سياسة تمويل المشاريع
2016/09/26م
المقالات
2,073 زيارة
سياسة تمويل المشاريع
محمد علان (أبو موسى)
المشروع الاقتصادي في الإسلام مشروعان: مشروع تتولاه الدولة وهو كل مشروع يقع في الملكية العامة أو ملكية الدولة، وهو ما يسميه البعض في هذا العصر القطاع العام، ومشروع يتولاه الفرد ويقع في الملكية الفردية ويطلق عليه القطاع الخاص. وكلا المشروعين يحتاج إلى أموال حتى يقام، فمن أين تمول هذه المشاريع؟ هذا ما أردنا أن نجيب عنه في بحثنا هذا. أما مشروع القطاع الخاص، أي المشاريع الفرديةَ فأمر تمويلها متروك إلى أصحابها أي إلى الأفراد أنفسهم، يمول كل واحد منهم مشاريعه بالأسلوب الذي يراه سواء بالقروض أو بغيرها بقروض من داخل البلاد أم من خارجها، ولا يقيد في ذلك إلا بقيدين: الأول: أن تكون طرق التمويل في حدود ما أباحه الشرع، فلا تكون مثلاً بالقروض الربوية أو بغيرها من الطرق غير المشروعة. الثاني: أن لا تؤدي إلى ضرر يلحق بالفرد أو الأمة أو الدولة، فلا يقترض من رعايا دولة تطمع في بلاد المسلمين أو تسعى لإيجاد عيون لها فيها. أما القطاع العام فلتمويله مصدران، المصدر الخارجي أي من خارج الدولة والمصدر الداخلي، أي من داخل الدولة، ويندرج تحت هذين المصدرين طرق ووسائل منها المباح ومنها المحظور، نأتي على تفصيلها إن شاء الله.
أولاً: التمويل الخارجي:
وهو التمويل من خارج البلاد وينحصر في ثلاثة أمور هي القروض الأجنبية، الاستثمار المباشر والاستغلال، والتسهيلات الائتمانية.
أ) القروض الخارجية أو ما نسميه بالقروض الأجنبية:
وهذا أمر شاع وانتشر في بلاد المسلمين منذ أواخر الدولة العثمانية أي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، وتكون القروض إما من الدول الاستعمارية مباشرة، وإما من مؤسسات دولية تسيطر عليها الدول الاستعمارية كالبنك الدولي، وهو مؤسسة أميركية، وقروضه قروض أميركية ولكن بطريق غير مباشرة.
والقروض الخارجية من أخطر طرق التمويل على الإطلاق، إذ كانت وما زالت أشهر بل أسهل الطرق لاستعمار بلاد المسلمين، فما استعمر الإنجليز مصر، وما احتلت فرنسا تونس، وما تغلغل النفوذ الغربي في الدولة العثمانية في أواخر أيامها إلا عن طريق الديون. ففي مصر مثلاً توالت القروض التي اقترضتها الحكومة بين عامي 1864-1875، حتى بلغت نحو خمسة وتسعين مليوناً، فجاءت بعثة (كيف) سنة 1875 لفحص مالية مصر، واقترحت لضرورة إصلاحها إنشاء مصلحة للرقابة على ماليتها، يخضع الخديوي لمشورتها، ولا يعقد قرضاً إلا بموافقتها، وأنشئ صندوق الدين سنة 1886 لتسليم المبالغ المخصصة لسداد الديون من المصالح والمشاريع المحلية، فكان هذا الصندوق بمثابة حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية، وقد أنشئ نظام الرقابة الثنائية والذي بمقتضاه تولى الرقابة على المالية المصرية مراقبان: أحدهما إنجليزي لمراقبة الإيرادات العامة للحكومة، والآخر فرنسي لمراقبة المصروفات ثم تطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة يدخلها وزيران أوروبيان: أحدهما إنجليزي لوزارة المالية والآخر فرنسي لوزارة الأشغال وهكذا وصل الإنجليز إلى استعمار مصر عن طريق القروض، وقس على ذلك الاستعمار الفرنسي لتونس وغيرها.
أما اليوم فقد ابتدع المستعمرون أسلوباً جديداً غير أسلوب إعطاء الدين وانتظار ارتباك الدولة وعجزها عن السداد ومن ثم وضع اليد على البلاد، هذا الأسلوب هو تجديد الطريقة التي يحصل بها الارتباك والفقر، فالدول في البلاد الإسلامية اليوم لا تتمكن من الحصول على القروض من الدول الرأسمالية مباشرة كأميركا وفرنسا واليابان وغيرها أو من البنك الدولي وهو الطريق غير المباشر، إلا بعد أن يقوم صندوق النقد الدولي، وهو توأم البنك الدولي، بدراسة اقتصاد تلك البلاد ومعرفة إمكانياتها المالية ومقدراتها الاقتصادية، ثم تحديد المشاريع التي تنقق عليها القروض وضمن شروط معينة تؤدي حتماً إلى فقر البلاد وعجز حكوماتها عن سداد الديون، ومن ثم التدخل السافر في شؤونها الاقتصادية والسياسية. وكثيراً ما يتدخل صندوق النقد مرة أخرى لجدولة الديون فيفرض على الدولة المدينة برامج وخططاً اقتصادية أخطرها سياسة التقشف التي تؤدي إلى إشعال ثورات شعبية عارمة ضد النظام أو ضد شخص الحاكم، وأقرب شاهد على ذلك ما حصل مع حاكم أندونيسيا في النصف الأول من هذا العام 1998م وكذلك ما حصل في اليمن.
وهكذا نرى أن القروض الأجنبية هي أبرز أساليب الدول الاستعمارية في الاستيلاء على البلاد وبسط نفوذها عليها، جاء فـي تقرير لجنة كلاي عام 1963م والذي قدم للرئيس كنيدي أن الهدف من إعطاء مساعدات القروض والمقياس الذي تعطى على أساسه هو أمن الولايات المتحدة القومي وأمن وسلامة العالم الحر. وهذا يعني جعل البلاد التي تتلقى المساعدات أو القروض، والتي تتلقى أيضاً المساعدات العسكرية مزرعة أميركية.
ونرى أن أميركا ما زالت تتفنن في أساليب إيقاع ما يسمى دول العالم الثالث في مصيدة القروض، والتي كان آخرها أسلوب الاستثمار غير المباشر أو ما يسمى بأسواق المال والتي أدت أولاً إلى نهب خيرات تلك البلدان ثم انهيار اقتصادها، فوجدت نفسها مضطرة لأخذ القروض فخضعت في نهاية المطاف لإرادة صندوق النقد الدولي. ومن الجدير بالذكر أن هذه القروض لا تصرف إلا في مشاريع استهلاكية وخدماتية، ولا تصرف في مشاريع إنتاجية، فهي لا تؤدي إلى تنمية الثروة وإنما إلى إخضاع البلاد لسيطرة الدولة التي تعطي القروض.
ومن مخاطر هذه القروض أنها إما أن تكون قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، أما قصيرة الأجل فإن المقصود منها هو ضرب عملات البلاد وإيجاد الاضطراب فيها، لأنها حين تُستحق لا يقبل سدادها بعملة البلاد، بل لابد أن يكون السداد إما بالدولار وإما بعملات الدول الدائنة، فتضطر الدولة المدينة لشراء هذه العملات بأسعار عالية بالنسبة لعملتها، فتضرب عملة البلد، فتهبط قيمتها في السوق، فتضطر حينئذ إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي ليرسم لها سياسة مالية ونقدية مدمرة، أو تضطر لأن تعرض سلعاً في الخارج بأسعار رخيصة فتخسر اقتصادياً وتستـنزف ثروات البلاد.
أما القروض طويلة الأجل فإنها توضع لآجال طويلة عن قصد، ويتساهل في منحها وعند استحقاقها حتى تتراكم وتصبح مبالغ ضخمة تعجز البلاد عن تسديدها نقداً أو أموالاً منقولة. فتضطر لتسديدها أموالاً غير منقولة من عقارات وأراض وربما مصانع، وبذلك تملك الدولة الدائنة أموالاً غير منقولة في البلاد وتصبح لها مصالح تصلح مبرراً للتدخل وبسط النفوذ، هذا إذ لم تتخذ وسيلة للاستعمار والاحتلال. علاوة على ذلك لا تؤخذ هذه القروض إلا بالربا، والربا حرام. ونظراً لهذه الأخطار المترتبة على القروض ولكون الربا حراماً لا يصح أخذ هذه القروض، فلا يصح تمويل المشاريع ولو كانت مشاريع إنتاجية تحقق ثورة صناعية عن طريق القروض.
ب) التمويل عن طريـق استثمار الأموال الأجنبية أو استغلالها:
الاستثمار يعني جعل المال ينتج ربحاً وهو إعطاؤه بالربا، وهو بهذا المفهوم كله ممنوع لأنه ربا، والتعامل بالربا حرام. أما الاستغلال فيعني تشغيل المال في الصناعة أو الزراعة أو التجارة ليعطي ربحاً. واستغلال الأموال الأجنبية في البلاد هو طريق لبسط نفوذ الكفار عليها، وبسط نفوذهم على بلاد المسلمين حرام فيكون دليلها القاعدة الشرعية الوسيلة إلى الحرام حرام، أما إذا كانت لا توصل إلى بسط نفوذهم ولا إلى ضرر، ككشف مقدرات المسلمين وأسرارهم الاقتصادية، أو هدر ثرواتهم ونهبها إلى خارج بلادهم، أو عرقلة ثورتهم الصناعية، أو تقوية عدوهم فإنها في هذه الحال لا تنطبق عليها القاعدة الشرعية فتكون مباحة كسائر القروض التي لا تؤدي إلى ضرر.
ومما يجب أن يلاحظ أن تشجيع الاستغلال في بلاد المسلمين اليوم لا يتم إلا عن طريق منحهم الامتيازات التي هي إعطاء دولة أجنبية حقوقاً معينة دون سائر الدول باعتبار ذلك فرضاً على الدولة وذلك كالامتيازات التي كانت تعطيها الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر حين كانت ضعيفة، كأن يحاكم الرعايا الأجانب بقانون بلادهم لا بقانون الإسلام، ومثل أن لا يكون للدولة سلطان على الأجانب، فهذه الامتيازات بهذا المعنى حرام من وجهين:
الوجه الأول: أنها تخل بسيادة الدولة الإسلامية وتجعل للكفار سلطاناً على بلاد المسلمين، وهذا حرام.
الوجه الثاني: أنها تمنع حكم الإسلام أن يطبق على غير المسلمين في بلاد المسلمين وتجعل حكم الكفر هو الذي يطبق وذلك حرام قطعاً، فتمنع الامتيازات بهذا المعنى.
ج) التسهيلات الائتمانية:
وهي استيراد الآلات والأدوات اللازمة للمشاريع بثمن مؤجل، وتعتبر من التجارة الخارجية لا من القروض الأجنبية فيجوز أخذها بثمن مؤجل أكثر من ثمنها لو دفع حالاً على ألا يكون بمعاملة ربا، بل بمعاملة بيع، أي أنه لا يصح أن تُشترى الآلات بثمنها حالاً، ويكتب الدين على المشتري بالثمن وبفائدته. وهي بمعنى آخر أن يجعل للسلعة ثمنان، ثمن معجل إذا دُفع حالاً وثمن مؤجل إذا أخذ ديناً لأجل فتشترى السلعة بالثمن المؤجل ويُكتب السند بهذا الثمن المؤجل، وهذا جائز شرعاً للأمور التالية:
1- لعموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فما لم يرد نص شرعي على تحريم نوع معين من البيع كبيع الغرر الذي ورد نص في تحريمه فإنه يكون حلالاً، ولم يرد نص في تحريم جعل ثمنين للسـلعـة ثمـن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالاً أخذاً من عموم الآية.
2- وقد نص جمهرة الفقهاء على أنه يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر سومه لأجل النساء أي لأجل تأخير دفع الثمن، روي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب على أحدهما.
3- وقد قال علي كرم الله وجهه: من ساوم بثمن أحدهما عاجل والآخر نظيرة فليسم أحدهما قبل الصفقة.
أما ما رواه أحمد رضـي الله عنـه «نهـى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة» فالمراد منه وجود عقدين في عقد واحد. كأن يقول بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن تزوجني ابنتك، فهذا لا يصح، لأن قوله بعتك داري عقد وقوله على أن تبيعني دارك عقد ثان، اجتمعا في عقد واحد وهذا لا يجوز.
ثانياً: التمويل الداخلي:
وهو تمويل المشاريع الإنتاجية من داخل البلاد ومن طرقه.
1) بيت مال المسلمين:
وهو الجهة التي تختص بكل دخل أو خرج لما يستحقه المسلمون من مال، فكل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال ولو تعين مالكه جهة كأموال الزكاة، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، وواردات بيت المال الدائمة هي: الفيء والغنائم والأنفال والخراج والجزية، وواردات الملكية العامة بأنواعها وواردات أملاك الدولة والعشور وخمس الركاز والمعدن وأموال الزكاة، غير أن أموال الزكاة لا تصرف إلا للأصناف الثمانية التي ذكرت في القرآن الكريم، ولا يجوز أن يصرف منها شيء لغير هذه الأصناف قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) وكذلك واردات الملكيات العامة فإنها توضع في مكان خاص في بيت المال ولا تخلط بغيرها لأنها مملوكة لجميع المسلمين يصرف الخليفة منها وفق ما يراه مصلحة للمسلمين حسب رأيه واجتهاده ضمن أحكام الشرع، أما الأموال الأخرى التي من حقوق بيت المال فتوضع فيه مع بعضها وينفق منها على شؤون الدولة وعلى الأصناف الثمانية، وعلى كل شيء تراه الدولة، والمشاريع الإنتاجية أو المشاريع التي تحقق الثورة الصناعية فينفق عليها من أموال بيت المال سواء أكانت من واردات ملكية الدولة أو من واردات الملكية العامة ماعدا أموال الزكاة التي لا ينفق منها إلا على مشروع تعلق مباشرة بالجهاد كصناعة الأسلحة والمعدات الثقيلة.
2) فرض الضرائب:
وهنا ينظر في المشاريع فإن كانت مما لا يحصل للأمة ضرر من عدم القيام بها، يبحث إذا كان هناك مال في بيت المال فاضل عن الحاجات الضرورية فإن وجد ينفق منه عليها، وإن لم يوجد تؤجل هذه المشاريع إلى أن يوجد في بيت المال مال. أما إذا كان عدم القيام بها يوقع الضرر بالأمة كعدم وجود مصانع الآلات مما يجعل البلاد معتمدة في صناعاتها وفي تسليحها على الدول الكافرة، فيجعلها مربوطة بها، وهذا من أكبر الأضرار، لذلك فإن إيجاد مصانع الآلات في مثل هذا الحال يصبح فرضاً على المسلمين، لأن الضرر لا يزال عن المسلمين إلا بإقامتها، وإزالة الضرر فرض على الدولة وفرض على الأمة، فيجب على الدولة أن توجد هذه المصانع، وجد المال لديها أم لم يوجد، فإن وجد في بيت المال مال صرف منه على إقامتها، وإن لم يوجد لديها فرضت الضرائب على المسلمين بقدرٍ يكفي لإقامة هذه المشاريع على الوجه الذي يزيل الضرر، وتجمع هذه الضرائب جبراً وبمقادير كافية لإقامة مثل هذه المشاريع لإحداث الثورة الصناعية، وتؤخذ هذه الضرائب من المسلمين دون الذميين، فإنها لا تؤخذ إلا من المسلمين ولا يؤخذ من الذمي شيء غير الجزية والخراج عن الأرض الخراجية، وتؤخذ من المسلمين مما زاد عن نفقتهم أي تؤخذ عن ظهر غنى شرعاً، وما يعتبر من ظهـر غني هو ما يفضل عن إشباع الحاجات الأساسية والكمالية بالمعروف، لأن نفقة الفرد على نفسه هي سده للكفاية جميع حاجاته التي تتطلب إشباعاً بالمعروف حسب حياته التي يعيش عليها بين الناس، وهذا لا يقدر بمقدار معين عام لجميع الناس، وإنما يقدر لكل شخص بحسب مستوى معيشته، فلا تؤخذ إلا ممن يكون مستغنياً.
وهكذا نرى أن فرض الضرائب في هذه الحال يراعى فيها أمور هي:
1) تؤخذ في حال عدم وجود مال في بيت المال أو عدم كفايته لتمويل مشروع يؤدي تـأخيره انتظاراً لواردات بيت المال إلى إيقاع الضرر بالمسلمين.
2) تؤخذ لتمويل مشروع أو تنفيذ مصلحة فرض على المسلمين القيام بها كما هي فرض على بيت المال.
3) تؤخذ بقدر الحاجة لتمويل مشروع دون زيادة أو نقصان.
4) يراعى فيها مقدرة المسلمين على دفعها، فلا تؤخذ إلا من مستغنٍ. أي ممن زاد ما يملكه عن إشباع حاجاته الأساسية والكمالية بالمعروف.
5) يراعى في تقدير النسبة العدل بين المسلمين بغض النظر عن مبلغ المال الذي تؤخذ منه أو الدخل أو الربح.
6) لا تؤخذ من آلات الإنتاج اللازمة للعمل في الصناعة أو الزراعة ولا الأرض ولا العقار.
3) الاقتراض من الأفراد أي من رعايا الدولة:
تقوم الدولة بالاقتراض لتمويل المشاريع التي لا تحتمل التأجيل حتى يتوفر المال في بيت المال ويخشى من تأخيرها إلحاق الضرر بمصالح الأمة، حينئذ تقترض لها ثم تجمع ضرائب من الناس فتسدها.
وهناك فرق بين الدولة والفرد في أخذ القروض، فالفرد مباح له الاقتراض إلا في قرض معين يوصل إلى ضرر أو يؤدي إلى حرام، أما الدولة فمباح لها الاقتراض في حالة واحدة وهي إذا لم يوجد مال في بيت المال وكانت المصلحة المراد الاقتراض من أجلها مما يجب على المسلمين، وكان يخشى الفساد من تأخيرها ففي هذا الحال فقط يجوز للدولة أن تقترض، وما عداها لا يجوز لها أن تقترض مطلقاً لأنها ليست مطلقة التصرف لا في جباية المال ولا في صرفه على مصالح الرعية بل هي مقيدة، فقد حدد الشرع واردات بيت المال وكذلك مصارفه، فإن وجد فيه مال صرف وإن لم يوجد فيه مال لم يصرف. وهي حين تلجأ إلى فرض ضرائب على المسلمين للقيام ببعض المصالح أو المشاريع، فإنما تحصل حقاً أوجبه الله على المسلمين بموجب نصوص الكتاب أو السنة، ففي الأمور التي يجب على المسلمين القيام بها وتحصل الضرائب منهم لإتمامها وتنفيذها يجوز للدولة أن تقترض من أجلها، والاقتراض يكون على حساب الضرائب وتسدد القروض منها.
واقتراض الدولة من أفراد أو جهات داخلية أي من رعايا الدولة أيسر وأسهل بل هو قطعاً لا يؤدي إلى ضرر قد تؤدي إليه القروض الأجنبية، فكما جاز للدولة أن تقرض الأفراد جاز لها أن تقترض منهم في الحالة التي ذكرت، فالشرع يجيز للدولة أن تعطي الفلاحين من بيت المال ما يتمكنون به من استغلال أراضيهم إلى أن تخرج الغلال، فقد أعطى عمر رضي الله عنه من بيت المال للفلاحين في العراق أموالاً لاستغلال أراضيهم، وعن أبي يوسف رحمه الله “ويعطى للعاجز كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل فيه”، وصفوة القول أنه لا يجوز للدولة أن تقترض من مصادر أجنبية إذا ما توفرت لها القروض من الأفراد (لما في القروض الأجنبية من الضرر بالأمة أو الدولة).
4) بيع بعض المشاريع التي تمتلكها الدولة للأفراد أو تأجيرها لهم أو مشاركتهم فيها:
فللدولة أن تعطي الأفراد من ملكيتها بيعاً وهبة وأن تخص بذلك أفراداً دون آخرين وبخاصة أولئك الأفراد ذوي القدرات العالية والخبرات التقنية والإدارية، فقد تنتفع الجماعة بملكية الفرد، وقد لا يقتصر استغلال قدرات مثل هؤلاء الأفراد على بيعهم أو هبتهم، بل قد تشاركهم الدولة في مشاريع إنتاجية بحيث يكون منها المال ومنهم الجهد، ويراعى في ذلك أمور منها:
أ) أن تكون الهبة أو البيع أو المشاركة متعلقاً بمشاريع إنتاجية يصدق عليها الملكية الفردية أي أن لا تكون المشاريع منبثقة من الملكيات العامة.
ب) أن لا يكون الأفراد من غير رعايا الدولة الإسلامية.
وقد أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرين: فقد أقطع فرات بن حيان العجلي أرضاً باليمامة، وأقطع صلى الله عليه وسلم تميم الداري، وأقطع الزبير أرضاً بخيبر فيها شجر ونخل، ومعلوم أن هذه الأرض من ملكية الدولة، وكل ما جاز هبته جاز بيعه.
أما عن مشاركة الدولة للأفراد فقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، أنهما خرجا في جيش إلى العراق فتسلفا من أبي موسى، وكان والياً، مالاً وابتاعا به متاعاً وقدما به المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً، قال: فقد جعلته. وأخذ منهما نصف الربح؛ وفي هذا دليل على جواز مشاركة الدولة للأفراد.
وهكذا نجد بيع أو هبة أو مشاركة الدولة الأفراد في المشاريع الإنتاجية التي تمتلكها ويصدق عليها ملكية الفرد، نجدها إحدى الطرق لحل أزمة تمويل هذه المشاريع.
وهذا أمر يختلف عما يسمى بالخصخصة عند الرأسماليين والتي تنص على إلغاء دور الدولة الاقتصادي ولا تميز في تمليك الفرد بين ما هو ملكية دولة أو ملكية عامة، وتفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي حيث يتمكن الكفار المستعمرون من امتلاك أموالها منقولة وغير منقولة مما يؤدي إلى التحكم في اقتصاد البلاد ويلحق الضرر بالمسلمين وسيادتهم.
5) تعجيل الصدقة وإخراجها قبل أوانها:
وعند الحديث عن الصدقة كإحدى طرق التمويل، فإننا نقصد تمويل المشاريع الإنتاجية المتعلقة بالجهاد لأن الصدقة محصورة في أصناف ثمانية منها في سبيل الله، وأينما وردت كلمة الإنفاق مقترنة بعبارة في سبيل الله فإنها تعني الإنفاق في الجهاد.
وتعجيل الصدقة أمر جائز شرعاً، روي عن الحكم بن عتيبة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فأتى العباس يسأله صدقة ماله، فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: صدق عمي قد تعجلنا منه صدقة سنتين [قال الحافظ في الفتح أخرجه الترمذي].
وفي الدارقطني من طريق موسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا كنا قد احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين. وقال أبو عبيد: حدثنا يعقوب بن اسحق الحضرمي عن حماد بن زيد عن حفص بن سليمان قال: قلت للحسن: “أأخرج زكاة ثلاثة أعوام ضربة، فلم ير بذلك بأساً”.
6) وضع سياسة اقتصادية خارجية تضمن تمويل المشاريع الإنتاجية واستمرارية نجاحها:
هذه أبرز عناصرها:
أ- تقليل استيراد المنتَجات والبضائع الخارجية التي لها بدائل محلية أو التي يراد تصنيعها وفي ذلك تشجيع لمنتَجاتنا، ودفع لنا – دولة وأفراداً – إلى إيجاد المشاريع الإنتاجية، وحفظ لعملتنا من التسرب إلى الخارج كأثمان لسلع ومنتَجات نستطيع توفيرها ذاتياً.
ب- إيجاد الأسواق الخارجية للسلع والبضائع المنتجة، مما يوفر لنا النقود التي تلزمنا، أو السلع التي تلزم في إحداث الثورة الصناعية، وفي ذلك تشجيع لصناعاتنا، إلا أنه يجب أن لا نتوسع في تصنيع المواد والمنتَجات بقدر يخشى معه كسادها فنهدر ثرواتنا، كما يجب ألا نعتمد سوقاً واحدة أو نقتصر على سلعة واحدة فيها بحيث تتبلور لنا مصالح اقتصادية تشكل عامل ضغط علينا في ظروف معينة.
ج- الحد من تصدير المواد الخام وبخاصة ما تعلق منها بالطاقة لأن ذلك يؤدي إلى رفع أسعار المنتَجات في الدول الصناعية الأخرى مما يمنح بضائعنا منافسة أقوى، وإن رأينا في الحد من تصديرنا ضرراً يلحق بمصالحنا المالية استبدلنا به الذهب الذي يلزمنا كعمله، أو الآلات والمصانع، أو التقنية والخبراء.
د- استقدام رؤوس أموال المسلمين التي سبق وهاجرت إلى الخارج، وكذلك الخبراء من أبناء المسلمين، وذلك ضمن سياسة تشجيعية مدروسة، منها حملة إعلامية توجيهية، وتوفير بنية تحتية تسهل الاستثمار، وتوفير الأمن والاستقرار، وتسهيل الحصول على الطاقة اللازمة والمواد الخام الضرورية، وإقطاعهم الأراضي، وإقراضهم الأموال وغير ذلك. (ولا نعني بهذا منحهم الامتيازات).
هـ- المطالبة ـ بالأموال والثروات التي نهبها الحكام وتكدست في بنوك ومؤسسات الدول الغربية، وذلك بتهديد مصالحهم في بلادنا والتي أهمها الطاقة والممرات المائية والمواد الخام والأسواق وغيرها.
و- التوسع في الجهاد، وهو وإن كان أولاً لحمل الدعوة إلى الناس، إلا أنه مصدر واسع وعظيم من مصادر تمويل بيت مال المسلمين، ففيه الخراج والفيء والغنائم والصوافي وغيرها وهو مصدر رزق عظيم لأفراد الجيش، واستيعابه لطاقات بشرية هائلة فيه قضاء مبرم على البطالة في المجتمع الإسلامي.
ويجب ملاحظة أن سياستنا الخارجية قائمة على نشر الإسلام وحمل الدعوة الإسلامية فإن تعارضت الناحية الاقتصادية مع نشر الإسلام، كان نشر الإسلام أولى.
7) القيام بحملة إعلامية تستهدف حض المسلمين:
وتشجيعهم على الإنفاق في مثل هذه المشاريع، ببيان ما فيها من عوائد اقتصادية على المسلمين، وزيادة في قوتهم العسكرية والسياسية وما لها من علاقة بحمل الدعوة إلى الناس، وما يترتب على الإنفاق فيها من أجر عند الله، وتذكيرهم بأحداث وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كتجهيز جيش العسرة، وما حصل عام الرمادة في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، والأمثلة التي ضربها الصحابة في التضحية بالأموال والأنفس.
وهكذا نجد أن مصادر تمويل المشاريع الإنتاجية التي أباحها الله فيها من الوفرة والعظم واليسر ما يغني المسلمين عن اللجوء إلى تلك المصادر التي فيها من الضرر ما يفوق ضرر تعطيل هذه المشاريع ولعل أبرز تلك الأضرار على الإطلاق هو الوقوع تحت هيمنة الكفار ومواقعة الحرام، ويكون ذلك في مصدرين هما القروض الأجنبية وفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي .
2016-09-26