الإحباط
2016/09/27م
المقالات
2,038 زيارة
الإحباط
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وفطر فيه الطاقة الحيوية فجعلها الدافع لسلوكه, ولذلك لا بد من إشباع هذه الطاقة المتمثلة في الغرائز والحاجات العضوية, ولكن الإنسان بما حباه الله من العقل يكون سلوكه أثناء إرادته الإشباع مرتبطاً بمفاهيم متعلقة بمادة الإشباع وبكيفية الإشباع.
ومفاهيم الناس عن الإشباع مختلفة, فمنهم من جعل المفاهيم الغريزية أساساً لسلوكه دون تحديد لمادة الإشباع ولا لكيفية الإشباع. فكانوا كالأنعام بل أضل سبيلا, ومنهم من اتخذ العادات والتقاليد أساساً لسلوكه فانطبق عليهم قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ) [المائدة: 104]. ومنهم من جعل المبدأ الذي آمن به هو القائد والمسيّر في الإشباع وهو الذي يحدد له أهدافه وغاياته, وهذا ينطبق- تمام الانطباق- على المسلمين الذين آمنوا بالإسلام فكرة وطريقة وحددوا غاياتهم وأهدافهم بما أمرهم الله به, قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[النور: 51[.
ومن هنا اختلفت الغايات والأهداف عند الناس, فهناك أصحاب الأهداف المنحطة التي لا تتعدى إشباع الشهوات والنزوات الأنانية كالحصول على اكبر قدر ممكن من المتع الجسدية والمالية وكالسعي للسيادة على القوم, وهناك اصحبا الأهداف الصغيرة والضيقة التي لا تتعدى البلد الواحد أو الجماعة الواحدة كالوطنيين والقوميين, وهناك اصحبا الأهداف العظيمة والسامية التي تتعلق بالناس جميعا كحملة الدعوة (المسلمين) الذين لا يرضون بأقل من أن لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلى ودخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل. والإنسان أثناء سيره لتحقيق أهدافه وغايته تعترضه عوائق وصعوبات تؤخره أو تمنعه من تحقيق هذه الأهداف, فإذا تكرر فشله أصيب بالإحباط, فالإحباط شعور ناتج عن عدم تحقيق الهدف نتيجة لوجود عائق, والعائق قد يكون داخليا أو خارجيا, فالعائق الداخلي هو ما يكون سببه راجعا لنفس الكيان الذي يقوم بالعمل, سواء أكان فردا أو كتلة أو شعاب أو أمة. فحامل الدعوة إذا لم يكن لديه الفهم الصحيح للأفكار التي يدعو لها فان هذا يشكل لديه عائقا عندما يتصل بالناس, والكتلة إذا عصفت بها المشاكل الداخلية فإنها تشكل لديها عائقا أمام وصولها للغاية المنشودة, والأمة إذا لم تكن على قلب رجل واحد يعتبر ذلك عائقا أمام نهضتها. أما العائق الخارجي فانه يكون لظروف لا علاقة لها بنفس الكيان, كسجن حامل الدعوة, وجمود المجتمع أمام الكتلة, والسيطرة السياسية والاقتصادية من قبل أعداء الأمة. ولهذا فان الإحباط قد يصيب الأفراد والتكتلات, وقد يصيب الشعوب والأمم. ولكن الاختلاف يأتي من حيث تأثير الإحباط على السلوك. فقد يؤثر الإحباط سلبا على الإنسان فيقعده عن العمل حتى لو فشل من أول محاولة. وقد يؤثر إيجابا فيكون دافعا لتكرار المحاولة وان استغرق العمر كله. أما التكتلات – خاصة التي تسعى لإنهاض الأمة – فانه من الطبيعي أن يعترضها الكثير من العوائق والصعوبات أثناء سيرها للتغيير فان كانت تكتلات مبدئية عالجت هذه العوائق دون حيد عن المبدأ القائمة عليه ودون التنازل أو التهاون بأي فكرة من أفكاره الكلية أو الجزئية, ولو أدى ذلك لأن نخسر الكثير من انجازاتها وكوادرها فهي تحارب حتى أخر جندي. وأما إن كانت التكتلات غير مبدئية فإنها ستعمل على تأويل أفكارها جاعلة إياها ملائمة للواقع متوافقة معه بدلا من أن تخضع الواقع لأفكارها, وهذا ما رأيناه من اغلب الحركات والمنظمات والتكتلات, الإسلامية منها وغير الإسلامية. أما الأمم والشعوب فان الإحباط يظهر عندها عندما تعطي قيادتها وثقتها لم هو ليس أهلا لها, وهذا ما حصل مع الأمة الإسلامية عندما خُدعت بحكامها, وظنت أنهم مخلصوها من الضيم والذل الذي تعيشه, وعندما لجأت إلى الحركات والمنظمات التي طرحت الأفكار النتنة ورفعت الشعارات الرنانة والعبارات الفارغة فأوردتها المهالك, فبدل أن تكون القوة متفردة في العالم, والتي لها الكلمة الأولى والأخيرة في الموقف الدولي, أصبحت امة لا يحسب لها حساب, وتنتظر ما يمليه عليها الكفار من حلول لمشاكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبدل أن تكون أغنى امة في العالم أضحت من أفقر الأمم, تتطلع بشوق إلى ما يمن بمن عليها به أصندوق النقد الدولي من المساعدات المشروطة. هذا, ومن المتوقع أن يزداد هذا الإحباط عند الأمة لأنها ما زالت تلدغ من الجحر نفسه, فهاهي تتسابق وراء أفكار جديدة زينها لها الكافر وعملائه من حكام وعلماء السوء المضبوعين بالحضارة الغربية, من مثل الديمقراطية والحرية وحوار الأديان والمساواة وحقوق الإنسان والسلام بين الشعوب…
وللإحباط أثار جانبية تؤخذ بعين الاعتبار, منها:
1- ترك العمل الموصل للهدف والغاية المرجوة, وقد يصل الأمر إلى حد اليأس والانعزال عن الناس, وعدم الاكتراث بما يصيب كتلته أو شعبه أو أمته.
2- محاولة استحداث طرق بديلة للوصول إلى الغاية. وهذا يظهر خطره عندما يتعلق الأمر بالغايات والأهداف المبدئية.
3- زعزعة ثقة الإنسان بصحة الهدف الذي يعمل من اجله وقد يصل به الحال إلى حد الاقتناع بأنه هدف خيالي.
4- إلقاء ألوم على الآخرين محاولة منه نفي التقصير عن نفسه الأمر الذي يصل به أحيانا إلى حد العدوان وإيذاء الآخرين.
وقد عمد الإسلام إلى معالجة الإحباط بطريقة لا تبقي له أثرا في حياة المسلمين, وذلك ببيان قاعدة السببية, وان هناك أفعالا تقع على الإنسان جبرا عنه, وهو ما يسمى بالقضاء. فهاتان الجهتان هما اللتان يمكن أن تسببا الفشل. فالأصل في القيام بالأعمال والنجاح فيها هو ربط الأسباب بمسبباتها ربطا صحيحا وعدم ملاحظة دائرة القضاء حين القيام بالفعل. فالطالب يجب عليه أن يدرك انه لن ينجح في الامتحان إذا لم يدرس, فان فشل في الامتحان لتقصيره في الدراسة لا يحبط لأنه لم يربط الأسباب بمسبباتها. والدولة الإسلامية تدرك أن انتصارها على أعدائها وحملها الدعوة يتطلب منها الإعداد المادي والمعنوي والروحي, فان لم تأخذ بهذه الأسباب وهزمت لا تحبط. والتكتل الصحيح الذي يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية يدرك أن هذا الهدف يتطلب إعداد الرجال القادرين على الصراع الفكري والكفاح السياسي والاتصال بأهل القوة والمنعة, فان لم يأخذ بهذه الأسباب وفشل فانه لا يحبط, وهكذا فالطالب والدولة والتكتل إذا أرادوا تجنب الفشل في المحاولات التالية يجب عليهم أن يعالجوا أسبابه, وان يأخذوا العبر من المحاولات السابقة, وان يعملوا على سد الثغرات في الربط بين الأسباب ومسبباتها, لان الفشل غالبا ما يكون من هذه الجهة. أما أن يكون ذلك راجعا إلى دائرة القضاء فانه ظاهر وواضح ويمكن معرفته بسهولة, فمرض الطالب يوم الامتحان هو من القضاء, وموت من بيده القوة والمنعة هو من القضاء. وقد بين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للمسلمين طريق التغيير بإعداده لمن اسلم معه بالتثقيف وصقل شخصياتهم بالإسلام, ثم بمجاهرة المشركين بالدعوة وبتفصدهم بالنقاش لبيان فساد عقائدهم وأفكارهم وعلاقاتهم ومشاعرهم, مركزا عمله على رؤسائهم ووجهائهم ومن لهم الكلمة عند القوم, حتى إذا جمد مجتمع مكة اتصل بالقبائل لإعطائه القوة والمنعة, مكررا المحاولة بعد الأخرى حتى فتح الله عليه عند الأوس والخزرج, كل ذلك دون ملاحظة دائرة القضاء وما في ألوح المحفوظ. فالوصول إلى هذه الغاية تطلب الأخذ بالأسباب حتى لو كان العامل لها نبيا. والمسلمون يوم احد لم يحبطوا لإدراكهم أن هزيمتهم كانت بسبب عصيان الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه واله وسلم, وتقصيرهم بالأخذ بالأسباب. فلا يجوز للمسلمين اليوم أن يتركوا ثغرا من ثغورهم دون قوة تحافظ عليه, بحجة أن الله سيحميه بالملائكة, فالله لم يأمر بذلك وهذا تقصير يحاسب الله عليه. والغرب قد ادر كان الكون يسير بحسب نظام وقوانين لا يحيد عنها, وما على الإنسان إلا اكتشافها. فوضع هذه النظرة موضع التطبيق ينتج معرفة هذه القوانين والسنن التي تصلح لان تكون قواعد يبنى عليها, ولو كان الأمر غير ذلك لما وجت علوم واكتشافات, ولما وجد هذا التقدم العلمي والذي لم يشهد التاريخ مثله. ولذلك لوحظ أن الإحباط عند هؤلاء شبه معدوم طالما كانت أسباب الفشل ثغرات في ربط الأسباب بمسبباتها. لذلك يجب على التكتلات التي تسعى للتغيير أن لا تعزوا سبب فشلها دائما إلى دائرة القضاء, بل عليها أن تبحث في عدم أخذها بقاعدة السببية بالشكل الفعلي من حيث تحديد الهدف, وربط السبب بالمسبب ربطا صحيحا, والسير وفق قوانين الطبيعة وسنن الكون حين السعي لتحقيق هذا الهدف, ويجب أن يدرك المسلمون, وخصوصا العاملون منهم لاستئناف الحياة الإسلامية أن تحقيق الغايات الصعبة والعظيمة يحتاج إلى إرادة ثابتة ودائمة. فالتصميم على الوصول إلى الغاية هو من أهم ما يحتاجه الإنسان في هذا الجانب, وهذا يتطلب أن يكون هناك إحساس بالحاجة للعمل وان تكون قدراته مساوية لطموحاته.
أبو يعقوب – فلسطين
2016-09-27