دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية (2)
1997/02/02م
المقالات
1,755 زيارة
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
نشرت مجلة «الصراط المستقيم» الصادرة في أميركا في عددها (59) جمادى الأولى 1417هـ. مقالة بعنوان «العمل السياسي في المجتمع الأميركي» بقلم الدكتور صلاح الصاوي مدير الجامعة الإسلامية المفتوحة في ولاية فرجينيا في أميركا. وقد وصفتها المجلة بأنها «رؤية فقهية تأصيلية تنشر لأول مرة». وقالت المجلة بأن هذه المقالة –الدراسة كانت جواباً عن سؤال بعث به الأستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية. وهو يسأل عن حكم الشرع الإسلامي في: 1- التسجيل للانتخابات لحَمَلَة الجنسيات الأميركية. 2- التصويت في هذه الانتخابات الأميركية. 3- التبرع بالمال والدعاوة لبعض المرشحين في برامجهم وحملاتهم الانتخابية، وذلك بهدف استمالتهم لدعم قضايا الجاليات الإسلامية. )هذا السؤال والجواب كانا بمناسبة الانتخابات الأميركية(.
وقد جاء في خلاصة إجابة الدكتور الصاوي ما يلي: «ولما كان كل من المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة -كما يبدو من السؤال- ظاهراً راجحاً فالذي يترجح لدينا هو القول بمشروعية هذه المشاركة في ضوء الضوابط الشرعية المعتبرة في باب المصالح والمفاسد. ولما كانت الذرائع تأخذ حكم المقاصد، والوسائل تأخذ حكم الغايات فإن القيد في الجداول الانتخابية واستخراج البطاقات اللازمة لذلك مما يندرج في إطار هذه المشروعية».
في ردنا هذا لن نهتم كثيراً بالنتيجة والإجابة التي توصل إليها فضيلة الدكتور الصاوي، فهي معروفة من كل الذين تأثروا وانساقوا مع الحضارة الغربية، ومنهم السائل والمسؤول والمشرفون على المجلة ناشرة المقالة. وإنما الذي يهمنا أكثر في هذا الرد هو النهج الذي اتبعه الدكتور الصاوي في استنباط الأحكام والمصادر التي يستنبط منها، لأن غرضنا هو تنبيه المسلمين، ومنهم كاتب المقالة وناشرها، وتحذيرهم من الزلل والانحراف الخطِر، عن الإسلام، الذي يوصل إليه هذا النهج. (تابع لما نشر في العدد السابق).
أهون الشرين وأعظم المصلحتين:
هذا بخصوص جلب الشريعة للمصالح ودرئها للمفاسد الذي ضمنّه الكاتب قاعدته الثانية، إلا أن هذه القاعدة تقرر أمراً آخر، وهو تحقيق أعظم المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين عند التعارض. ونقول: هذا قد يُقبل أو ينظر إليه على أنه رأي شرعي إذا كان مقيداً بالمعاني التي أوردناها للمصالح والمفاسد، وبقيد آخر وهو التعارض الذي لا مخرج له أو منه، وهو الحالة التي يضطر فيها الإنسان إلى القيام بفعل من اثنين كلاهما محرَّم، ولا يستطيع ترك الكل، أو يضطر إلى اختيار فعل واحد من اثنين مطلوبين بحيث لا يستطيع القيام بالاثنين. وقد تكون حالة التعارض أوسع مما ذكرنا، ولكن ما ذكرناه يفي بالغرض لموضوعنا. وفي العدد (93) من «الوعي» مقال بعنوان (تحريف الدين) هو أكثر تفصيلاً لهذه المسألة.
قال تعالى: (لا يكلف اللـه نفساً إلا وسعها)، وتحقيق التعارض في مثل هذه المسائل هو أن تكون خارجة عن وسع الإنسان، فلا يطيقها، أو يكون محالاً ترك الحرامين أو فعل الواجبين.
فهل المسائل التي أفتى فيها الكاتب من هذا القبيل؟ كلا، وليس فيها رائحة هذا القبيل. فمثلاً: لو سئل المفتي في أمريكا أو أوروبا عن حكم الميتة مثلاً، هل تصح فتواه بأنها مباحة لأن الفقهاء قرروا حكمَ الإباحة في بعض الحالات، وحكمَ الوجوب عندما يتعارض تحريمها مع حفظ النفس؟ هل يصح أن تعمم قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)، فتعتبر أدنى حاجة بمنزلة الضرورة، فتطبق القاعدة على غير واقعها، وربما يعتبر وجع الإصبع ضرورة، وشراء الكماليات ضرورة، والمحافظة على الوظيفة ضرورة، وتنمية المال ضرورة؛ فتباح لأجل ذلك المحرمات، ويباح الحكم بالكفر، وتباح موالاة الكفار بحجة الضرورات والموازنات، ويصبح الاجتهاد هو مجرد موازنات الهوى بين المفاسد والمصالح من غير التفات إلى الشريعة، حتى إذا خالف الاجتهاد نصوص الشريعة، يقال: إن هذا جائز ولو كان فيه إثم لأن لنا مصالح نريد جلبها، وتقع علينا مظالم نريد دفعها!
إن هذا لم يقل به أحد، وما هو بدين، وإنما هو الهوى والطاغوت، لأنه مخالف للشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
حكم الثورة على الحكام:
أما ما مَثَّل به الكاتب من نهي «النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على أئمة الجور لأن مفسدة عصيانهم والخروج عليهم تزيد على مفسدة إعانتهم بالطاعة، فقد يرتكب في فوضى ساعة من المظالم ما لا يرتكب في جور سنين…» فكلام مدخول وفيه ما فيه. فالنبي صلى اللـه عليه وآله وسلم لم ينهَ عن الخروج على أئمة الجور بإطلاق، بل نهى في حالات وأمر في حالات. روى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا رسول اللـه صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من اللـه فيه برهان». ورَوَى أيضاً عن أم سلمة: «أن رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم قال: ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوْا». قال النووي: (إنه لا يجوز الخروج على الخلفاء لمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام)(10). فإذاً، قتالهم في حالة إظهار الكفر البواح جائز بل مطلوب، والنهي عن الخروج عليهم وقتالهم هو في حالة عدم ظهور أحكام الكفر البواح، وفي حالة استمرار إقامة الدين، ولو ظهرت بعض المعاصي. والنهي فُهِمَ من النصوص وليس من المصلحة والمفسدة، وإذا نهى النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم أو أمر فبدَّل حكماً أو خصصه، فذلك لأنه نبي مشرِّع، فلا يحق للخليفة أو المفتي أن يبدِّل أو يخصص، لأنه مأمور بالاقتداء والاتباع وليس بالتشريع. ثم إنه في هذه الحالة قد جاء الشرع يبين كيفية حمل الحاكم على الحق، فشرع النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونهى عن الطاعة في المعصية.
وإن إخضاع هذه المسألة – موضوع المقالة – لقواعد الموازنة لم يثبت، ولم يبحثه الكاتب أصلاً، وهو غير صحيح بالمشاهد المحسوس، فليس هناك ضرورة ليكون المسلم هناك وزيراً أو حاكماً يحكم بالكفر، وينتهك النصوص القطعية الثبوت والدلالة، ولا هناك ضرورة لمساعدة الكفار للوصول إلى الحكم، فهذه كلها مفاسد لأنها منكرات كما عدَّها الكاتب في بحثه.
الدين شرع نهجاً لدفع الضر وجلب الخير:
وإن كان ما يتذرع به الكاتب من مصالح للمسلمين يريد تحقيقها، ومظالم يريد دفعها، شرعياً، فليَسْعَ إلى ذلك بما أحله اللـه:(تلك حدود اللـه فلا تعتدوها). فالطريق الذي شرعه اللـه فيه خير الدنيا وخير الآخرة حتى لو كان صعباً أو غير موصل بتقدير الهوى. والطريق الذي ينتهك الحرمات ويفعل المحرمات هو سبيل الشيطان وتزيينه، وهو مفسدة في أوله وآخره، قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى* قال: ربِّ لـِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تُنسى)، وقال: (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً).
تُرى أين ذهب صاحب الفتوى، بل أصحاب هذه الفتاوى بالنصوص الشرعية المتضافرة من الكتاب والسنة التي تحث المسلم على الصبر على الـمِحن والأذى والبلاء وتحمُّل الفقر والضنك والمكاره في سبيل اللـه، وعدم اقتراف المحرمات أو ترك الواجبات، ولو أدى ذلك إلى ما ذكرناه؟ قال تعالى: (ومن يتَّقِ اللـه يجعلْ له مخرجاً* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على اللـه فهو حسبه). وقال: (لَتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتّقوا فإن ذلك من عزم الأمور). وقال: (إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيمَ كنتم، قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض اللـه واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) وقال صلى اللـه عليه وآله وسلم: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات».
ولا يعني هذا أن لا يعمل المسلم على تغيير ما يقع عليه من أذى وما فيه من بلاء، وإنما عليه أن يعمل بحسب ما أوجب عليه الشرع أو أجاز له، فيسلك الطريق الذي دلت عليه الشريعة لتحصيل مصالحه ولدرء المفاسد والأذى عن نفسه وعن المسلمين، وإلا فما معنى طاعة اللـه ورسوله، وما معنى وجود الشريعة؟
الموازنات التي لها دليل شرعي:
والأمثلة التي أتى بها الكاتب، وأتى بأكثر منها الفقهاء، كدفع المال إلى المتحكم بامرأة ليزني بها بغية منعه من الزنى، وكبذل المال للكفار لافتداء الأسرى، وغيرها، لها أدلتها الشرعية وهي لا تبيح المنكر. وسيأتي تفصيل في هذا إن شاء اللـه. وهاك بعض الأمثلة مما ذكره ابن عبد السلام على الأحوال التي تحصل فيها الموازنة ليدرك القارئ مدى الشطط عند الكاتب في فتاويه، وليدرك أن الأحكام التي يخرج بها ابن عبد السلام بالموازنة هي أحكام شرعية لها أدلتها. يقول: (وإذا اضطر إلى أكل مال الغير أكله، لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل)(11). وقال: (إذا وجد المضطر إنساناً ميتاً أكل لحمه لأن المفسدة في أكل لحم ميت الإنسان أقل من المفسدة في فوت حياة الإنسان)(11). وقال: (إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة لأنهم يستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم، لوجب إلقاء المال ثم الحيوان المحترم، لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس)(12). وقال: (قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة عظيمة إلا إذا تتـرَّس بهم الكفار وخيف من ذلك اصطلام المسلمين، ففي جواز قتلهم خلاف، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من قتل جميع المسلمين)(13). وقال: (التلفظ بكلمة الكفر مفسدة محرمة لكنه جائز بالحكاية والإكراه إذا كان قلب المكرَه مطمئناً بالإيمان، لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحةً من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان…)(14). وقال: (شرب الخمر مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه لأن حفظ النفوس والأطراف أولى من حفظ العقول في زمن قليل…)(15).
فهذه الأمثلة كلها حالات اضطرار وحالات إكراه، وليس فيها ما يدل على جواز فعل الحرام وإنما يفهم منها ارتفاع الحرمة وحصول الرخصة في حالات معينة وهي الاضطرار والإكراه. وكل من تفقه في هذه المسائل أدرك الفرق بينها وبين مسألتنا موضوع المقالة.
الشاطبي يحذّر من الأهواء:
وبمناسبة زعم الضرورة، والاتِّكاء على نصوص الشاطبي، فإن لهذا الأخير في موافقاته وفي كتابه الاعتصام، تفصيلات مطولة للضرورات، وللرخص وللمشقات، يردّ فيها على المترخصين من غير رخصة، وعلى زعم الاضطرار من غير ضرورة، ويبين فيها أن من يزعم أنه يقصد المصلحة ويسلك إليها ما يخالف النصوص هو مبتدع، وكلامه منطبق تماماً على بدعة فقه الموازنات المزعومة عند بعض المعاصرين. وقد رد الشاطبي على من زعم بأن قول النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل بتحصيل مصالحهم، رد رحمه اللـه بقوله: (إن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيداً بما هو جارٍ على أصولها. وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها فما قاله عين الدعوة. ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى… (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللـه والرسول)… وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدّعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناءً على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب، فهذا أيضاً من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومـَحالُّ الضرورة معلومة من الشريعة)(16). ثم يقول: (قلَّ الورع والديانة في كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى…)(16).
وما نخلص إليه هنا، أن هذا الذي سماه الكاتب قاعدة ثانية، لا محل لتطبيقه على هذه المسألة، فضلاً عن أن الفكرة المتضمنة فيه عن المصالح والمفاسد غير صحيحة وغير مستندة إلى الشرع، ولا إلى أي رأي فقهي عند أي مجتهد معتبر. ولا يقال إن هذه الفتاوى المبنية على هذه القاعدة رأي إسلامي، وإن كان مرجوحاً عند البعض، لا يقال ذلك لأنها آراء غير إسلامية وغير مستنبطة من الإسلام، ولا يجوز أخذها لأنها من الطاغوت.
الذرائع والمآلات:
أما في ما سماه القاعدة الثالثة وهي اعتبار الذرائع والنظر في المآلات حيث قال: «فاعتبار الذرائع أصل من الأصول المعتبرة في تقرير الأحكام، والذرائع ما تكون طريقاً لمحلل أو لمحرم فيأخذ حكمه، فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب…» فقد رمى بثالثة الأثافي. وإنه لمن المستغرب والمستهجن أن يكتب في الأصول من يقول مثل هذا الكلام. وقال أيضاً: «وقد يكون الفعل غير مشروع في ذاته إلا أنه لا يمكن إطلاق القول بعدم مشروعيته نظراً لما يفضي إليه ذلك من مفسدة تزيد على مفسدة هذا الفعل أو تساويها». ثم قال: «وبتطبيق هذه القاعدة نجد أن هذه المشاركة تمثل مصلحة كلية للمسلمين المقيمين في هذه البلاد، والأصل هو إقامة المصالح الشرعية وإن اعترض في طريقها بعض المناكر، ويكون على المسلم أن يتقي اللـه في هذه المناكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً». وقد اتكأ على قول للشاطبي: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة…)(17).
وإن كثيرين يستشهدون بمثل هذه الأقوال للشاطبي في غير مكانها كصاحبنا في مقالته، ربَّما لأنهم ليسوا أهلاً لهذا العلم بعد، وربما لأنهم يجدون فيه مدخلاً للتحريف، وربما غير ذلك. لقد ذكرنا عند مناقشتنا لما سمِّي القاعدة الثانية مراد الشاطبي من النتيجة أو المسبَّب أو المآل. وهكذا يفهم هنا قوله، ونذكِّر به هنا لتمام بحث القاعدة الثالثة. فالمآل عند الشاطبي هو المسبَّب وهو النتيجة. وهو الحكمة من الفعل، والمصلحة إن كان مأموراً به. وهو المفسدة إن كان منهياً عنه، ودفعها هو الحكمة.
والتكليف بالفعل تكليف بالسبب لا بمآله، فالمآل لا يقع عليه تكليف لأنه ليس مقدوراً للعبد، وإنما يُعرف من حكم الفعل كونه مصلحة أو مفسدة، وبما أن للفعل مآلاً بحسب مجاري العادات، يأخذ المآل حكم الفعل من حيث كونه مطلوب الوقوع أو غير مطلوب الوقوع، وبتعبير آخر: من حيث كونه مصلحة أو مفسدة، ولكن ليس تكليفاً لأنه ليس فعلاً للمكلف وإنما هو مآل. فإذا تضافرت أحكام الأفعال المختلفة على معنى واحد يصبح المعنى قطعياً فيكون معتبراً. فيكون المآل مصلحة معتبرة مشروعة الوقوع، أو يكون مفسدة معتبرة – على أنها مفسدة شرعاً – غير مشروعة الوقوع. فإذا تم هذا صار على المجتهد عندما ينظر في الأفعال التي لا نص فيها، أن ينظر في مآلاتها من حيث هل هي مصلحة أو مفسدة، وكونها مصلحة أو مفسدة هو كما ثبت كذلك من تضافر آحاد الأحكام، فهي معاني الأحكام الشرعية، وليست أحكام أهواء النفوس. هذا هو مقصود الشاطبي في اعتبار المآلات، وفي قوله: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل..)(17) ويقول: (الأعمال إذا تأملتَها مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسبَّبات هي مقصودة للشارع والمسبَّبات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات)(18). ويقول: (إن الشارع قاصد للمسبَّبات في الأسباب، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبَّب وهو مآل السبب)(18).
حيثما كان شرع اللـه كانت المصلحة:
ويقول: (أن لا نَتَطَلَّبَ مصلحةً بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع هو خلاف وضع الشريعة)(18). وهو يقصد هنا أن مجرد كون الفعل مشروعاً دليل على أن فيه مصلحة، ومجرد كون الفعل ممنوعاً دليل على أن فيه مفسدة، علمنا ذلك أم لم نعلم. أنظر إلى قوله: (إن كون المصلحة مصلحةً تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدةً كذلك، مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناءً على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح. فإذاً كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس. فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبدياً)(19).
بهذا يفسر قول الشاطبي في اعتبار المآلات، وضرورة نظر المجتهد إليها عند الاجتهاد، ومتى كان المآل مصلحة كان مشروع الوقوع، ومتى كان المآل مفسدة كان ممنوع الوقوع. ويأخذ الفعل حكم المآل لأن المآل أصلاً مسببٌ عنه ومعنىً له أو لحكمه. وليس للشاطبي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بجواز فعل المنكر إذا كان المآل مصلحةً. فهذه هَتْهَتَةٌ متهافتة .
10- شرح صحيح مسلم، كتاب الإمارة.
11- قواعد الأحكام، ج1، ص72.
12- المصدر نفسه. ج1، ص73.
13- المصدر نفسه. ج1، ص83.
14- المصدر نفسه. ج1، ص75.
15- المصدر نفسه. ج1، ص78.
16- الموافقات. ج4، ص81 – 83.
17- المصدر نفسه. ج4، ص110.
18- المصدر نفسه. ج4، ص111.
19- المصدر نفسه. ج2، ص219
1997-02-02