شيخ الإسلام مصطفى صبري
2008/08/27م
المقالات
3,802 زيارة
شيخ الإسلام مصطفى صبري
أبو إسراء- بيت المقدس
ليس التاريخ، إذا استثنينا سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة صحبه رضوان الله عليهم، من مواد التشريع والاستنباط، ولكنه بلا شك من عوامل شحذ الهمم وتقوية العزائم، ومن مواد الاعتبار والاتعاظ.
وفي تاريخ المسلمين من شواهد الرجولة والبطولة، ما لو تدبرت فيه أمتنا اليوم لاتعظت، وما لو اطلعت عليه لاعتبرت، فيزداد إيمانها بأن الصراع بين الحق والباطل سنة جرت على من قبلهم، وتجري عليهم وعلى من بعدهم، والعاقبة للمتقين. فقد شاء ربنا سبحانه وتعالى أن يبتلي عباده بالخير والشرّ فتنة، ليعلم ممن ابتلاه بخير مدى شكره، وممن ابتلاه بشر مدى صبره. (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران 140-142].
ومن شواهد مواقف الرجولة والبطولة في تاريخ الأمة الإسلامية – خاصة إبان هدم الخلافة وبعد هدمها- جمهرة من العلماء والرجال.
ومنهم الشيخ مصطفى صبري رحمه الله الذي وقف في وجه الكماليين وأعمالهم الخبيثة، وتحمل الأهوال والشدائد من أجل كشفهم وإعادة الاعتبار للأمة الإسلامية. فحق أن نقف معه وقفة تليق به وبأعماله، فمن هو الشيخ مصطفى صبري؟ وما هي هذه الأعمال التي قام بها؟
الشيخ مصطفى صبري التوقادي شيخ الإسلام في الدولة العثمانية
(1286 هـ/ 1896م – 1373هـ/ 1954م)
حياته
ولد الشيخ مصطفى صبري في تاريخ 12 ربيع الأول 1286 هـ 1869م في الأناضول بمدينة “توقاد” التي ينسب إليها. في أسرة محبة للعلم الشرعي، حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره، أرسله والده إلى مدينة (قيصرية) لمتابعة تعليمه، وهي مدينة مشهورة بعلمائها الكثر، وهناك تعلم العلوم العربية، والعلوم الشرعية، كما تعلم المنطق وأصول المناظرة والوعظ.
ثم انتقل إلى الآستانة لاستكمال تعليمه في جامع السلطان محمد الفاتح، وتلقى العلوم الشرعية والعربية على أيدي الشيخين العالمين، محمد عاطف بك الإستانبولي، وأحمد عاصم أفندي، وبلغ الأمر بالشيخ أحمد عاصم أفندي أن يزوجه ابنته (ألفية هانم) لما وجد فيه من مزايا لم يجدها مجتمعة في غيره من تلاميذه الكثر، وذلك بعد نجاحه في امتحان التخرج، وحصوله على إجازة التدريس في جامع محمد الفاتح عام 1307هـ.
وظائفه
– تم تعيين الشيخ مصطفى صبري مدرساً في جامع الفاتح، بعيد تخرجه وهو في الثانية والعشرين من العمر، وكان جامع الفاتح أكبر جامعة إسلامية في الآستانة آنذاك، وهو منصب مرموق يحتاج إلى جدٍّ واجتهاد وتحصيل.
– صار إمام الدرس السلطاني الخاص، وهو الدرس الذي كان يحضره السلطان العثماني شخصياً في أحد جوامع إستانبول السلطانية، ويحضر معه كبار الأعوان والعلماء، ويلقي الدرس أعلم العلماء.
– في عام 1317هـ عين في قصر يلدز (قصر السلطان عبد الحميد) بوظيفة مدير القلم السلطاني الخاص، ونال في هذه المرحلة عدداً من الأوسمة والميداليات.
– بعد ذلك بمدة قصيرة عين أميناً لمكتبة يلدز، وقد وجد الشيخ مصطفى صبري ضالته في هذه المكتبة التي طالما بحث عنها، فقد كانت غنية بالمخطوطات وكتب التراث الإسلامي، فأكب عليها، وأفاد منها علماً غزيراً جعله في عيون معاصريه بحراً لا ساحل له.
– وفي عام 1322هـ استقال من وظائفه، وفضل عليها العودة إلى التدريس، وصار مدرساً لمادة التفسير في مدرسة الوعاظ، وفي معهد العلوم الشرعية في دار الفنون، ثم انتقل بعدها إلى مدرسة المتخصصين، ليدرس فيها صحيح الإمام مسلم.
– في عام 1323هـ عين عضواً في هيئة تدقيق المؤلفات الشرعية التابعة لدائرة المشيخة الإسلامية.
– عين شيخاً للإسلام مرتين.
– عين عضواً في دار الحكمة الإسلامية.
– عين مدرساً لمادة الحديث الشريف في دار الحديث.
– عينه السلطان محمد وحيد الدين عضواً في مجلس الأعيان العثماني.
مصطفى صبري وكفاحه السياسي
خاض الشيخ غمار المعترك السياسي في ظروف دقيقة وخطيرة كانت تمر فيها الدولة العثمانية، ورأى الشيخ ضرورة اقتحام هذا الميدان الحيوي الذي تباعد عنه العلماء، واقتحمه اللادينيون كجمعية الاتحاد والترقي الماسونية التي استولت على مقاليد الأمور، وما تلا ذلك من خلع السلطان عبد الحميد الثاني ومن هزيمة الدولة في البلقان، وفي طرابلس الغرب.
بدأ مصطفى صبري عمله السياسي بعد الإعلان عن إعادة العمل بالمشروطية الثانية (الدستور) سنة 1326هـ وخاض الانتخابات النيابية، ونجح في «مجلس المبعوثان» العثماني عن دائرة سنجق توقاد، سنة 1326هـ، وكان من أنشط النواب فيه: في حضور الاجتماعات، والمشاركة، في الندوات ودورات المجلس، ومناقشاته الصاخبة، وقد تنبه الشيخ لضرورة وأهمية العمل الحزبي فانضم مع بعض إخوانه إلى حزب الائتلاف والحرية الذي جمع في صفوفه من الترك والعرب والأروام الذين تصدوا للنـزعة الطورانية التي اتسم بها الاتحاديون، وصار نائباً لرئيس هذا الحزب، والناطق الرسمي باسمه، وجعل من «مجلس المبعوثان» منبراً لبيان الحق والدعوة إليه، ونظراً لقدرته الفائقة في الخطابة صار أبرز الدعاة للحزب، المروجين لأفكاره وسياساته المضادة لسياسة الاتحاديين، وبذلك كسب كثيراً من الجماهير، وصار هذا الحزب يشكل خطراً حقيقياً على حزب الاتحاديين.
كما انتخب رئيساً، للجمعية العلمية الإسلامية التي أصدرت مجلة (بيان الحق) وأسندت رئاسة تحريرها للشيخ مصطفى سنوات طويلة.
كانت هذه المجلة من أهم المنابر السياسية الكاشفة لسياسات جمعية الاتحاد والترقي وأفكارها، وكان الشيخ مصطفى يهاجم فيها الاتحاديين، ويفضح سوءاتهم ومخازيهم وصلاتهم المشبوهة باليهود.
ولما استفحل أمر الاتحاديين وقوي نفوذهم فرّ من اضطهادهم عام 1913م إلى مصر، وأقام فيها مدة من الزمن، ثم ارتحل إلى أوروبا، وتنقل في عدد من دولها، وعندما دخلت الجيوش العثمانية مدينة بوخارست، أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان يقيم فيها، قبضوا عليه، وأعادوه إلى الآستانة، وظل معتقلاً حتى انتهت الحرب بهزيمة الاتحاديين، وفرار زعمائهم، فخرج من المعتقل، وعاد إلى نشاطه السياسي، وعين عضواً في دار الحكمة، وعندما أعيد تشكيل حزب الائتلاف والحرية من جديد، وبعد توليه السلطة في البلاد، عام1337هـ عين مصطفى أفندي صبري رئيساً لـ«مجلس المبعوثان» العثماني ثم تولى منصب شيخ الإسلام، وفي أثناء هذه المشيخة، تولى الشيخ مصطفى صبري منصب الصدر الأعظم بالوكالة، طوال مدة سفر الصدر الأعظم (داماد فريد باشا) إلى فرنسا، لحضور مفاوضات مؤتمر الصلح في فرساي قرب باريس، وظل في منصبه إلى سنة 1920 م فتركه عندما اختلف مع بعض الوزراء ذوي الميول الغربية.
وعندما استولى الكماليون على العاصمة فرّ إلى مصر سنة 1923م، ثم انتقل إلى ضيافة الملك حسين في الحجاز التي انتهت بسرعة، وذلك بسبب أن الشيخ قد علم أن الملك حسين هذا يطلب الخلافة لنفسه، فلما فاتحه الشيخ بذلك طلب منه ضرورة مغادرة الحجاز بسرعة، وهكذا كان حيث ذهب إلى مصر.
وفي مصر احتدم النقاش بينه وبين المتعصبين لمصطفى كمال فسافر إلى لبنان، وطبع هنالك كتابه (النكير على منكري النعمة) ثم سافر إلى رومانيا، ثم اليونان، وأصدر فيها مع ولده إبراهيم جريدة (يارين) ومعناها (الغد) مدة خمس سنوات، ثم غادر اليونان إلى مصر، بعد أن طالب الكماليون اليونان بتسليمه، واستقر فيها، وكانت الصحافة المصرية قد تحدثت زمناً طويلاً عن التطور الذي طرأ على الخلافة بتجريدها من السلطة، واحتدمت المعركة حين قدم إليها، وأراد أن ينبه المصريين إلى ما يضمره الكماليون للإسلام وشريعته وأهله، وما ينطوون عليه من خبث النية وفساد الدين، وأن الخلافة التي ابتدعوها مجردة عن السلطة ليست من الإسلام في شيء، وأن فصل الدين عن الدولة ليس إلا وسيلة للتخلص من سلطانه، والتفلت من شريعته وقيوده، وتجاوز حدوده، وظن الناس وقتذاك، أن الشيخ مدفوع في مهاجمته للكماليين ببغضه لهم.
مصطفى صبري سياسياً مفكراً
أيقن الشيخ مصطفى صبري أن أخطر ما تتعرض له الأمة هو خطر الغزو الثقافي الذي تبدى في الهزيمة النفسية للمثقفين المسلمين عامة والعرب خاصة، أمام الثقافة الغربية التي ملكت عليهم أقطار عقولهم، وأحلوها من قلوبهم ونفوسهم محلاً ما كان ينبغي لهم أن يحلوها فيه.
ظهر له هذا في المقالات التي تنشر في الصحف المصرية، وما تطرحه المطابع من دوريات وكتب، فتصدى لها بالنقد، وألف العديد من الكتب التي ترد عليها وبذلك صار لكتبه -إلى جانب قيمتها الفكرية- قيمة تاريخية، إذ أصبحت سجلاً صادقاً للحياة الفكرية المعاصرة.
ففي كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة)، بحث مسألة الخلافة من الناحية السياسية، وهاجم الكماليين وبيّن فسادهم، ونفر العالم الإسلامي عامة ومصر خاصة منهم، وحذر من شرورهم، ونبه المسلمين إلى سوء نياتهم في التفريق بين الخلافة والسلطنة، وبين دوافع هذا التفريق، وأوضح الآثار المترتبة عليها.
وتحدث عن فساد دين الكماليين، وعن تعصبهم للجنس التركي، ومحاربتهم للعصبية الإسلامية، واستخفافهم بالقرآن، وبتعاليم الإسلام، وأنها غير صالحة للقرن العشرين، وقدم نماذج من كتابات كتابهم الداعين إلى التخلص من سلطان الدين، وإبعاده عن سياسة الدولة، اقتداء بالأوروبيين، وذكر كلمة لأحد غلاة الكماليين من الترك في أحد كتبه: «إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم»، وقدم الشيخ أمثلة بالقوانين التي خالفوا فيها الشرع.
وأن الكماليين خرجوا من عباءة الاتحاديين الملاحدة، ولا فرق بينهم، فهم مثلهم في صلتهم باليهود، وتواطئهم مع الإنكليز، ورد على الذين نصحوه بعدم مهاجمة مصطفى كمال أتاتورك، لتعلق المسلمين به، وقال لهؤلاء: «ليست من وظيفة العلماء محاباة العامة، ومجاراة الدهماء، بل وظيفتهم إطلاع الناس على حقائق الأمور، ولا بد من بيان عصبية الكماليين لقوميتهم التركية وتعصبهم لطورانيتهم إلى حد العداوة للإسلام، ومهاجمته باعتباره ديناً عربياً، وإحيائهم وإحلالهم المشاعر القومية محل المشاعر الإسلامية».
وتجدر الإشارة هنا أن الشيخ رحمه الله قد تنبّه إلى خطر تحوّل السلطان إلى قوة مادية غير مستندة إلى الأمة، وتحكم العسكريين بسياسة الدولة الخارجية، وأنهم أي العسكريّون هم الذين يحفظون سلطان الدولة والأمة، ومنهم يستمد الحاكم سلطانه خاصة أن القوة المادية بيدهم، وأنهم قادرون على خلع السلطان والإتيان بغيره، فقد عانت الأمة الإسلامية من خطر وجود دور للعسكريين في السلطان ما عانت من تسرب الخلل إلى كيان الدولة والأمة ثم إلى زوال الدولة الإسلامية من الوجود، وعين هذا ما حصل، فقد استطاع الإنجليز -السياسيون منهم- إغراء العسكريين في إستانبول وعلى رأسهم مدحت باشا والضباط الذين معه في تبديل المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية التي كانت في جهاز الدولة إلى مفاهيم وقناعات غير إسلامية، ولا سيما بعد الانقلاب الذي جاء بعبد الحميد خليفة، والانقلاب الذي أطاح به عن الخلافة، وجاء بمحمد رشاد خليفة. حيث أكّد أن الكماليين والاتحاديين حزب واحد وكلاهما لا يستند إلى القوة المشروعة التي تستند إليها الأحزاب السياسية، ولكنه يستند إلى الجيش. (بيد أن العسكر كان في زمن الاتحاديين بمنـزلة الآلة وقوة الظهر لسياستهم، فترقّت تلك الآلة في الدورة الكمالية وغدت عاملة بنفسها. وربما كان يُشَامُ في زمن الاتحاديين بعض من علامات المنافسة والمطاولة بين فرعيهم العسكري وغير العسكري، فينتظم الميزان بحذاقة “طلعت”. والآن رجحت كفة العسكريين. فلعنة الله على الاتحاديين الذين أدخلوا السياسة في الجيش، فسنوا بهذا سنة سيئة صارت آفة على الدولة، وصار الجيش آفة على الدولة، وقادوا الإمبراطورية إلى حربين ضيعوا فيهما الخلافة والدولة والأمة)، فلو لم يكن للشيخ إلا هذا التنبّه والفهم العميق لهذه المسألة الخطيرة، لَكَفاه وعُدّ من السياسيين الملهمين.
كما وأوضح صلة الكماليين -والاتحاديين من قبل- باليهود، فيورد كثير من الأمارات حول هذه المسألة، حيث يرى أن لليهود إصبعاً في إسقاط السلطان عبد الحميد، ويستدل عليه بأن”قره صوه” اليهودي الاتحادي الشهير هو الذي أبلغه قرار خلعه، ويقول في هذا الصدد: «ولن تجد ملة أو قوماً خارج بلادنا وداخلها دامت مودة الاتحاديين والكماليين معهم إلا اليهود»؛ ولهذا لم يسلم جنس من عدوانهم في تركيا، لا الألبان، ولا العرب، ولا الأكراد، ولا الأرمن، ولا الشراكسة، ولا الروم.. ما سلم من عدوانهم إلا اليهود.
وفي كتابه (مسألة ترجمة القرآن)، ناقش شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي في مقاله (بحث في ترجمة القرآن وأحكامها) الذي كان فيه صدى لما فعله الكماليون في تركيا، الذين أمروا بترجمة القرآن إلى اللغة التركية، وحملوا المسلمين على الصلاة بها، بدلاً من لغة القرآن الكريم، رد على المراغي الذي جوز الصلاة بالقرآن المترجم إلى التركية، كما رد على محمد فريد وجدي الذي أيد صنيع الكماليين. وقد نقل الشيخ صبري نقولاً كثيرة من مقال المراغي، ومقالي وجدي في معرض الرد عليهما، ناقشهما، وبين فساد آرائهما من الناحية الشرعية بأدلة كثيرة قوية، ونبه إلى ما سوف ينجم عنها من أخطار، كما رد على ما أباحه المراغي من جواز الاجتهاد في الفقه استناداً إلى الترجمة.
وفي كتابه (موقف البشر تحت سلطان القدر) رد على من زعم أن تأخر المسلمين وتواكلهم وانحطاطهم وتخلفهم إنما يرجع إلى إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، وفند آراءهم ومزاعمهم بحجج قوية.
وفي كتابه (قولي في المرأة) ومقارنته بأقوال مقلدة الغرب، سدد طعناته عبر ردود قوية ومفحمة لأصحاب الدعوات المشبوهة التي جرت الناس إلى مستنقعات التهتك في التبرج، والابتذال على الشواطئ والاختلاط الداعر. وهو رد على اقتراح اللجنة التي تقدمت به إلى مجلس النواب المصري، مطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية، والأخذ بمبدأ تحرير المرأة، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، وما إلى ذلك من أمور أخذتها اللجنة متأثرة بالدعوة إلى التغريب من أوروبا.
وفي كتابه (القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون) رد على الماديين الملاحدة الذي يشككون في وجود الله تعالى، وعلى الذين ينكرون الغيب والنبوة والمعجزات، وعلى العلماء الذي يؤولون المعجزات تأويلات تساير روح العصر المادي، حتى صار إيمانهم بالعلم المادي فوق إيمانهم بكتاب الله وسنة رسوله.
ومن رأي الشيخ أن أخطر ما ابتلي به المدافعون عن الإسلام من الكتّاب الذين تثقفوا بالثقافات الحديثة المغيبة عن الدين، لأن المستشرقين قد نجحوا في استدراجهم إلى أن يُنـزلوا النبي الكريم منـزلة العباقرة والزعماء حتى إنهم حين يدافعون عما يوجه إليه من افتراءات يدافعون عنه من هذه الزاوية، وعلى هذا الأساس، ويفعلون ذلك باسم العلم… والواقع أن ذلك نزول بالإسلام إلى أن يصبح مذهباً فكرياً أو سياسياً أو فلسفياً ككل الآراء، ونفي للصفة الأساسية في كل رسالة سماوية، وهي أنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى.
وأما كتابه البديع (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين)، وهو آخر ما ظهر للمؤلف من كتب في حياته، وطبعه عام 1950م في أربعة مجلدات كبيرة، فقد احتوى خلاصة آراء الشيخ في السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفقه، كما احتوى معاركه الفكرية مع عدد من أعلام عصره، كالمراغي، ووجدي، والعقاد، وهيكل وسواهم.
وذكر الشيخ أنه ألف هذا الكتاب بعد ما رآه في تركيا من انصراف المتعلمين عن الدين، وما يراه في مصر من مثل ذلك الانصراف.
قال في مقدمته، مخاطباً روح أبيه: (لو رأيتني وأنا أكافح سياسة الظلم والهدم والفسوق والمروق في مجلس النواب، وفي الصحف والمجلات، قبل عهد المشيخة والنيابة وبعدهما، وأدافع عن دين الأمة وأخلاقها وآدابها وسائر مشخصاتها، وأقضي ثلث قرن في حياة الكفاح، معانياً في خلاله ألوان الشدائد والمصائب، ومغادراً المال والوطن مرتين في سبيل عدم مغادرة المبادئ، مع اعتقال فيما وقع بين الهجرتين، غير محِسٍّ يوماً بالندامة على ما ضحيت به في هذه السبيل من حظوظ الدنيا ومرافقها- لأوليتني إعجابك ورضاك).
وكان الشيخ فيه عنف على من رأى فيهم خصوماً في الفكر والتوجه، ولولا تلك الحدة والشدة لكان كاتباً فريداً في بابه ، ولكنه كان سيفقد أهم ما تميز به قلم الشيخ الذي لقي الألاقي في عمره المديد.
فقد تصدى للمستغربين، ورد على ما يثيرونه من شبهات حول الإسلام والداعين إليه، من مثل قولهم: (كيف يمكن أن تكون الحكومة حرة ومستقلة إذا قيدت نفسها بالدين؟) ورد على زعم المستغربين: إن العلماء المعممين ليسوا من ذوي الاختصاص ولا يعتد بهم وبعلمهم الشرعي، ودعا العلماء إلى الاشتغال بالسياسة وقال: “فالعلماء المعتزلون عن السياسة، كأنهم تواطؤوا على أن يكون الأمر بأيديهم -بأيدي السياسيين- ويكون لهم -للعلماء- منهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن كل نفوذ سياسي”.
كما تضمن كتاب “موقف العقل” مسائل مهمة نذكر منها:
– كشَف المؤامرات التي تعرّض لها الإسلام من زاويتي التحدي بالسلاح من خلال هجمات الغربيين، والتحدي الفكري العقدي الذي تقوده قوى الإلحاد والفجور، فعمل بهذه المطارحات على مجابهة الفريقين.
– بيّن في كتابه قيمة الدليل العقلي مقارنة مع الأدلة التي استند إليها المثقفون الغربيون أو المتغربون. فبرهن بأن الدليل العقلي أيقن من الدليل التجريبي.
– ناقش أدلة فلاسفة الغربيين على وجود الله، كما ردّ شبه النافين من الملاحدة. وهذا الجهد يدل على إحاطته بالفكر والفلسفة الغربيين عامة بخلاف ما ذهب إليه بعض الباحثين.
– حارب الشبه المعربة عن الفكر الغربي (المترجمة)، والتي منها الاستخفاف بالدليل العقلي والاستناد الكلي للدليل التجريبي، حتى غدا المنهج التجريبي هو المنهج الأصيل والوحيد الممثل للثقافة الإسلامية.
هذا ولقد نشر للشيخ مصطفى صبري مقالات باللغة التركية والعربية في الجرائد اليومية، كما نشر له مقالات في المجلات العلمية في تلك الفترة.
أقوال العلماء فيه
قال عنه محب الدين الخطيب: «فحل الفحول الصائل الذي يعد فضله أكبر من فضل معاصريه» لأنه دافع عن الإسلام في أيام كان فيها الانقضاض على الإسلام باسم الإسلام وبمباركة علمائه.
وقال عنه الشيخ زاهد الكوثري “قرّة أعين المجاهدين”، وقد مدحه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قائلاً “إن كتابه موقف العقل هو كتاب القرن بلا منازع”، وقال الشيخ البوطي عن كتابه آنف الذكر “هو كتاب لا مثيل له”.
وضعه المادي
عانى شيخنا رحمه الله طوال حياته من الفقر الذي كان به فخره؛ فقد عاش فقيراً ومات على تلك الحال غير آبه بجمع حطام الدنيا. وأكبر شاهد على هذا اضطراره إلى بيع كتبه ليحصل على ثمن تذاكر سفر من الدرجة الثالثة بالباخرة له ولسائر أفراد أسرته، وذلك من الآستانة إلى الإسكندرية، وهذا رغم توليه منصب “شيخ الإسلام” لسنوات عديدة.
وكانت شجاعته مضرب الأمثال بين علماء عصره؛ فقد حارب الاتحاديين وعلماء الدين المتغربين، ولحقه من جراء ذلك أذى كبير من قبل المثقفين والساسة. وقد عمل طوال حياته على تغيير الوضع نحو الأفضل، وقد زاد نشاطه منذ أن أحس بالخطر المحدق بالدين الإسلامي في العالم الإسلامي، وبقي على ذلك المنهج غير متزعزع أو مستجيب لترغيب أو لترهيب.
توفي الشيخ مصطفى صبري رحمه الله في القاهرة 7 رجب 1373هـ الموافق 2 من مارس 1954 م. رحم الله هذا الشيخ وأجزل مثوبته، ونفعنا بتجربته وأفادنا من علمه، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
2008-08-27