العلماء بين الأمس واليوم
2008/10/30م
المقالات
2,652 زيارة
العلماء بين الأمس واليوم
رفع الله شأن العلم وأعلى من شأن العلماء، وأكرمهم بنعم جمة، فجعل المخلوقات من دواب وحيتان تصلي على معلم الناس الخير، روى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي قال: «ذكر لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن اللّه وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير»، فبالعلماء يعرف الناس الحلال من الحرام، ويعبدون الله حق عبادته بالكيفية التي ترضيه، وفقدانهم فقد عظيم للأمة، فإذا فُقدوا يُفقد العلم ويعم الجهل، ويُعبد المخلوق ويُترك الخالق، فيتخذ الناس رؤوساً جهالاً يفتون بغير علم فيضلون ويُضلون، روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ….» وكما قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه» رواه أبو داود.
إن العلماء يصححون العقائد الفاسدة والأفكار الخاطئة بين الناس، ويصدعون بكلمة الحق بجرأة وصراحة وقوة فكر، لا يخشون في الله لومة لائم، بغض النظر عن مكانة الشخص الذي أمامهم، سواء أكان من الحكام أم من السوقة، فالصراحة والقوة والفكر وتحدي كل ما يخالف الشرع، والتصدي للباطل… هو ديدنهم، فإن كان هذا للمسلم واجباً فإنه للعلماء أوجب وآكد؛ لأن العالم يعلم علم اليقين بأن الله هو الرزاق والمحيي والمميت والضار والنافع، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء، فلا يتسرب إلى قلب العالم المؤمن أي خوف ولا جبن، يشع مهابة بين الناس، تحترمه الرعية ويهابه الراعي، فكلمة من لسانه تحرك الجماهير، وتزعزع السلاطين، وما سبب ذلك إلا العلم الذي كرمه الله تعالى به، وزينه في قلبه. وعندما أكرم المولى عز وجل البشرية بالإسلام، وُجد العلماء بهذه الكيفية، تشع منهم المهابة والوقار والتقوى، لا يخشون إلا الله، ويتحدون كل حاكم انحرف عن الصراط المستقيم مهما أوتي من قوة وسلطة وجبروت، لا يستطيع أن ينتزع منهم فتيا أو رأياً لصالح حكمه، بل إن الحكام يرون الذل والحرج إذا وقفوا على أبواب هؤلاء العلماء دونما حاجة.
حدّث الأبري أبو الحسن محمد بن الحسن بن إبراهيم بن عاصم الأبري السجري قال، سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن المولد الشرقي يحكي عن زكريا بن يحيى البصري عن زكريا النيسابوري كلاهما عن الربيع بن سليمان، وبعضهم يزيد على البعض في الحكاية، قال سمعت الشافعي يقول: «…. ثم إني خرجت من مكة فلزمت في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب. قال: فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرحل برحيلهم وأنزل بنـزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الأدب والأخبار، وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله، عز عليّ ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سُدت أهل زمانك. فقلت: من بقي تقصد؟ فقال مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ، قال فوقع في قلبي، فعمدت إلى الموطأ فاستعرته من رجل بمكة، فحفظته في تسع ليال ظاهراً. قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة، فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال: يا فتى أن أمشي من جوف المدينة إلى جوف الكعبة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير أن يوجه إليه ليحضر، قال: هيهات، ليت أني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجاتنا، قال: فواعدته العصر، وركبنا جميعاً، فوالله لكان كما قال، لقد أصابنا من تراب العقيق، قال فتقدم رجل فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول: لئن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب. ولئن كان للحديث فقد عرضت يوم المجلس، فانصرف، فقال لها: قولي له: إن معي كتاباً من والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متلطس، فرفع إليه الوالي الكتاب فبلغ إلى هذا «إن هذا رجل من أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع»، فرمى بالكتاب من يده ثم قال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤخذ بالوسائل، قال فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله- إني رجل مطلبي ومن حالي وقصتي، فلما أن سمع كلامي نظر إلي ساعة، وكانت لمالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت محمد، فقال لي: يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، ثم قال: نعم وكرامة، إذا كان غداً تجيء ويجيء من يقرأ لك، فقلت: أنا أقوم بالقراءة قال: فغدوت عليه وابتدأت أقرأه ظاهراً والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالك وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى زد، حتى قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفي مالك بن أنس»، رحمك الله رحمة واسعة، يا أعلم العلماء، فقد كان لا يفتي أحد وأنت بالمدينة.
هكذا هم العلماء الحقيقيون طيلة الحكم الإسلامي، منهم من عُذب ومنهم من استشهد أمثال سعيد بن جبير وجعفر الصادق وأحمد بن حنبل وغيرهم من العلماء الأجلاء، لم يغرروا بالعلم، وسموا به فوق الإغراءات والمحن، وحتى بعد أن فقدت الأمة الإسلامية الحكم بالإسلام اشتهرت أسماء على هذا النهج، لم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، إلا القليل الذين لا حكم بهم، فاستمر العلماء لله ولرسوله وللحكام والناس ناصحين، فكانوا كما قال الحسن (رضي الله عنه): «لا يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله، فإذا وافقوه حمدوا الله، وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدي من اهتدى، فأولئك خلفاء الله» ص 34/ج/1- الاعتصام لأبي إسحاق ابراهيم بن موسى الشاطبي.
وبالمقابل، وبكل أسف نجد أن من يحملون ألقاب العلماء اليوم صنفان، صنف سار في ركاب الحكام الذين ساموا الأمة صنوف العذاب، وركبوا في سفنهم، يزينون باطلهم ويدافعون عنهم، فسلط الحكام عليهم كاميرات محطات التلفزة والقنوات، وفتحوا لهم الإذاعات والصحف والمجلات؛ فأصبحوا أبواقاً للباطل، يخشون المخلوق، بدلاً من خشية الخالق، فلم تعد لهم هيبة، لا عند الناس ولا عند الحكام. هذا الصنف تربع على كراسي الفتاوى الجاهزة لختمها بخاتمهم دون قراءتها بعد أن ألقموا بوظيفة، غير أن أمثال هؤلاء قد اضمحل دورهم بعد أن لم تعد الأمة تثق بهم حتى صارت الألقاب الرسمية مجرد إطلاقها على شخص منهم تهمة له.
أما الصنف الثاني من هؤلاء العلماء تجدهم قد أغلقوا أنفسهم بين الزوايا والأركان والمساجد، وأطلوا من الإذاعات والصحف وأجهزة الإعلام المختلفة، يعلمون الناس أحكاماً شرعية لا علاقة لها بقضية المسلمين المصيرية، فهذا العالم قد كرّس جل وقته، وأتعب نفسه في تدريس الفقه الذي يتعلق بعلاقة الفرد بخالقه، وأهمل دراسة الفقه الذي يتعلق بالعلاقات بين الناس والدولة والمجتمع، فغلبت عليهم دراسة أحكام الصلاة والصوم والحج والنكاح والطلاق والميراث، وأهملوا دراسة أحكام الجهاد والغنائم والخلافة والقضاء والخراج وما شابهها، وصاروا يدرسون الشرع مسائل روحية وأخلاقية وليس أحكاماً تعالج مشاكل الحياة، وهذا الصنف من العلماء لا يشكل أي خطر على الحكام، فبسطوا لهم البساط، لم تضايقهم سلطة ولم يطاردهم حاكم، بل يزورونهم ويدعمونهم ويشجعونهم على أعمالهم هذه. فهؤلاء خطرهم على الأمة عظيم، لأنهم يدرسون الإسلام أجزاء وتفاريق فيخدرون الأمة، إن أمثال هؤلاء العلماء يحتاجون إلى الدخول معهم في نقاش أن الإسلام فكرة كلية، ومعالجات عملية لمشاكل الإنسان، وأن الاقتصار على نوع واحد من الفقه تقزيم للشرع، فلا بد من دراسة شاملة للفقه الإسلامي حتى يثار شوقهم لدراسته، فيتم استعراض نماذج من الأحكام الشرعية المتعلقة بالعلاقات العامة، وهي الأحكام السياسية، ونماذج من الأحكام الشرعية المتعلقة بعلاقات الأفراد مع بعضهم البعض، ونماذج من الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات والبينات حتى تكتمل الصورة الفقهية الشاملة في الإسلام.
أوليست هذه الأحكام المتعلقة بالدولة من الفقه؟ لذلك من الخطأ والتضليل إهمال دراسة هذه الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة، ومن الخطأ والتضليل عدم ربط الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات بالطريقة الشرعية المتعلقة بتطبيقها، وهي وجود دولة تعاقب تارك الصلاة أو المفطر في رمضان من غير عذر شرعي. فالإسلام دين شامل للحياة بأنواعها: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولة والحكم. وعدم دراسة الأحكام بهذه الكيفية يوقع المرء في الإثم وإن كان عالماً لأنه ترك ما لا يتم الواجب إلا به، فالواجب إيجاد دولة إسلامية؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة، تحكم بالإسلام.
هذه الدولة لا تأتي إلا بدراسة وتدريس الأحكام المتعلقة بها للناس؛ لأن الوعي على الأحكام الشرعية هذه هو ركيزة أساسية من ركائز إيجاد الدولة. وبذلك تكون الدراسة شاملة ومنتجة علماً للدارس وعملاً للمجتمع في الفرد والدولة، فيحصل الإقبال لدراسة أحكام الخلافة والغنائم والجهاد، والعمل في مشروع الخلافة العظيم حتى يتم إرضاء رب العالمين. وبذلك يتم كسب هذا الصنف من العلماء إن كانوا من المخلصين المتواضعين غير المتكبرين.
أحمد عبد الفضيل – أم درمان – السودان
2008-10-30