلى كانَ غافِيا
وصَوْتٌ مِن التَحْرِيرِ يَحْدُو رِكابَها***بِأَمْجادِ ماضِيها يُجَلْجِلُ عالِيا
إلى البَيْعةِ الغَرّاءِ يا أُمَّةَ الهدى***رِدِيْ مَنْهَلَ العَلْياءِ رَيّانَ صافِيا
وهُزِّي رُفاتاً في اللُحُودِ مُمَزَّقاً***تَلاشى ومَسْحُوقاً مِن العَظْمِ بالِيا
وضُمِّي شَتاَتَ الضَائِعِينَ بِنَهْضَةٍ***تُعِيدُ بِناءَ الصَفِّ كَالطَوْدِ راسِيا
وتَرْجِعُ راياتُ الجهادِ عَزِيزَةً***وفي القُدْسِ واليَرْمُوكِ تُلْقِي المَراسِيا
الثانيْ مِن جُمادى الأُولى، سابعَ عَشْرةَ وأربعِمِائةٍ وأَلْفٍ.
الرابعَ عَشَرَ مَن أيلولَ، سِتٍّ وتِسعينَ وتِسعِمِائةٍ وأَلْفٍ.