المصارف المركزية وبيوت المال ودور كل منهما في السياسة المالية للدولة
2016/10/29م
المقالات
2,121 زيارة
المصارف المركزية وبيوت المال
ودور كل منهما في السياسة المالية للدولة
بقلم: محمد الشامي
المصرف المركزي في الدولة الديمقراطية الأصل فيه أنه خزينة الدولة، ولكن مع نمو وتعقد الحياة الاقتصادية في تلك الدول، أصبحت له عدة وظائف وسياسات، تختلف من دولة لأخرى لكنها متقاربة في خطوطها العريضة: فهو مصرف الدولة وله في كثير من تلك الدول استقلالية في القيام بمهامه، ويتبع مباشرة رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة، وبالتنسيق معها يساهم في رسم السياسة المالية والاقتصادية للدولة وينفذ جزءاً منها، ووسائله في ذلك تشريعاته وموجوداته. وظائفه متعددة ومتداخلة يمكن إجمالها بتتبع علاقته بالعملة الوطنية وبالدولة وببقية المصارف.
المصرف المركزي هو الذي يصدر العملة المحلية التي يفترض فيها أن يكون حجمها الكلي متعادلاً مع الأصول التي عنده، أي غطاء العملة من الذهب والعملات الأجنبية والسندات بأنواعها، وأن تكون متناسبة مع حجم الاقتصاد المحلي وضرورات المبادلة المالية. وهو الذي يحافظ على سعر العملة المحلية بالنسبة لبقية العملات، ليس بتحديد سعر للصرف تتم به المبادلات الرسمية مما ينتج سعرين للعملة: رسمي وفعلي وبالتالي تنشأ سوق سوداء داخل البلد، ولكن يقوم بتحديد سعر العملة كهدفٍ له مع هامشٍ محدد لتغير قيمتها، وذلك بالنسبة لمعيار آخر غالباً ما يكون سلة عملات، فإن انخفض أو ارتفع سعر العملة المحلية، يتدخل في الأسواق المالية طالباً أو عارضاً لها مما يغير سعرها وفقاً لقوانين العرض والطلب. وتدخله هذا غالباً ما يكون موجهاً تجاه التقلبات في السعر الناتجة عن مضاربات تجار العملات (من أفرادٍ ودول وكتلٍ مالية). الذين يبيعون ويشترون فيها لتحقيق الأرباح من فروق الأسعار ولو أدى ذلك إلى انهيار إحدى تلك العملات.. وقد يقوم المصرف المركزي بترك سعر العملة للسوق العالمية تحدده (تعويم العملة) وهذا غالباً ما ينتج عنه انخفاض سعرها بالنسبة لبقية العملات.
وهو يسعى دوماً لزيادة الاحتياطي الذي عنده من الذهب والسندات والعملات الأجنبية (تحويلات العملات الأجنبية ومبادلاتها تتم غالباً عن طريقه) لاستخدامها بالدرجة الأولى في الحفاظ على سعر العملة وبدرجة تالية لتنفيذ سياساته المالية.
وهو مصرف الدولة، يمسك حساباتها، وتصب فيه وارداتها من ضرائب ورسوم جمركية وأرباح مؤسسات الدولة وعائدات بيع ممتلكات القطاع العام «التخصيص» وغيره..، ومنه تخرج نفقاتها فهو يمول إدارات الدولة ومشاريعها ويضمن قروضها الخارجية ويقرض الحكومة لمواجهة عجز الخزينة وحالات الطوارئ إما مباشرة أو بشكل غير مباشر عن طريق إصدار سندات الخزينة أو ضمان السندات التي تصدرها الحكومة.
وكذلك فالمصرف المركزي هو مصرف المصارف، له رئاسة على جميع المصارف في الدولة، وقوانينه تسري عليها، فهو الذي يعطيها التراخيص، ويحدد الحد الأدنى للرأسمال المطلوب منها، ويلزمها بوضع احتياطي إلزامي من موجوداتها عنده لضمان حقوق المودعين، ويقرضها أو يؤمن لها السيولة التي تحتاجها لشراء صكوك الدين التي عندها (عقود الاقتراض التي يوقعها المقترض) مقابل خصم نسبة معينة من قيمتها لصالحه، وهو الذي يحدد هذه النسبة وتضاف إلى موجوداته (شكل من أشكال الربا) بالإضافة إلى كونه وسيطاً بين هذه المصارف يسوّي الديون والحقوق التي بينها «المقاصة».
دوره في السياسة المالية والنقدية للدولة:
إصداره للنقود وطرحها في السوق الأصل فيه تناسبه مع حاجة السوق بحيث يحافظ على استقرار الأسعار المحلية، وازدياد حجم الكتلة النقدية عن حاجة السوق المحلية يؤدي إلى التضخم وارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة، كما هو حاصل في معظم دول العالم خاصة الدول الخاضعة للـهيمنة الاقتصادية، حيث يصل التضخم إلى نسب خيالية، ففي السودان تجاوزت النسبة 40% شهرياً في بعض الأوقات، مما يضر بالمستهلكين، خاصة ذوي الدخول المنخفضة والمحدودة والذين إن لحقتهم زيادة في الأجور فستكون متأخرة عن ارتفاع الأسعار وأقل من معدل ارتفاعها. وقد يلجأ المصرف المركزي إلى تخفيض قيمة العملة بالنسبة لبقية العملات، وذلك لتشجيع تصدير المنتجات المحلية. وباعتباره خزينة الدولة فهو الذي يمولها ويسد عجز الميزانية، إما مباشرة بالعملة المحلية (بإصدار نقود جديدة أو الإنفاق من مخزونه) مما يدخل البلاد في دورة تضخمية، أو بشكل غير مباشر عن طريق إصدار سندات بالعملة المحلية أو بالدولار (العملة العالمية) وهي أوراق أو صكوك لها أثمان محددة وعليها فوائد مقررة، تطرح للبيع في الأسواق المالية يُعاد شراؤها بعد مدة محددة بثمنها وبالفائدة التي عليها، وتُجمع من خلال هذه السندات الأموال اللازمة للتمويل (وهذا هو شكل المديونية الضخمة للولايات المتحدة) وعند طرحها بأسعار عالية للفائدة يتم جذب الكثير من الأموال لتصب في المصرف المركزي، مما يخلق انكماشاً في حجم الكتلة المالية في السوق إن كانت السندات بالعملة المحلية، وينتج بالتالي كساد اقتصادي، مما يقلل من واردات المصرف المركزي (من الضرائب بأنواعها). وعندما يحين موعد السداد تكون موجوداته أقل من مقدرته على سداد الديون وفوائدها، فإما أن يطرح المزيد من العملة في الأسواق، مما يعني المزيد من التضخم، أو أن يصدر سندات جديدة بفوائد جديدة مما يفاقم حجم المديونية. وأحياناً تُستخدم السندات عالية الفائدة لعلاج التضخم بسحب العملة المحلية من السوق مما يقود للكساد، وإعادة تنشيط الاقتصاد بعد الكساد بدون الدخول في التضخم من جديد ليس أمراً سهلاً.
المصارف التجارية في الدول الديمقراطية تلعب دوراً كبيراً في الحركة الاقتصادية بإقراضها الأموال لأصحاب المشاريع، وهناك نسبة معينة يحددها المصرف المركزي – بين القروض وموجودات هذه المصارف تلتزم بها ولا يجوز تجاوزها. فالمصرف المركزي حين يرفع للمصارف نسبة الاحتياطي الإلزامي الذي تودعه عنده يحد من قدرتها على الإقراض وهو برفعه لسعر الخصم عليها يجبرها على رفع أسعار الفائدة الخاصة بها لكيلا تخسر في قروضها – فيقلل بذلك من الاقتراض منها ويزيد الإيداع مما يقلل من النشاط الاقتصادي، أو على العكس من ذلك يخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي أو سعر الخصم، مما يزيد من قدرة هذه المصارف على الإقراض وبأسعار فائدة منخفضة، مما ينشط حركة الاقتصاد. كما أنه قد يلجأ إلى سن قانون يرفع الحد الأدنى من رأس المال المطلوب منها بغية تقليص عدد المصارف العاملة، أو بالعكس وذلك للتأثير على الحركة الاقتصادية. وقد لا تكون هذه هي أهدافه، فلتمويل نفقات الحكومة وعجز الميزانية قد يلجأ لرفع سعر الخصم أو الاحتياطي الإلزامي بغية زيادة موجوداته،
وبالتالي قدرته على التمويل. وهو ما فعلته الحكومة الألمانية بُعيْد إعادة توحيد ألمانيا لتمويل إعادة إعمار القسم الشرقي منها، وهذا الإجراء يجب أن يكون وقتياً ومدروساً وإلا سبب سوء الحالة الاقتصادية كما هو حاصل في دول العالم الثالث التي تستمع لنصائح صندوق النقد الدولي برفع أسعار الفائدة فيحدث فيها تراجع اقتصادي عوضاً عن النمو المطلوب.. وقد يكون الهدف تقليص حجم الكتلة المالية للسيطرة على التضخم، مما سيدخل أيضاً في حلقة مفرغة..
بيت المال في الدولة الإسلامية:
وهو الجهة التي تختص بكل ما يرد إلى الدولة الإسلامية أو يخرج منها مما يستحقه المسلمون من مال، أي الأراضي والنقود وصوامع الحبوب وآبار النفط وأنابيب المياه ومصانع السلاح. فهو على هذا كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية «عبارة عن الجهة لا المكان».
ورغم اشتراكه مع المصرف المركزي في أن كليهما خزينة الدولة إلا أنهما يختلفان كثيراً، وذلك لاختلاف الأساس الذي يقوم كلٌّ منهما عليه، ووجهة النظر في الحياة التي ينبني كل منهما عليها. وهو غير معرض لكثيرٍ من المزالق والمشاكل التي تعاني منها المصارف المركزية والدول الرأسمالية بشكل عام، بسبب اجترائها على الخالق ورفضها تحكيمه في شؤونها.
فالعملة الـمُصْدَرَة غطاؤها ثابت من الذهب والفضة، وبالتالي قيمتها ثابتة نسبياً بالنسبة لبقية العملات والسلع العالمية، لأن الذهب والفضة قيمتهما ذاتية وانخفاض سعرهما يدفع كل الناس في العالم كله للشراء، مما يعيد رفع السعر. وارتفاع السعر دافعٌ للبيع إذ إن الاستثمار بالذهب والفضة مربح على المدى القصير لكنه فاشل على المدى الطويل، خاصة الذهب، فبالتالي تكون تغيرات قيمة العملة بالنسبة لدول العالم بعيدة عن التقلبات العنيفة التي تشهدها أسعار عملات دول العالم منذ التخلي عن نظامي الذهب والفضة. وانهيار الليرة اللبنانية والدينار العراقي والروبل الروسي وخروج بريطانيا وإيطاليا من آلية سعر الصرف الأوروبية عام 1993 أمثلة قريبة.. فبالتالي ليس على بيت المال عبء الدفاع عن سعر صرف العملة لأن العالم كله يحافظ له عليه.
وظاهرة التضخم بشكلها المعروف حالياً غير موجودة في الدولة الإسلامية ولا يتصور وجودها إلا في حالة سك النقود المعدنية بمقدار من المعدن الثمين أقل مما هو محددٌ لها شرعاً، وهو غشٌ وحرام، أو في حالة اللجوء إلى إصدار أوراق نقدية لا تحمل غطاءً ذهبياً بشكل جزئي أو كلي، وهي لا تجوز. فالأسعار في دار الإسلام شبه مستقرة إلا في حالات الأزمات، وهذه لها تدبيرها الشرعي.. وبالتالي ليس لبيت المال من سياسة نقدية سوى جمع الذهب والفضة لمواجهة نمو حجم المبادلات والحاجة للعملة، أو لمواجهة السحب غير المتوقع للعملة إلى الخارج كأسلوب ضغط على الدولة الإسلامية (قد يستغل أعداء الإسلام سطحية تفكير الشعوب الإسلامية الحالية ويبيعونها أوراقهم النقدية التي ليس لها قيمة ذاتية وإنما هي مجرد أوراق، ويذهبون بما معهم من أوراق نقدية إسلامية ويهربونها إلى خارج البلاد خاصة أن الدولة الإسلامية في أول نشأتها تكون الثقة بها ضعيفة لاحتمال سقوطها أولاً ولأنها ألغت ما اعتاد عليه الناس من عملات ورقية إلزامية من جهة ثانية). لذا فعلى بيت المال مراقبة الأسواق وتغيرات الأسعار تماماً كالمصارف المركزية فانخفاض الأسعار أو الركود الاقتصادي الواضح قد يكون ناتجاً عن فقد العملة الذهبية مما يتطلب مواجهة ذلك من الدولة ومن بيت المال.
وباعتباره خزينة الدولة فهو يقوم بما تقوم به المصارف المركزـية من إمساك حسـابـات الدولـة وتمويل نفقاتها بدون اللجوء إلى إصدار السندات لأنها صكوك يدخل فيها الربا المحرم شرعاً، وموارد الدولة الإسلامية كافية في الأحوال الطبيعية لتغطية نفقاتها وزيادة.
والمصارف في الدولة الإسلامية ملك للدولة وفروع له، لأن ربح المصارف بشكل عام معظمه من الربا فلا تترك ملكيتها للأفراد. وتقوم بإقراض الرعية الأموال اللازمة لتمويل المشاريع الاقتصادية وتُجري المعاملات المصرفية من حوالات وأمانات وتسهيل أمور الاستيراد والتصدير لذا يمكن أن يجعل لها رصيدها الخاص وتجرى بينها «المقاصة» ويمولها عند الضرورة لأنها غير رابحة بالمفهوم التجاري.. وبالتالي فأمور النشاط الاقتصادي للأفراد غير مقيدة كما هي الحال في النظام الرأسمالي، فهم يعملون ويبدعون وينتجون دونما تشويش لأن حب التملك وزيادة التملك فطرية في الإنسان، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً. فتشجيع النمو الاقتصادي لا وجود له في الدولة الإسلامية لأنه موجود خِلقة، أما ما تنادي به الدول الرأسمالية فهو في واقعه تخفيف للقيود على النشاط الاقتصادي التي فرضتها تلك الدول.
وبيت المال يساهم في تمويل سياسات الدولة وإدارة أملاكها واستثمارها وتنمية أموالها، وهذه وإن كانت ليست القصد الرئيس له لكنها ضرورية لكيلا تبقى منفعة معطلة في دار الإسلام. فقصده ليس الربح ولا ينبغي أن يكون الربح، وسياسة عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه في الأمور المالية تشير إلى ذلك..
وأمين بيت المال – يقابله حاكم المصرف المركزي – من صفاته القوة والورع والأمانة، وبها يستطيع حفظ أموال المسلمين. فهذا سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين الأمة وأمين بيت المال، عندما بويع أبو بكر بالخلافة لم يقدر له إلا دراهم معدودة وكسوة الصيف وكسوة الشتاء ونصف شاة في اليوم له ولأهله، فلما اشتكى الخليفة!! زادها فجعلها شاةً في اليوم حفاظاً على أموال المسلمين. نسأل اللـه عودة الإسلام كاملاً إلى حياتنا.
2016-10-29