جَسْرُ الهوّة بين حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها
2016/09/26م
المقالات
1,801 زيارة
جَسْرُ الهوّة بين حاضر
الأمة الإسلامية ومستقبلها
أبو إبراهيم – بيت المقدس
إن جَسْرَ الهوّة، والتغييرَ الهائل المقبل، الذي سيستَهَلُّ ببدء الحياة اليومية مع الفجر، لتأخذ القيلولةُ حيِّزَها وَسْطَ النهار، ولينتهي اليومُ بعد صلاة العشاء، هذا التغيير حقيق لأن يُشْرَح ويفصَّل وتصنف فيه الأسفار الكبيرة، وحري لأن ينبري لإحداثه أصحابُ الهمم التي لا تَفْتُر، فانه لا يتم للكسالى والعاجزين، بل أهلٌ له أمّة تتعلق به وتهواه، أمّةٌ بآمال عريضة وإحساسٍ بالعظمة والعراقة، وهذا في الأمة الإسلامية.
تعيش الأمة الإسلامية حاضراً وواقعاً يختلف عن ماضيها وعن مستقبلها وحياتها القادمة في اللون والشكل، وفي الأشياء جميعها صغيرِها وكبيرها.
فهي تعيش في حاضرها وواقعها ثلاثةَ أمور عليها مدارُ الدنيا. أولها عَزْلُ الإسلام عن الحكم، وعن ضبْط الحياة وصياغة المجتمع. وثانيها فقدانُها لسيادتها وقرارها، وتحكُّمُ الكافرِ المستعمر بها. وثالثها حالة الفوضى والتخلف المدني والصناعي والإداري.
وسوف يتسنى للأمة الإسلامية، بتوفيق الله، إعادةُ الإسلام إلى الحياة وحمل الدعوة إلى العالم، وفي الوقت نفسه التخلصُ من الغرب والمأجورين من الحكام، والاستقلالُ بالبلاد بإقامة الخلافة الراشدة، الأمر الذي سيكون أعظم حدث في تاريخ البشرية بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وتحتل إقامة الخلافة وتطبيقُ الإسلام في الداخل وحمله دعوةً إلى الخارج الجزءَ الأكبر والحيّزَ الأعظم من حركة التغيير للوصول إلى المستقبل المنشود للمسلمين. وفي التخلص من التبعية للغرب، وتطبيقِ الإسلام وحملِ الدعوة كسرٌ لمختلف القيود التي وضعها الكفار على رقاب المسلمين وأيديهم للاستحواذ على مقدراتهم، وللحيلولة دون العيش الكريم ودون حمل الإسلام بالجهاد رسالةً إلى العالم.
ويواكب وضْعَ الإسلام وأحكامِه موضعَ التطبيق حركةُ تغييرٍ وبناء في الجانب الآخر من الحياة، غيرِ الجانب الحضاري، وهو الجانب المدني ليكون أكبر حركةِ تغيير، أو قُلْ: أكبرَ بناء تشهده المعمورة منذ خُلق آدم عليه السلام حتى الآن. ذلك أن حركة البناء المدنية هذه لن تدع شيئاً في طول بلاد المسلمين وعرضها دون أن يلحقه الإلغاء أو التبديل أو التحسين. وسوف تشهد، وبنجاح منقطع النظير، بتوفيقه سبحانه المنعم القادر، للتصنيعَ، والزراعةَ والتعليم والتطبيب والرياضة والإدارةَ والإعلام والتجارة والفنونَ والعلوم والاتصالاتِ والنقلَ والأمن والسلامةَ في العمل والتخطيط والوقاية والبيئة، كل هذا وغيرُه كثير هو في الجانب المدني، وهو غيرُ تطبيق الإسلام وغيرُ الأعمال الضخمة التي ستقوم بها الخلافة من تطبيق للإسلام ووضع وللقوانين التي تتناول شتى مناحي الحياة، وغيرُ رعاية الشؤون. فالدولة مثلاً تمنع تأجير الأرض للزراعة وتضع يدها على الأرض الزراعية المعطلة، وترشد المزارعين وتوجههم وترسم سياسة زراعية ناجحة، وتتدخل، حسب ما يلزم، في المشكلات الزراعية التي تشمل العموم، ولكنها تترك كل مزارع ليتغلب على مشكلاته الخاصة، التي قد تتعلق بأرضه أو بموقعه أو بنوعية إنتاجه أو حجم إنتاجه أو …الخ. فالدولة لن تباشر أو تزاول مهنة الزراعة في البلاد، وستترك ذلك للمزارعين. وهكذا بالنسبة للصناعيين والحرفيين وكل مواقع الإنتاج الأخرى، ستقع مسؤولية تشغيلها على عاتق أصحابها. وتأتي أهمية بحث التغيير المدني لسببين: أولهما: ضخامته وحاجته إلى رصد طاقات الأمة من اجله. وثانيهما: أنه تغيير لا يتم عبر أجهزة الدولة وكوادرها فحسب، بل للأمة وتوجهها نصيب الأسد فيه.
وإذا القينا الضوء على التصنيع وما سيكون عليه الحال في المستقبل، كان في ذلك دلالة على حجم الإنجاز المطلوب. فالتصنيع أول أمر نروم تغييره في بلاد المسلمين، وتغييرَ ما يلحقه ويتصل به، من أجل الوصول إلى الإرهاب في تصنيع السلاح، للذب عن حياض الإسلام وحمل الدعوة، ومن أجل الكفاية في التصنيع التجاري، القادر في نفس الوقت على المنافسة في التجارة العالمية. ويدخل في هذا أيضاً العمل المنظم والجدي لتوفير المواد الخام، ولتحضير الكوادر والأشخاص المؤهلين من الداخل والخارج، والحصول على المعلومات والأسرار العلمية بالبحث في المختبرات القادرة، التي يتم إنشاؤها، وبالأخذ ممن يملك هذه المعلومات من المنتجين في العالم. وفي الوقت نفسه فإن الوصول إلى تحضير وتوفير الأشخاص والمعلومات والمواد لا يتم إلا من خلال تحضير أجهزة مؤهلة وعالية المستوى.
ولمعرفة حجم الإنجاز المطلوب لتأسيس صناعة حقيقية في البلاد، لا بد من معرفة أن الصناعة الثقيلة والصناعة الحربية هما رأس الحربة في التصنيع. وكذلك لا بد أن يكون واقع الصناعة المتجسدُ في الدول الصناعية واقعاً واضحاً ومشخصاً في الذهن. فلا بد من معرفة أن البدء بصناعة بعض الأشياء المعدودة ضربٌ من ضروب الخيال، فالصناعة أمر يقوم على التكامل في مقدمات الصناعة وأسبابها، والتكامل في مراكز الإنتاج الصناعي المختلفة. وصناعة شيء واحد تحتاج إلى كل المقدمات التي تلزم لصناعة معظم الأشياء. فالتصور الصحيح للصناعة يقتضي إمكانية صناعة معظم الأشياء مع احتمال العجز عن صناعة البعض القليل لمسائل ظرفية، وليس إمكانية صناعة القليل من الأشياء مع العجز عن صناعة معظم الأشياء. ويعني هذا كله أنه رغم أن الصناعة تدور مع القرار السياسي: فتوجد بوجوده وتنعدم بفقدانه، فإن تنفيذ القرار وتجسيده صناعةً حقيقية في البلاد أمرٌ يمكن تصور ما يحتاج إليه من الطاقة والجهد والبذل بتصور الجهد الذي يبذله شعب صناعي في تسيير صناعة بلده وتشغيلها في يوم واحد وتصور البذل المطلوب لتأسيس ذلك كله وتشغيله.
والتعليم مثلاً، وله أولوية في التغيير، يشمل الثقافة ويشمل العلوم. أما التغيير في موضوع المعارف الثقافية فإنه أوثق ارتباطاً وأقرب إلى الحصول بإقامة الخلافة والانعتاق من الكفر والاستعمار، ذلك مع ملاحظة أن إدراج الثقافة الإسلامية الخالصة من كل شائبة في برنامج التعليم، وإعادة تصحيح وتنقيح وإدراج المواد المعرفية المنسجمة مع العقيدة الإسلامية، وإعادة برمجة وتأهيل القائمين على برنامج التعليم… كل ذلك وللوصول إليه لا بد من تسخير أحسن الطاقات والمؤهلات باعتبار أن التعليم عصب هام في العيش.
وسيكون وضع العلوم للتغيير مختلفاً عن المعارف. فقد حظيت المعارف خلال سنوات العمل لاستئناف الحياة الإسلامية – خصوصاً شقها المتعلق بوجهة النظر عن الحياة – بالدراسة والبحث والتمحيص والتنقيح لتخرج صورة الإسلام واضحة وخالصة ومبلورة، ووجد لها في الوقت نفسه العدد الوفير من الدارسين والفاهمين من حَمَلَة الدعوة الذين سوف يكونون جاهزين، لا بل متحفزين لبث أفكار الإسلام الصافية بين صفوف الأمة. وهذا كله لم تحظ العلوم منه بشيء، لذلك لا زلنا وسنبقى حتى إقامة الخلافة على نفس الحال التي صنعها الكافر المستعمر الشره. والذي صاغ التعليم في جانبه العلمي بحيث يحول دون أن يستفاد من العلوم التي يحملها أبناء المسلمين بشيء، سوى استعمال آلته وصيانتها. ولعل الكافر قد غالى في سوء صناعة أوضاعنا لدرجة أصبح معها المتعلمون من أبنائنا عاجزين حتى عن صياغة آلة الغرب وآلة الكافر المستعمر.
والحاصل أن مواد التعليم العلمية في العالم الإسلامي مماثلة إلى حد كبير لتلك التي في الدول الصناعية، وتلقي أبنائنا لهذه العلوم في بلادنا أو في الدول الصناعية لم يؤدِّ إلى وجود علماء قادرين وجاهزين للإنتاج كما هو حاصل مع أبناء الدول الصناعية. ويرجع السبب في جزء كبير من ذلك إلى أن العلوم التي توفرها الأكاديميات تفتقد إلى حلقات تربطها بالتطبيق والإنتاج والصناعة، وتبقى هذه الحلقات حكراً على المستثمرين والمنتجين، بحيث يكتسبها المتعلمون والدارسون عند العمل في التطبيق والإنتاج.
ومن أجل جَسْرِ الهوّة بين الموجود في واقع التعليم وبين ما يجب أن يكون عليه الحال في المستقبل، لا بد من إضافة الخبرة والصبغة العملية على العلوم، ويتم ذلك بوضع البرنامج الملائم للتعليم، والذي يربط التعليم بالصناعة أولاً، ويوجد خبراء بين صفوف القائمين على التعليم ثانياً.
إن تناول الصناعة والتعليم بشيء من الدراسة لواقعهما ولما سوف يكونان عليه في مستقبل الأمة بعد استئناف الحياة الإسلامية، يوضح إلى حد ما، ضخامةَ العمل المطلوب من الأمة إنجازُه، ليصير التعليم والصناعة على مستواهما اللائق. فالصناعة والتعليم مجرد مثالين في مجال التغيير الذي سيُسْتَهَلُّ ببدء الحياة اليومية مع الفجر، لتأخذ القيلولة حيزها وسط النهار، ولينتهي اليوم بعد صلاة العشاء، وهذا التغيير حقيق لأن يشرح ويفصل وتصنف فيه الأسفار الكبيرة، وحريٌّ لأن ينبري لإحداثه أصحابُ الهمم التي لا تفتر، فإنه لا يتم للكسالى والعاجزين، بل أهلٌ له أمّةٌ تتعلق به وتهواه، أمة بآمال عريضة وإحساسٍ بالعظمة والعراقة، وهذا في الأمة الإسلامية.
والأمة الإسلامية وإن كانت تعيش الآن فترة سبات ربما يكون عميقاً، فالرجال فيها كامنون، وهي مهما توالت عليها الخطوب فستبقى الأمةَ التي تضاف للإسلام، الدينِ الدينامي الصحيح. ولمعرفة إذا ما كان الإسلام كفيلاً بأن يؤدي إلى التغيير المدني المطلوب أم لا، لا بد عند الحديث عن إمكانيات المسلمين ووجود الطاقات الكامنة في الأمة أن يدرس الأمر بعناية وتدقيق. ودراسة دور الإسلام في سياق الحديث عن تغيير واقع المسلمين المدني تُرِي أن حركة التغيير المدني لا علاقة لها بمبدأ الإسلام من جهة، وترتبط بمبدأ الإسلام من جهة أخرى.
أما وجه عدم ارتباطها بالإسلام، فلأنها حركة تغيير مدني تعتمد وتقوم على الأسباب والمسببات، وهي كما ورد في الحديث الشريف في موضوع تأبير النخل قول الرسول صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
وأما وجه ارتباطها بالإسلام فلأسباب منها:
-
إن حمل الدعوة إلى العالم لا يتم إلا بنهضة مدنية متميزة من أجل صناعة السلاح المتطور وما يتعلق به، ومن أجل ضرب المثل للإنسانية عن الحياة في ظل الإسلام، وكيف يكون التقدم والتطور والصناعة والإنتاج ثمرة من ثمارها.
-
إنها نهضة مدنية في مجتمع يصوغه الإسلام ويشكله بشكله، فلا بد من أن يتناغم التغيير مع حياة المسلمين الإسلامية، ذلك أن حياتهم في جانبها الخاص بالإنتاج تختلف عن حياة غير المسلمين في الدول الصناعية، وذلك للاختلاف في وجهة النظر عن الحياة وفي فلسفة الإنتاج. ففي الدول الرأسمالية الصناعية مثلاً، تقوم مؤسسات غاية في الضخامة بعملية الإنتاج، سواء امتلك رأسماليون هذه المؤسسات أم كانت ملكاً لعدد كبير من الناس – في صورة شركات مساهمة عامة – وتوظف تلك المؤسسات الضخمة عمالاً ومديرين، فيلاحظ أن الغالبية من الناس في تلك البلاد عبارة عن موظفين، وهذا أمر افرزه المبدأ الرأسمالي.
أما المسلمون فطراز الحياة عندهم يختلف وطبيعة الإنتاج عندهم تختلف، ونرى أن المشاريع التي تقوم على الشخص الواحد أو على نفر من الأشخاص هي الأكثر شيوعاً وهي التي تتبنى معظم الإنتاج.
ونرى أن مسؤولية الإنتاج تقع على عاتق عدد محصور عند الرأسماليين، فإدارة الشركات وتسيير أعمالها يتولاها النخبة المؤهلة والقادرة من الأشخاص، ويقوم العدد الكبير من العمال بالإنتاج ضمن إشراف وتوجيه وقرار النخبة. أما مسؤولية الإنتاج عند المسلمين فتقع على عاتق عدد هائل، بل ربما كان على عاتق العموم، فأصحاب القرار والمسؤولون كثيرون بكثرة المشاريع.
-
ومن أسباب ارتباط التغيير المدني بمبدأ الإسلام كذلك أن المسلمين يحملون الإسلام مبدأ، ويؤهلهم هذا الفكر الراقي الصحيح للارتقاء بأنفسهم والنهوض نهضة صحيحة ما سيساعد على ارتقائهم وتميزهم في الجانب المدني.
هذا بالنسبة للحجم الهائل للإنجاز المطلوب، وبالنسبة لدور الإسلام بوصفه مبدأ تحمله الأمة وأَثَرِه في التغيير.
أما بالنسبة للأمة واندفاعِها للتغيير، فإنه ما من شك في أن حمْلَها للإسلام وفكرِه الصحيح الناهض، فضلاً عن الحاجة والطلب والربح والخسارة والتنافس، كل ذلك كفيل بأن يؤدي إلى التغيير المطلوب. ولكن من الخطأ الاعتماد على ذلك وعلى سيره الطبيعي، خصوصاً إذا أريد قطف الثمار بسرعة. فلا بد من سلوك السبل التي تؤدي إلى اندفاع الأمة ورصد طاقاتها للوصول إلى التغيير بأقصى سرعة.
ورصد طاقات الأمة الهائلةِ التي لا يقوم التغيير إلا بها أمر منوط بإرادته وتوفيقه تعالى، وبشبابٍ من أبنائها المخلصين يأخذون بيدها، حتى إذا ما قامت الخلافة وطُبِّق الإسلام في الداخل، وحُمِلَ إلى الخارج دعوةً، شَرَعَت الخلافة في توجيه إحساس الأمة والتأثير على دوافعها لصقل رغباتها، ولتتعلق بقلبها بالأهداف السامية لخدمة الإسلام ودعوته، ولإحداث التغيير المدني المطلوب.
والعمل في اتجاه التأثير على دوافع الأمة هو غير العمل في التوعية والتوجيه والتعليم ومخاطبةِ العقل، وهو غير تحرك الأمة نحو التغيير بفعل إدراكها وقناعاتها. فهو حَضُّ الأمة على التغيير بتحريض وإثارة دوافعها ورغباتها. ويعني ذلك القيامَ بحركات مقصودة تجعل الأفراد والأمة يتوقون لبلوغ الأهداف وتحصيل المقدمات والأسباب التي تلزم لإحداث التغيير، دون أن يُخاض خلال تلك الحركات المقصودة في التغيير وأسبابه وضرورتهما، بل يعالَج الموضوع في هذا الباب من جهة الدوافع الغريزية وإثارتها، ويكون موازياً ومكملاً لاندفاع الأمة بفعل قناعاتها. وطرق إثارة الدوافع الداخلية مجال واسع للإبداع والابتكار، والأساليب والوسائل فيه معين لا ينضب. ويمكن جمعها في ثلاثة أبواب رئيسية:
أولها المال:
وأوله أن يكون الجزاء مساوياً للعمل. وثانيه الجائزة أو المكافأة أو الأعطية أو الإقطاع الذي يدفع للأشخاص أو الهيئات أو المراكز عند انسجام سعيهم أو أعمالهم وإنجازاتهم مع ما نرنو إليه من أهداف، على أن لا يكون هذا المال دعماً أو تمويلاً، لأنه في هذه الحالة يدخل في باب الأعمال وتمام إنجازها، وهذا غير مقصود هنا، إذ المقصود هنا هو جعل المال حافزاً من أجل الدفع والتنشيط في اتجاه معيّن. فمثلاً إذا استهدفنا الإدارة الجيدة للأعمال، ووجودَ المشاريع غير الارتجالية، المشاريع القائمة على دراسة الجدوى، والقائمة على التخطيط، ولم نعبأ في الوقت نفسه بتقنية الاتصالات المدنية، صرفت الأموال للنشيطين من أهل إدارة الأعمال، وحرم منها أصحاب الاتصالات، وهكذا.
ولغة المال مع بساطتها وبساطة دلالتها لها قوة في الفاعلية وتأثير كبير، بوصف المال عصب الحياة. لذلك كان على الخلافة دراسةُ واقع المال والأهداف التي يسعى إليها، ودراسة أوجه الإنفاق وحجمه دراسة تشريحية وافية لئلا ينقلب الأمر على الأمة فيكون تكريساً للوضع القائم الآن والذي يتمثل في تعظيم القيمة المالية وسيطرتها على الأعمال والأهداف.
فاستخدام عنصر المال باعتباره حافزاً، يتم ضمن توازن معقول ومدروس ليكون عنصراً إيجابياً، والتوازن في استخدام عنصر المال يحدده الظرف وتحدده نظرة الناس إلى المال وطبيعةُ المسألة المعنية بالإنفاق.
ويمكن في موضوع المال أن تُسْلَكَ طرقٌ مختلفة لتسخيره للتحفيز، منها أن ينفق المال على مراكز أو أندية ينتسب إليها اللغويون أو الفقهاء أو الصناعيون أو غيرهم ممن تميزوا ونَشِطوا في السعي للوصول إلى الأهداف المرجوة. فيدفع ذلك الناس إلى تحصيل نفس المراتب وبلوغ نفس الأهداف للانتساب إلى تلك الأندية أو المراكز المحترمة التي توفر قدراً معقولاً من الخدمة أو المال في غير صورة النقد.
ثانيها التقدير المعنوي:
ويتضمن هذا المجالُ الواسع جَعْلَ من تحمَّلوا جسامة التغيير المدني على كاهلهم مَحَلَّ قبولٍ وتقدير واعتبار، ويكون ذلك بصور شتى من أمثلتها: أن يقرِّب الخليفةُ إليه من يشاء من أصحاب الاختصاصات المختلفة لدفع الناس إلى مجاراتهم ومناظرتهم في تخصصاتهم، فيقرب إليه الفقهاء وأهل اللغة والعلماء وغيرهم. وكذلك يكون بأن يسند الخليفة أعمالاً فخرية كافتتاح المراكز أو المدارس، ويكون بأن ييسر الخليفةُ وصول من يريدهم إلى مراكز الإنتاج التي لا تكون مفتوحة للعامة، ويكون بما يشاكل ذلك لمن يراد جعلهم مَثَلاً للأمة. ولا بد هنا من الحرص على توجيه التقدير والاعتبار لمن يستحقونه من أبناء الأمة المنتجين، بحيث لا ينحصر التقدير لمن يظهرون في واجهة حقول الإنتاج فقط، بل يشمل أيضاً المنتجين الحقيقيين الذين تُنفَّذ أعمالُهم خلف الكواليس. فالمشاهد مثلاً أن الأطباء يستحوذون على قدر عال من الاحترام والتقدير بوصفهم يقومون بعمل يظهر فيه تحقيق القيمة الإنسانية، بينما نرى أن ذلك التقدير يُحْرَم منه العلماء الذين يصرفون جهدهم وطاقتهم في المختبرات للبحث ولتحضير الدواء والعلاج. ولولا عمل هؤلاء العلماء والكيميائيين وأصحاب التخصصات المختلفة في المختبرات وخلف الأبواب ما استطاع أحدٌ علاجَ داء أو وصف دواء. فلا بد في هذا الباب من إعادة تصحيح المفهوم والعرف الموجود عند الأمة عن الأشخاص الذين يستحقون التقدير والاعتبار.
ثالثها الإعلام:
ودور الإعلام وفاعليته مسألة غنية عن الاستشهاد بوقائع معينة للدلالة على قدرته على التأثير في المجتمع وتوجيهه، بل والتأثير على موقف المجتمع من مسائل معينة والتأثير على اهتماماته. والإعلام في ظل الخلافة شأنه شأن الإعلام في أي مكان آخر سوف يكون له دور بالغ الأهمية في توجيه رغبات المجتمع وتوجهاته.
وتحدد أهداف الإعلام العامة في ظل الخلافة وتتضمن خدمة حركة التغيير المدني، ولا بد لهذا من الأخذ بالإعلام الموجه، وذلك لخدمة المبدأ والأمة، وهذا ليس مأخذاً على الإعلام لأنه ليس موجهاً لخدمة أشخاص. ومن لا يقول بهذا ولا يطبقه، إن كان إعلامياً، فغبيٌّ أو خائن. فالإعلام وأن كان مستقلاً عن المؤسسة السياسية فإنه لا ينخلع من مبدأ الأمة، وهذا يصدق على كل إعلام في أقطار الأرض، وإلا صار الإعلام، إن انخلع من مبدأ الأمة، إعلاماً لأعداء الأمة، وهذا يمكن وجوده في الدول الدنيا. أما في دولة الخلافة فيكون التغيير المدني واحداً من الأهداف التي يسعى الإعلام لترغيب الناس فيه وإثارة دوافعهم للتوجه نحوه.
ومن الطبيعي أن يتعرض الإعلام المقروء وغيرُه لضرورة التغيير المدني وأهميته، ومن الطبيعي أن يشرحه ويفنده ويتعرض لموضوعاته وللسبل التي تؤدي إليه. ولكن هذا كله لا يكون مقصوداً عند تعرض الإعلام لدوافع الأمة بالإثارة من أجل التغيير، بل يتناول المسائل – إذا كان بصدد إثارة الدوافع – من جهة لا يخاطب فيها عقل الأمة. فمثلاً تتعرض صحيفة معينة لمحاضرة في اللغة العربية فتعرضها في الصحيفة كخبر رئيسي ملفت للنظر. ومثلاً تلقى أضواءً الإعلام المختلفة، وبشكل مكثف، على صناعيين معينين، وتتصل معهم المرة تلو الأخرى لإبرازهم، وتتصل وسائل الإعلام مع الفقهاء واللغويين على اعتبار انهم عِلْيَة القوم وهكذا. وعلى أي حال فإن الأساليب والوسائل التي يتم فيها إبراز الأشياء من خلال الإعلام للترغيب فيها هي من اختصاص الإعلاميين، يعرفونها، ويحددونها لإيجاد أجواء مكثفة لإثارة الرغبة في التقدم والاختراع والصناعة والتحسين والتميز والتطور.
ولا يزال العمل في اتجاه التغيير المدني بالترغيب والدفع والحث متوالياً حتى تتناغم دوافع الأمة كإيقاع المتوالية العددية، فإنّ مَنْ قربهم الخليفة إليه ورفع من شأنهم، صاروا، مثلاً لأصحاب الطاقات، وهدفاً يتقربون إليه من خلال المسلك نفسه والتخصص نفسه. وهكذا يستمر الدفع والأعطيات والتقريب والإعلام في العمل في الاتجاه نفسه وعلى الصعيد نفسه لينتظم إحساس الأمة ورغباتها، فتندفع تواقة لسبق المتقدمين وبَزِّهِم في العلم والأدب والفن والصناعة والعمران وكل أمر من أمورها. وهي بذلك حقيقة .
2016-09-26