مقاطعة المخلفين والتوبة عليهم
1999/03/25م
المقالات
1,665 زيارة
(لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِىِّ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) صدق الله العظيم.
هاتان الآيتان من سورة التوبة, والتي من أسمائها »الفاضحة« قال ابن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة, ما زال ينزل: ومنهم و منهم, حتى خفنا ألا تدع أحدا. وسورة التوبة مدينة نزلت في معظمها في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة. أما مقدمات السورة من أولها حتى نهاية آية (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر) فنزلت في أواخر السنة التاسعة قبيل موسم الحج ذلك العام. أما هاتان الآيتان فقد نزلتا بعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك.
(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِي) من إذنه للمنافقين في التخلف, وقد عاتبه الله على ذلك في آية سابقة صدرها بالعفو عنه فقال تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ).
(وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار) لما حصل منهم من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه, ولما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك, حيث تبطأ بعضهم, وتثاقل عن الجهاد آخرون. وصدرها تعالى بتوبته على رسوله وعلى كبار صحابته جبرا لقلوبهم, وتنويها لشأنهم, وبعثا للمؤمنين على التوبة والاستغفار, حتى النبي والمهاجرين والأنصار.
(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة) أي اتبعوا رسولهم في غزوة تبوك وقت العسرة, في شدة الحر, وقلة الزاد, والضيق الشديد. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر, وعسرة الزاد, وعسرة الماء. وكانت العسرة في الظهر ان المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم. وكانت العسرة في الزاد أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما, وكان النفر يتداولون بينهم التمرة يمصها هذا ثم يشرب عليها, ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها حتى تأتي على آخرهم, فما يبقى من التمرة إلا النواة. وكانت العسرة في الماء حتى أن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه. سئل عمر رضي الله عنه عن ساعة العسرة فقال: »خرجنا في قيظ شديد, فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد, حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش, وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه, ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله, إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: »أتحب ذلك؟« قال: نعم, فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء,ثم سكبت, فملأوا ما معهم,ثم ذهبنا ننظر, فلم نجدها جاوزت العسكر«.
(مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي تميل عن الحق وترتاب لها نالهم من المشقة والشدة, وقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة, وقال ابن عباس تعدل عن الحق في الممانعة والنصرة, وقيل من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان, أو القفول. فأبو خيثمة, بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما, رجع أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عرشين لهما في حائطه, قد رشت كل واحدة منهما عريشها, وبردت له فيه ماء,وهيأت له طعاما. فلما دخل قال على باب العريش,فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس, والريح والحر, وأبو خيثمة في ظل بارد, وطعام مهيأ, وامرأة حسناء في ماله مقيم. ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. فهيئا لي زادا, ففعلتا, ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي وفقهم للتوبة ليتوبوا وليثبتوا على التوبة, أي تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وكذلك سنة الحق مع أوليائه, إذا أشرفوا على العطب, ووطنوا أنفسهم على الهلاك, أمطر عليهم سحائب الجود, فأحيا قلوبهم.
(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي وتاب كذلك على الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك, ولم يقض فيهم بشيء, وهم: كعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية الواقفي, وهم الذين أرجئ الحكم فيهم (وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ), ذلك أن الرسول وأصحابه لما قفلوا من تبوك دون قتال, جاءه المخلفون يستعتبونه, ويعتذرون إليه, ويقسمون له وللمسلمين, فقبل منهم علانيتهم وتاب عليهم, إلا هؤلاء النفر, الذين لم يكذبوا على رسول الله, بل صدقوه, إنهم ما تخلفوا عنه إلا تكاسلا, فلم يقض رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله فيهم.
روى مسلم عن كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي, فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا, وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي…. فأجمعت صدقه, وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس, فلما فعل جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم, ووكل سرائرهم إلى الله, حتى جئت فلما سلمت تَبسّم تَبسُّم المغضب, ثم قال : »تعال« فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: »ما خلفك, ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟« قال: قلت يا رسول الله, إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر…. والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال صلى الله عليه وسلم: »أما هذا فقد صدق, فقم حتى يقضي الله فيك«. قال: فاجتنبنا الناس, وتغيروا لنا, حتى تنكرت لي في نفسي الأرض, فما هي بالأرض التي أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة, فأما صاحباي (مرارة وهلال) فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم, فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا! ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي, وإذا التفت نحوه أعرض عني, حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة, وهو ابن عمي وأحب الناس إلي, فسلمت عليه, فوالله ما رد علي السلام, فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله ! هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت, فعدت فناشدته فسكت فعدته, فناشدته, فقال: الله ورسول أعلم. ففاضت عيناي…. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي, إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك, قال: فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا, بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك, فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
حتى إذا تاب الله عليهم, تراكض المسلمون إليهم يزفون لهم البشرى, ويهنئونهم بتوبة الله عليهم, فانطلق كعب إلى المسجد. قال كعب: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد, وحوله الناس, فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني…. فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: »أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك«. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ, أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه.
(حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها,لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.
(وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي ضاقت صدورهم بما اعتراها من الغم والهم والوحشة.
(وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجأون, ولا معتصم لهم من الله ومن عذابه, إلا بالرجوع إليه, والإنابة إليه. قال أبو بكر الوراق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت, وتضيق عليه نفسه, كتوبة كعب وصاحبيه.
(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي رجع عليهم بالقبول والرحمة, ليستقيموا على التوبة ويثبتوا عليها.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي المبالغ في قبول التوبة من التائبين, وإن كثرت الذنوب وعظمت, المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة.
1999-03-25