الديمقراطية الرأسمالية وحكم الإسلام فيها
1987/11/26م
المقالات
4,830 زيارة
بقلم: أمين الخليلي
تعتبر “الديمقراطية” اليوم أسمى شيء عند الناس، وأقصى ما تتمنَّاه شعوب العالم الثالث. ويدأب المفكرون والكتَّاب في بلادنا الإسلامية على الدعوة إلى اعتماد “الديمقراطية” نظاماً للحكم، و”الرأسمالية” نظاماً للاقتصاد. فما هو حكم الإسلام في “الديمقراطية” الرأسمالية؟ وما الموقف الذي يجب أن يتخذه المسلمون من مثل هذه الدعوات؟ وما هو بالتالي نظام الحكم الذي يجب أن يعمل له المسلمون؟
مطلب عند الجميع
ممّا لا شك فيه أن معظم دول العالم الثالث تحكمها أنظمة متعسّفة لا تمثّل شعوبها وما تريد. ومن الملاحظ كذلك أن معظم هذه الشعوب ـ ومنها شعوب العالم الإسلامي بمجموعه ـ تسعى بشكل أو بآخر لإبداء رأيها في الحكم، والمشاركة في السلطة، ليكون لها كلمة في الطريقة التي تدار بها شؤونها من قبل الحكّام.
وفي مقابل أنظمة الحكم الحاليّة، تبرز “الديمقراطية” كبديل طبيعي، وبحيث صارت مطلباً عند الجمعي. فالكتّاب الصحافيّون وأرباب الفكر والسياسة في هذه البلدان كلهم يدعون إلى “الديمقراطية” . ويبرز الغرب ودوله متدخّلاً في شؤون البلاد الداخلية بدعوى ما يسميه “المحافظة على الديمقراطية”.
وقد وصلت هذه الكلمة بمعناها إلى الحديث اليومي للناس. فالشركات ـ مثلاً ـ تفتخر بأن قراراتها ديمقراطية في مجلس الإدارة، ورب البيت يفتخر بأن القرارات العائلية تُتّخذ بأكثرية أصوات الأعضاء، أي أنّها ديمقراطية. وكذلك الأمر في الحوانيت والجمعيات والمؤسسات العامة والخاصة، فيما يعتبر النظام الأمثل لإدارة شؤون جماعة من الناس.
لكن “للديمقراطية” أبعاداً أخرى غير مجرد تمثيل الشعب. وهذه الأبعاد يدركها الخاصة دون العامة كما هو ملاحظ. ولذلك يجب إلقاء الضوء على واقع ” الديمقراطية” وأبعادها المتكاملة قبل الحكم عليها، وإعطاء حكم الإسلام فيها.
حل وسط
“الديمقراطية (Democracy)”: لفظ يوناني معناه حكم الشعب.
“الرأسمالية (Capitalism)”: لفظ عربي مترجم، منحوت من كلمتين: رأس ومال. ويعني في الأصل الأموال، وأصبح يطلق على المبدأ “الديمقراطي” الحرّ كمنهاج حياة، ليعني أن الاقتصاد هو سمته البارزة.
فعلى أثر الكشوف العلمية ما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، نشأ صراع عنيف في دول أوروبا بين الفلاسفة والعلماء والمفكرين من جهة، وبين رجال الدين ورجال الدولة ـ الملوك والقياصرة ـ من جهة أخرى. واختتم الصراع بفوز العلماء والفلاسفة والمفكرين. وذلك على أثر الثورة الفرنسية عام 1789، والتي برز فيها المفكران “جان جاك روسّو” و”مونتسكيو“.
وكانت الثورة بسبب الجوع فوضى من دون تخطيط مسبق، فتسبّبت في مقتل الكثيرين، وتدمير جميع أجهزة الدولة الحاكمة، كما قضت على الملكية في فرنسا، وأبعدت رجال الدين عن التدخل في الشؤون السياسية. ونادى المفكرون بفصل الدين تماماً عن الحياة وعن السياسة، وذلك كحل وسط ما بين الملحدين من المفكرين وما بين رجال الدين. واعتمدت “العلمانية” (أي فصل الدين عن الحياة) أساساً للحكم، ونودي بأن الإنسان يخلق حرّاً فلا داعي أن يتحكم به غيره من رجال دين أو غيرهم. وقد أدى هذا الاتجاه الليبرالي إلى القول بأن الناس يخلقون متشابهين، وأنهم أحرار في تطبيق ما يشاؤون من قوانين، وأنهم متساوون في ذلك.
حكم الشعب
وقد لجأ المفكرون إلى الفكر اليوناني ومبادئه، وإلى القوانين الرومانية ليستنبطوا منها ما يشاؤون من شرائع، وخصوصاً ما عرف “بالقانون المدني”. واعتمد المفكرون على نظام الحكم الذي كان مطبقاً في “أثينا”، والذي سمي آنذاك “ديمقراطي”. ومنذ ذلك الحين، اعتمد هذا الشكل من أشكال الحكم على أنه تمثيل لإرادة الشعب، وبالتالي فهو حكم الشعب، وأطلق عليه اسم “الديمقراطية”. فهل “الديمقراطية” هي فعلاً حكم الشعب؟
فردي لا جماعي
الواقع أن “الديمقراطية” ليست حكم الشعب إطلاقاً، ولا يمكن أن تكون كذلك، كما لا يمكن لأي نظام في الوجود أن يتوصل إلى الشعب يحكم. فعملية الحكم هي عملية اتخاذ قرار في مواجهة أي مستجد، وهذا من طبيعته أن يكون فرديّاً ولا يمكن أن يكون جماعاً فضلاً على أن يقوم به الشعب كله. ولعلّ دور الشعب لا يعدو أن يكون إبداء رأي ـ إذا طلب منه ذلك ـ في حكم بعض الأفراد له.
ففي “أثينا” لم يكن الشعب كله يحكم. فمن بين الذين اعتبروا مواطنين ـ وهم الشعب ما عدا الرقيق والطفل الأجنبي والمرأة… أي ما لا يزيد عن عُشر الشعب ـ كان عشرون أميراً لهم وحدهم الحق في اقتراح القانون، وعلى باقي الشعب التصويت بنعم أو لا فقط.
والحكم كما هو معروف لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة أنواع:
تشريع، أو إصدار الحكم.
تنفيذ، أي تطبيق إجراءات الحكم على الوقائع التفصيلية العملية.
قضاء، أي فصل في القضية بالنسبة لعلاقتها بالقانون. فإذا اقترح القانون شخص أو أكثر، فإنه يكون هو المشرع، ودور الشعب لا يعدو أن يكون إبداء رأي فيما شرّعه هذا الشخص، وفرق كبير بين أن يحكم الشعب نفسه بنفسه وبين أن يوافق على حكم غيره بحيث لا يُحكم بشيء جبراً عنه.
وكذلك التنفيذ، فإنه لا يكون إلا فردياً في كل مسألة، والقضاء فردي كذلك.
على أن “الديمقراطية” اليوم لا تعدو أن تكون حكم الأكثرية، لأن الشعب لا يتفق على رأي واحد في غالبية الأمور.
ومن هنا، يتبين لنا أن “الديمقراطية” تقوم على ما يلي:
1- حرية الإنسان في الحقوق والواجبات.
2- تساوي الناس في الحقوق والواجبات.
3- لا يُحكم الشعب رغماً عنه، بحيث يُحصل تأييد أكثرية الشعب بطريقة أو بأخرى قبل إصدار الحكم. أمَّا التشريع، فيقوم به واحد أو أكثر ولا يقوم به الشعب، ويعطي الشعب رأيه في ذلك.
هذه أبعاد نظام الحكم المسمى “بالديمقراطية”، وهو الذي يطبق ـ شكلياً أو جوهرياً ـ في معظم دول العالم. ولا يهمنا هنا هل “الديمقراطية” حكم الشعب أم حكم أكثرية الشعب أم رأي الشعب في حكم الأفراد، بل المهم أن نعرف رأي الإسلام فيها كائنة ما كانت.
وباختصار “الديمقراطية” هو شكل الحكم المنبثق عن عقيدة فصل الدين عن الحياة. وأبرز ما فيه أن الحاكمية ـ أو السيادة ـ للشعب، بحيث لا يحكم بشيء رغماً عنه. والوسيلة المتَّبعة في ذلك دوماً هي الاستفتاء ـ أو الأخذ بغالبية الأصوات نعم أو لا . فما هو حكم الإسلام في “الديمقراطية”؟
السيادة للشرع لا للشعب
من المعروف أن الإسلام نظام عيش متكامل، بحيث يأمر المسلمين بالالتزام بأحكامه كاملة. وعلى من يلتزم بالإسلام أن يلتزم به لأنه وحي من الله، وعليه أن يؤمن بذلك. والدولة الإسلامية لا تكون إسلامية إلا إذا طبّقت الإسلام كاملاً في رعاية شؤونها، بغضّ النظر عن إرادة الشعب أو رأيه. فالحاكمية في الإسلام لله تبارك وتعالى وليست للشعب، وكل حكم ـ من قضاء أو تشريع أو تنفيذ ـ مردُّه إلى شرع الله وحكم الدين، وذلك بمعزل عن إرادة الناس وأهواءهم.
وقد يظنُّ ظانٌّ أن ذلك لا يتمّ بغير رضى الناس، أي أن الإسلام ديمقراطي لأنه بالنتيجة محتاج إلى رضى الناس. والجواب على هذا ـ وإن كان لا يستحق الجواب ـ أن الناس مأمورون بتطبيق الإسلام وحياً من الله، ولأنه شرع من الله تعالى، وذلك طمعاً في جنته، خوفاً من عذابه، وليس مجرد رغبة فيه لأنه أجمل وأفضل. فما لم يطبّق الإسلام بهذا الشكل ـ أي لأنه وحي من الله، طمعاً في رضاه وخوفاً من سخطه ـ فإن ذلك لا يكون تطبيقاً للإسلام بل للديمقراطية.
نظام كفر
و”الديمقراطية” منبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة. وهذه عقيدة كفر لأن الحياة كلّها يجب أن تسير حسب أحكام الدين. لذلك فهي نظام كفر لا يجوز تطبيقه، ولا تجوز الدعوة إليه فضلاً عن تلبيسه ثوب الإسلام.
وقد يرى البعض في الإسلام مظاهر معيّنة يظنّ أنها ديمقراطية، مثل الشورى وانتخاب الخليفة وأمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر. وجوابنا على ذلك أن هذه أحكام شرعية أمر بها الإسلام، فهي ليست ديمقراطية، وإن كان في “الديمقراطية” ما يشابهها. فلولا أن الله تعالى أمر بالشورى كحق للأمة، وأنه تعالى أمر الناس بأمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا أخطأ ـ أي إذا خالف الإسلام، إلى ما هنالك من الأحكام، لولا ذلك لما أخذنا بها، وإن كانت تعبّر بشكل أو بآخر عن رأي الشعب. ثم إنها تعبّر عن رأي الشرع وليس الشعب.
“رأي الشرع”
أما من حيث الأساليب، كالاقتراع السرّي أو الاستفتاء إلخ..، فإنه ينظر إليها من منظار الشرع. فإذا وجدناها من المباحات لغرض معين أخذنا بها، وإذا كانت حراماً لم نأخذ بها، وفي ذلك نحن نتّبع الإسلام.
وحين يصدر القاضي حكمه، وحين يصدر الحاكم أمراً، فإنه لا ينظر إلى الشعب رضاه ورأيه في ذلك، بل ينظر إلى الدين وأحكامه: هل هذا الحكم أو الأمر مما يرضاه الله تعالى؟ ولا يؤخذ رأي الناس إلا في حالة واحدة، وهوي إذا أمر الدينُ الحاكم باتّباع رأي الناس، وذلك في حالات معينة لا يسعنا ذكرها الآن. وحين يفعل الحاكم ذلك، فإنه يكون متّبعاً للإسلام وليس للديمقراطية!
وخلاصة القول، إن “الديمقراطية” لا تعنينا في شيء، فحَسْبُنا أحكامُ الشرع الإسلامي نلتزم بها، دون أي اعتبار للديمقراطية أو لرأي الشعب. فالإسلام مطلبنا لإرضاء الله تعالى وخوفاً من عذابه، وليس لأنه جميل ويحلّ مشاكلنا.
فعلى المسلمين اليوم العمل للإسلام وليس للديمقراطية، والدعوة لإقامة شرع الله في الأرض. فلا ندعو للديمقراطية بحجّة أن الناس سيختارون الإسلام حين يُستفتون لأن ذلك لا يكون اتباعاً للإسلام. ولا نتباهى أمام الغربيين بأن الإسلام ديمقراطي أو تقدمي، أو أنَّ فيه أحكاماً ديمقراطية. بل ندعو للإسلام وأحكامه، فهذا وحي وذاك من وضع البشر.
(وأن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).
1987-11-26