بسم الله الرحمن الرحيم
إشكاليةُ هجرةِ المسلمين إلى الغرب
(دوافعُها، خطورتها، تداعياتها) (3)
صالح عبد الرحيم – الجزائر
4- ثغرةٌ في ثقافة المسلمين لا بدَّ من سدِّها
يُضاف إلى ذلك كله مشكلةٌ جزئيةٌ هي وجودُ شباب الدعوة في المهجر. أي وجودُ حَـمَلة عبء إقامةِ دولة الخلافةِ في بلاد المسلمين في المهجر، وهي ثغرة لا بد من سدها. فإذا كانت الهجرة إلى بلاد الكفار من أجل الاستيطان والعيش فيها على الدوام تصطدم – في حق المسلمين عمومًا – مع كونهم مسلمين، وذلك من حيث إن مَن سافر منهم للعيش مع الكفار على الدوام يكون بلسان الحال قد قرر أنه ليس معنيًا بعملية التغيير ولا بقضايا وهموم المسلمين وعلى رأسها إعادة الخلافة (إلا استثناءً)، فإن مكوثَ المسلمين من حـملة الدعوة في بلاد الإسلامِ من أجل إقامة الدولة يكون أوجب. فالصواب أنه يجب أن لا يكونوا خارجَ البلاد الإسلامية إلا استثناءً، وهي حالات ثلاثة لا غير. علمًا أن هؤلاء هم مَن عزم وقرر أن يكون حارسًا أمينًا للإسلام. وإنا لا نرى ذلك إلا عزمًا صادقًا على التلبس بعملية التغيير في بلاد المسلمين، أي على العمل حيث يلزم لمعالجة قضيةِ المسلمين الأولى في هذا الزمان، وهي استئناف الحياةِ الإسلاميةِ بإقامة الخلافة. وبما أن القضية هي استئناف الحياة الإسلامية فمعنى ذلك أن المقصود بالعمل (من حيث المكان) إنما هو حتمًا البلاد الإسلامية، وذلك من أجل تحويلها إلى دار إسلام بإعادة الخلافة فيها (أولًا)، وهي البلاد التي كانت محكومةً بالإسلام، ثم زال عنها حكمُ الإسلام بعد ذهاب دولة الخلافة، وهي ليست لندن وباريس فضلًا عن أماكن أبعد؟؟ فمن زاوية وجوب التلبس بالعمل لتغيير واقع الأمة – لا من غيرها من الزوايا – يجب النظرُ لموضوع الهجرة الذي نحن بصدد معالجته الآن.
أما الحالات الثلاثة الاستثنائية التي قد تبرر وجودَ المسلمين في غير البلاد الإسلامية فهي:
1- وجود عابرٌ ظرفي مؤقت في بلاد الكفار من أجل تعلمٍ أو طلب علاجٍ أو استقدامِ بضاعةٍ أو بيعِها (في بلاد الغرب مثلًا) أو استرزاق مؤقت أو غير ذلك مما ذُكر آنفًا من أحكامٍ ضَبط بها فقهاءُ السلف شروطَ السفر وهجرةِ المسلمين إلى غير البلاد الإسلامية (أو الخروج من دارِ الإسلام حال وجودها). وهو ما نراه ينطبق عليهم اليومَ أيضًا رغم انتفاء وجود دار الإسلام، بحكم أن المنطلقَ لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولةِ الإسلام وتحويلِ الدار من دار كفرٍ إلى دار إسلامٍ – وهو الأمر الذي له الأولوية العظمى في حياة المسلمين اليومَ – يجب أن يكون البلادَ الإسلاميةَ ولابد، وهذا معروف عند حمـَلة الدعوة. علمًا أن الأولويةَ في كل ذلك (أي في وِجهة السفر إذا كان ولابد) هي حتمًا البلاد الإسلامية المختلفة إن كان ذلك ممكنًا (باعتبار الغرض من السفر). ونعيد هنا ذكرَ بعضِ ما من أجله قد يذهب المسلمُ: جلبُ مالٍ أو استقدامُ سلعةٍ أو تجارةٍ أو تحصيلُ علمٍ أو خبرةٍ، أو السفرُ بغرض التداوي أو النزهة أو الاستكشافِ أو الاطلاعِ على أعمال وأحوالِ الشعوب وإنجازاتهم في البلاد المختلفة (مما قد يصب في خدمة الأمةِ الإسلامية ولو بشكل من الأشكال)، فلذلك ضوابطُ شرعية من الفقه معروفةٌ من أيام الدولة الإسلامية الأولى، فلم يكن المسلمون يعيشون بمعزِلٍ عن العالم، وإنما كانوا دائمي الاحتكاك مع غيرهم من الشعوب والأمم في بلادهم وفي بلاد غيرهم. وهذا الوجود الظرفي العابر لا يعتبر أصلًا من معنى ما نحن بصدد معالجته، وهو ليس من الهجرة المقصودةِ في هذا الموضوع أصلًا.
2- الهروبُ من الموت أو التنكيل والبطش من الحكام الظلَمَة، أي من الظلم الشديد الذي قد يُفضي إلى الهلاك، مع الأولوية دائمًا (في الوِجهة) للبلاد الإسلامية الأخرى وهي واسعة، فيصح عندئذ أن يغير المسلم موطنَه – ولو إلى بلاد الكفار – مع اصطحاب نية الرجوع إلى البلاد الإسلامية متى انتفت الحاجةُ (وليس شرطًا أن يعود إلى السودان مَن ذهب من السودان مثلًا، فيمكن أن يعود إلى غيرها من بلاد المسلمين). وهنا نفتح قوسًا لنقول: يجب ألا يخفى على حَمَلة الدعوة أن من بين أساليب الكفار في تثبيت أركان حكم عملائهم لإدامة قبضتهم على بلدان المسلمين، قسوةُ الحكام العملاء للاستعمار على شعوبهم، وتحديدًا على حَمَلة الدعوة ممن يكافحونهم ويناوئونهم سياسيًا، وذلك بغرض دفع الفاعلين سياسيًا (وحتى المثقفين والمتعلمين من أبناء الأمة عمومًا) إلى طلب اللجوء في أية دولةٍ من دُول الغربيين (حيث الحريات وحقوق الإنسان!!)، وبذلك يتم احتضانهم وتحييدهم وبالتالي احتواؤهم وإبعادهم عن ساحات الصراع، ولربما يجري بعد ذلك كسبُ عقولهم وقلوبهم بإطالة مكوثهم بينهم، ولنا من هؤلاء أمثلةٌ كثيرة من المسلمين نترفع عن ذكرها ممن كانوا أو مكثوا طويلًا – أو هم اليومَ – في معظم العواصم في الغرب بين ظهراني أعداء الله ورسوله من الكفار الغربيين.
3- التكليف من القائمين على الدعوة لغرض يقتضيه حملُ الدعوة. فقد يُكلَّف شخصٌ أو أشخاصٌ للمكوث أيامًا أو أشهرًا أو سنواتٍ من أجل القيام بمهمات معينة (لا ندخل في تفاصيلها)، وهذا هو من قبيل من يُعينهم وليُّ الأمر وهو الخليفة بوصفه الحاكم الشرعي في دولة المسلمين للقيام بمهمات كسفراء أو خبراء أو مبعوثين أو غيرِ ذلك في غير دار الإسلام، فيقاس عليه.
فهذه ضوابط نطرحها بين أيدي حمَلَة الدعوة من أجل إدراك خطورة المسألة. إلا أن ما نريد الإشارةَ إليه تحديدًا هو أنه ينبغي الصدع للأمة عمومًا بالحكم الشرعي في هذه المسألة الخطيرة بما يفند الانفلاتَ في هذا الشأن الخطير، ثم أن يجريَ التـزامُ المسلمين وشبابِ الدعوةِ تحديدًا بالبقاء والعيشِ في البلاد الإسلامية والمكوثِ فيها مهما كانت الظروف. فالعزيمة من أحكام الوضع في وضع هؤلاء، أي المسلمين عمومًا ومنهم خاصةً مَن تلبس بالعمل الجاد لإقامة فرض الخلافة في بلاد المسلمين، هو العيش في بلاد المسلمين، والرخصةُ هي المغادرةُ والهجرةُ ضمن شروط، وهي الحالات الثلاثة المذكورةُ لا غير.
بقي أن نشير إلى عدةِ أمور ومسائل أهمها:
1- إنه لا يُستفاد من هجرة المسلمين أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة في بداية الدعوةِ في مكة جوازُ الإقامة عند الكفار اليومَ في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، كما قد يزعم من يريدها تبريرًا لبقائه في الغرب! ذلك أنه لم يكن هنالك دار إسلام ولا بلاد إسلامية وقتئذٍ، فضلًا عن كون فرارِهم إلى الحبشة كان ظرفيًا بسبب بطش كفارِ قريش فيدخل في الاستثناء الثاني، كونهم اصطحبوا معهم نيةَ اللحاق بالرسول فور حصولِ التمكين، وهذا ما كان.
2- يَسقُط كذلك مع هذا البيان قولُ من يُسقِط الأحكامَ الشرعيةَ التي تُجيز التعيينَ أو التكليفَ من قِبل دولةِ الخلافة (حال وجودها) أي من قِبل الحاكم الشرعيِّ في الإسلام للسفراء والممثلين والخبراء والدبلوماسيين وغيرهم من أصحاب الإذن بالسفر إلى خارج البلاد الإسلامية كطلاب العلم أو جالبي الخبرات، على الدول الوطنية العميلة الحالية، فيجيزون بذلك بقاءَهم في بلاد الكفار والعيشَ فيها بناءً على طاعة ولي الأمر، وهي زلة ولاشك، كون هذه الكيانات التي هي صنيعةُ الغرب الاستعماري (هي وحكامها) فاقدة للشرعية في الشريعة الإسلامية.
3- الأصل في بلاد المسلمين هو أن تكون زاخرةً بكل ما يرغب فيه البشرُ من الخيرات والخبرات، والعلومِ في شتى المجالات، فيكون الأصل إذًا هو مجيء غيرِ المسلمين إلينا من أجل العلاج والتعلم والخبرةِ والتجارة والصناعة، وشراءِ الغذاء والسلاح وغير ذلك، وليس العكس! فإذا رأوا ما عندنا من حضارة ومدنيةٍ رغبوا في الإسلام وأقبلوا عليه وصاروا منا وأقاموا بيننا! فنسأل الله أن يَلطُف بحالنا!
4- نشأ عند مَن تلبس بالعمل من أجل استئناف الحياة الإسلامية حتميةُ إبراز الفرق بين مصطلح «البلاد الإسلامية» ومصطلح «دار الإسلام» (الموجودين في الفقه منذ نشأة دولةِ المسلمين)، فصار لابد من التذكير بمعاني هذه المصطلحاتِ الدقيقة كما يلي:
المصطلح الأول: البلادُ الإسلامية (ومنها البلاد العربية)، ويقابلها في المعنى غيُرها، أي بلاد الكفار. وهي – أي البلاد الإسلامية – كلُّ أرض حكمها الإسلام يومًا وجرى فيها تطبيقُ الشريعة وتنصيبُ حكامها من قبل خليفةِ المسلمين، سواء فتحت عنوةً أو صلحًا. ومنها أيضًا البلادُ التي أسلم أهلها عليها فضُمَّت إلى بلاد المسلمين وحُكمت بالإسلام. ويبقى اعتبارُها كذلك حتى لو تحولت إلى دار كفر، أي حتى (مثلًا) لو استردها الكفار منهم بغزو أو احتلالٍ أو تقسيم أو غيره، كفلسطين والهند واليونان والأندلس وقبرص وبلاد البلقان كلها وجنوب السودان وأرض الشيشان وأجزاء كبيرة من بلاد الصين وغيرها.
المصطلح الثاني: دارُ الإسلام وما يقابلها أي دار الحرب أو دار الكفر. وهنا في تعريف دار الإسلام ودار الكفر (أو دار الحرب) لا بد من وقفة:
قال ابن القيم : قال الجمهور: دارُ الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكامُ الإسلام، وما لم تجرِ عليه أحكامُ الإسلام لم يكن دارَ إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدًا ولم تصر دارَ إسلام بفتح مكة.
ومما ذكر علاء الدين الكاساني (الحنفي ت 587هـ) معللًا قولَ القاضي أبو يوسف (ت 182هـ) ومحمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) كما ذكر السَّرَخْسي (الحنفي ت 286هـ)، قولُه: إن كلَّ دارٍ مضافةٌ إما إلى الإسلام وإما إلى الكفر، وإنما تضاف الدارُ إلى الإسلام إذا طُبقت فيها أحكامُه، وتُضاف إلى الكفر إذا طبقت فيها أحكامُه، كما تقول الجنة دار السلام والنار دار البوار لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار، ولأن ظهورَ الإسلام أو الكفرِ بظهور أحكامهما. فجعل الكاساني مناطَ الحكمِ على الدار هو نوع الأحكام المطبقةِ فيها.
وقال ابن قدامة الحنبلي (ت: 620هـ): ومتى ارتد أهلُ بلدٍ وجرت فيه أحكامُهم صاروا دارَ حربٍ في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم الحادثين بعد الردة، وعلى الإمام قتالهم، فإن أبا بكر الصديق قاتل أهلَ الردة بجماعة الصحابةِ ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه، وهؤلاء أحقهم بالقتال؛ لأن تركَهم ربما أغرى أمثالَهم بالتشبه بهم والارتدادِ معهم فيكثر الضررُ بهم. وإذا قاتلهم قُتل من قُدِر عليه ويُتبع مدبرُهم ويُجهَز على جريحهم وتُغنم أموالهُم، وبهذا قال الشافعي.
فيُفهم من مجمل هذه الأقوال ما قاله غيرُ واحد من علماء السلف من غير هؤلاء المذكورين أعلاه، وهو أن يجريَ فيها تحكيمُ شريعةِ الإسلام مع تحقُّقِ الأمان بسلطانِ المسلمين لتكون دارَ إسلامٍ، وإلا فلا. فكل البلاد غير دار الإسلام تعتبر دار حرب، وتأخذ أحكامَ دار الحرب (وهناك من زاد حالة خاصة، وهي دار العهد، وهو أن نكفَّ عن قتالهم لاعتباراتٍ معينة مدةً محدودةً من الزمن مقابل عوض أو بدونه، فهي من معنى دارِ الحرب).
أما أكثرُ الفقهاء المعاصرين فهم يرون (كما جاء على لسان أحد الباحثين) أن بلادَ المسلمين تتفاوت اليومَ في اعتبارها دار إسلام أو لا!! فالقليلُ منها يحتكم إلى الشريعة الإسلامية في أكثر تشريعاته. وأكثرُها يحصر التزامَه بالأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية منها (أي في علاقات الزواج والطلاق والميراث… لا غير). وهناك عدد آخر ولو كان قليلًا يرفض (!) الخضوعَ للأحكام الشرعية حتى في مجال الأحوال الشخصية، وبالتالي فإن دار الإسلام بالمعنى الفقهي المعروف (من الفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية) لا تنطبق على كثير من الدول القائمة اليوم في البلاد الإسلامية. لكن هناك ميل من بعض الفقهاء (من المعاصرين) إلى اعتبار جميعِ البلاد الإسلامية وهي البلادُ التي تقطنها أكثريةٌ إسلامية دارَ إسلام، بحيث يجب في نظر هؤلاء إنزالُ أحكامِ دارِ الإسلام عليها، مع السعي لدى الحكامِ إلى تطبيق جميع الأحكام الشرعية!! وانطلاقًا من هذا الواقع فإن الحكامَ في هذه الدول هم الذين من شأنهم أن يحددوا دارَ الحرب أو دار العهد!! وقد اتفق جميع حكام المسلمين بعد دخولهم في مواثيق الأمم المتحدة على اعتبار العالَمِ كلِّه دارَ سلمٍ واعتبارِ دولِ العالَمِ كلِّها دولًا معاهِدةً وليست دارَ حربٍ!! (نقول: وهذا دون شك مرفوض شرعًا، وهو انبطاح كامل أمام سطوة وهيمنةِ المنظومة الرأسماليةِ الغربية على العالم).
وأما رأيُ (مدرسة) يوسف القرضاوي، وهو من بين الآراء التي يُراد لها أن تكون الأكثر شعبيةً وانتشارًا، فإنه يتمثل في أن كل بلادِ الدنيا بالنسبة للمسلمين هي اليومَ بلادُ دعوة، والفقهاء يقسمون العالم إلى «أمة الدعوة» و«أمة الإجابة» وكل العالم يُعتبر أمةَ محمد ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )، فهو جاء يخاطب العالمين جميعًا، فبعضهم استجاب له وهذه أمةُ الإجابة، وبعضهم لا زال في مرحلة الدعوةِ وهذه أمةُ الدعوة، ودارُ هذه البلاد (أي التي لم يَستجب أهلُها) هي دارُ دعوةِ من غير كلام! (وهكذا نرى كيف تختفي عند أصحاب هذه المدرسة كلُّ المصطلحات الشرعية).
إلا أنه عند مباشرة العمل من أجل الانطلاق بالدعوة والارتكاز وإقامة الدولةِ، كان لا بد من أن يُتخذ بعضُ البلاد الإسلامية (غيرِ المحتلة) مجالًا لتركيز العمل، وذلك باعتبار مدى وجودِ العمل وكثافته وقوةِ التفاعل فيه، وباعتبار وجود المقوماتِ وإمكانية قيام كيانِ الدولة وتمكُّنها وضمانِ حياتها واستمرارها في هذه الرقعة في البداية – ولو بضم بعضها إلى ما يجاورها من أقطار – بحيث يتحقق بها جميعًا إمكانيةُ الارتكاز حقيقةً وقيامُ كيان المسلمين أي دولة الخلافة واستمرارُها (ثم الانطلاق في ضم البلاد الإسلامية الأخرى). فيجري في كل قطرٍ من هذه الرقعة حملُ الدعوة بتمامه، ومنه أعمال النصرة. علمًا أنه لا يتأتى الكفاح السياسي في غير البلاد الإسلامية ولا طلبُ النصرة في بلاد الكفار (كألمانيا أو السويد أو إنكلترا مثلًا) وذلك من باب أولى.
5- والسؤال المـُحيِّر هو: كيف هو وضع المسلمين ممن وُلد ونشأ في الغرب، أو ممن اعتنق الإسلامَ من أهل تلك البلاد، وتحديدًا مَن صار منهم مدركًا لقضية المسلمين في هذا الزمان وواعيًا على وجوب العملِ لإقامة الدولةِ واستئنافِ الحياة الإسلاميةِ في بلاد المسلمين، بعدما صار المسلمون أجيالًا في بلاد الكفار وواقعًا مفروضًا؟؟ فهل يُطلب من هؤلاء أيضًا أن يكونوا في البلاد الإسلامية على سبيل الوجوب؟ والجواب على ذلك أنه لا يصح أبدًا أن يرضخ أو يستسلم حمَلةُ الدعوة لواقعٍ فرضه الكفارُ على المسلمين، وقد ثبت أن الهجرةَ – كظاهرةٍ سياسيةٍ وبالشكل الذي نتحدث عنه تحديدًا – إنما هو من تخطيط دولِ الغرب في ضرب الإسلام والمسلمين!! فلا يصح مطلقًا أن تتحمل الدعوةُ تبعاتِ واقع وجودِ هذه الجاليات من المسلمين في بلاد الكفار بهذا الشكل، ولا أن تُكيَّـفَ النظرةُ لقضية الهجرةِ فضلًا عن أن تُكيَّـف أعمالُ الدعوة وعمليةُ التغيير بحسب واقع وأوضاع المهاجرين في الغرب. فيجب الصدعُ منهم (أي من حَمَلة الدعوة) للمسلمين جميعًا في أقطار الدنيا بالحكم الشرعي – مهما كانت الظروف – في مسألة الهجرةِ إلى بلاد الكفار ابتداءً، أو مسألةِ البقاء فيها، مُبيِّنين خطورتَها ومصائبَها ونتائجَها وتداعياتِها، كما يجب أن يدرك مَنْ يختار من المسلمين أن يعيش بشكل دائمٍ في بلاد الغرب (أصليًا كان أو مهاجرًا) أن واجبَ العمل لإعادة حكم الإسلامِ في بلاد المسلمين – وهو الفرض الأعظم في هذا الزمان – يتناقضُ مع وجوده في بلاد الغرب مستوطنًا بهذا الشكل، إلا أن يكون من أصحاب الأعذار المقبولة والمسوغاتِ الشرعية وهم على العموم كما أسلفنا: إما مَن غلبهم القهرُ في بلاد المسلمين أي ظلمُ الحكام وبطشُهم إلى حد الاضطرار الملجئ، بعد استنفاذ إمكانياتِ التحول إلى بعض البلاد الإسلامية الأخرى، وإما مَن هم من أهل الرخصة في البقاء والمكوث ولو لسنواتٍ وهم أصحابُ المهمات ممن تم تكليفهم من قِبل صاحب الصلاحية في أمر الدعوة وفق الأحكام الشرعية ذاتِ الصلة. وهم الذين يجب عليهم جميعًا بعدئذٍ (هؤلاء وأولئك) القيامُ بتكاليف الدعوةِ وتحملُ أعبائها حيثما وُجدوا، ومِن ذلك تَوعيةُ المسلمين (سياسيًا) على ما يُراد بهم وبأمتهم وتثقيفُهم بالإسلام في بلاد المهجر، ومن ذلك أيضًا تحذيرُهم من عواقب طول مكوثهم بين الكفار، ومن الذوبانِ والانخراطِ في حياة الغربيين ومِن كل ما يجب الحذرُ منه في بلاد الغُربة والمهجر. وعليهم خصوصًا تهيئةُ الأجواء في تلك البلاد للفاتحين القادمين لا محالة. فمن معنى الأمانةِ في حراسة الإسلام وبذلِ الجهدِ في سبيل تحقيق الغايةِ المطلوبة، التي هي استئنافُ الحياة الإسلامية، وإقامةُ دولةِ الخلافة، أن يكون المسلم حيث يلزم شرعًا. أما مَن يختار منهم أن يعيش في بلاد الغرب (أو غير البلاد الإسلامية عمومًا) مِن غير مبررٍ أو رخصةٍ فيجب أن يُعلمَ ويُفهَّمَ أنه ولا شك في غير المكان الذي يرتضيه الإسلامُ ويقتضيه حملُ الدعوة الإسلامية. فبهذه الطريقة يجري ضبطُ العمل وتكثيفُه وتركيزُه في المكان المطلوبِ شرعًا حتى تقومَ الدولةُ حيث يجب أن تقوم، فتُحل المعضلةُ عندئذٍ من أساسها، وتُضبط المسألةُ حينئذٍ (وجوبًا) بتنفيذ أحكامِ السياسةِ الخارجيةِ في شريعة الإسلام، الذي يعلو ولا يعلى عليه.
6- انخراطُ المسلمين في دول الغرب تجاوز مخالطةَ الكفار في مأكلهم وملبسهم ومشاركتَهم في أمور حياتهم، كما تجاوز الدخولَ في الأحزاب السياسية والمنظمات المجتمعية، بل وصل إلى انضمامهم إلى جيوش تلك الدول، التي في كثير من الأحيان يُطلب منها مهام قذرة في بلاد المسلمين، كما هو حاصل الآن في أميركا وغيرها، فهل يتناقض في هذه الحالة إسلامُهم مع ولائهم لأوطانهم ومع انتمائِهم لدولهم تلك؟ بالتأكيد نعم.
7- لا يخفى على سياسي متابعٍ أن العالم يسير هذه الأيام نحو عودة دولة المسلمين بوتيرة أسرع من ذي قبل، وهذا ربما هو العامل الأبرز في تفسير احتدام صراع الغرب مع الأمة الإسلامية إلى الحد الذي نراه اليومَ في بلاد المسلمين. فهل سيكون وجودُ هؤلاء المسلمين واستقرارهم (كجاليات) في بلاد الغرب – أي في دول عدوةٍ للمسلمين – عاملًا مساعدًا لتقوية ركائزِ الدولة عند قيامها في بلاد المسلمين (كما قد يتصور البعض)؟؟ نقول: بل لا يخفى على عاقل متابعٍ مدركٍ لما حوله من أوضاع الأمةِ ولأحوال المهاجرين في الغرب ما قد يلحق الأمةَ الإسلاميةَ من ضرر قد يأتي – بل يأتي حتمًا – من وجود هذه الجاليات المختلفةِ التصوراتِ والتوجهاتِ واستقرارِها في بلاد الغرب، أقله تغيرُ وجهةِ نظرِ أفرادها في الحياة وأكثره ربما فقدانهم أنفسَهم وخسرانهم أهليهم بالارتداد عن الدين (وذلك هو الخسران المبين)، وانعكاس ذلك على الأمة من حيث توظيفهم من قِبل الدول الكبرى في صراعها مع المسلمين. وقد رأينا كيف جرى توظيفُ النخب السياسيةِ والثقافية والزعاماتِ التي كانت موجودةً في الغرب وتربَّتْ طوال العقود الماضيةِ في أحضانه (من قادة ورموز الحركات العلمانية والليبرالية وحتى الإسلامية والوطنية وغيرها…) خلال «الثورات العربية» الأخيرة (في تونس ومصر وليبيا وغيرها..) وقبل ذلك في العراق، وكيف جاء بها الغربُ في اللحظات المناسبة وألقى بها في الأوساط السياسيةِ في كل البلاد المنتفضةِ والثائرةِ على الأوضاع السيئة التي أوجدها الغرب نفسُه، لتتصدر المشهدَ السياسي في تلك البلدان، بغرض حرف مسار الثورات من أجل استمرار المحافظة على مصالحه وتحقيق مآربه عبر القفز على مطالب الشعوبِ المسلمة بتوجيه الأحداثِ واحتواء الصراعات. ولا شك أن هذه الزعامات كانت مهيَّـأةً ومتهيِّئةً لمثل هذه الأدوار من خلال رصد التحولات في تلك البلدان بهدف ركوب المطالب وتوجيه التحركات وإجهاض الثورات. وأعضاء الائتلاف السوري مثال واضح في هذا الشأن.
أما أفراد الجاليات المسلمةِ في الغرب عمومًا، فإنه لا يخفى على أحد دخولُ أكثرهم في حالة لا توصف من الضياع السلوكي والانهزامِ الثقافي والتبعيةِ الحضارية، وانفصالُهم عن الأمة فكرًا وشعورًا، وانحيازُهم سياسيًا إلى مواقف دولِ الغربِ في قضايا الأمةِ الإسلامية، ومنها وأهمها على الإطلاق عودة الخلافة، وهو محور الصراع مع الغرب اليوم، وانعكاسُ ذلك على البلاد الإسلامية نفسِها فكريًا وسياسيًا، بل واقتصاديًا أيضًا، وذلك بحكم أن هذه الجاليات – التي لا تكاد تحمِل من هموم الأمة شيئًا – تعيش «مستقرةً» بـ»أمان وعهد» الكفار وفق نمط الغربيين بين أظهر غيرِ المسلمين تحت سلطة الكافرين والمشركين من ملحدين وعلمانيين، كون أبنائها يحملون (كواقع مفروض) تابعيةَ أو جنسياتِ تلك الدول الغربية، وهو ما يحمل في حد ذاته علاماتِ استفهامٍ كبيرة من ناحية الشرع (ليس هذا محل النظر فيه)، ويغيب عنهم تمامًا إلا من رحم الله وجوبُ استئنافِ الحياة الإسلامية ووجوبُ العيشِ وفق شريعة الإسلام في ظل دولةٍ تطبق الإسلامَ، فضلًا عن وجوبِ حمله إلى جميع أنحاء العالم بالطريقة الشرعية وهي الدعوة والجهاد في سبيل الله، الذي تتولاه الجيوش في الدولة. فكيف سيكون إذًا موقفهم عند قيام دولة الخلافة وبعد قيامها، وكيف سيكون موقفُ الغربيين وساستِهم منهم، وهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمةً؟؟ وهم – أي المهاجرون – في نفس الوقت عرضةٌ لجميع أنواع الضغوطاتِ والتوظيفاتِ بما يخدم دولَ الكفار المستعمرين! فيوجد بينهم اليومَ من يرفض صراحةً بل ويعترض عن بعد – أي وهو موجود في الغرب – على تحكيم الشريعة الإسلامية هنا في بلاد المسلمين (فضلًا عن غيرها)، وذلك بالدعوة إلى العلمانية والديمقراطيةِ وإبعاد الدين عن الدولة ومدَنيةِ الدولةِ، فهل يكون مَنْ هذا حالُه مسلمًا (؟)، والله تعالى يقول: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء 65].
ومع كل هذا البيان فإننا ندرك أنه لا حل لمشكلة بل معضلة الهجرةِ على أرض الواقع إلا بإقامة الدولةِ في بلاد المسلمين على أساس الإسلام. ولو أن المسلمين اشتغلوا بالسياسة في بلادهم، انطلاقًا من دينهم وعلى أساس هويتهم، لقامت دولـتُهم ولزالت مِـحنتُهم.
قال تعالى: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج 40]
والحمد لله رب العالميـن.