المصـالح الحـقيقيـة للأمّـة
1999/04/25م
المقالات
2,243 زيارة
إن أساس وجود العلاقات بين الناس هو وجود المصالح، فالذي ينشئ العلاقة بين الناس هو المصلحة، فإذا وجدت المصلحة كانت العلاقة، وإذا لم توجد المصلحة لا توجد علاقة، والمصلحة مبنية على فكر عن الشيء أو الأمر بأنه مصلحة، فإذا توافقت أفكار الناس على أمر بأنه مصلحة وجدت بينهم علاقات، وتوحدت هذه الأفكار، وإذا اختلفت أفكارهم على أمر من حيث كونه مصلحة أو لا، فإنه لا توجد بينهم علاقات.
فالذي يوجد العلاقات بين الناس هو اتفاق أفكارهم على أمر ما بأنه مصلحة، وهذا هو أول شيء في وجود العلاقات، على أن ذلك لا يكفي لوحده بل لا بد من توافق مشاعر الناس نحو هذه المصلحة، أي لا بد من توافق سخطهم ورضاهم عنها حتى توجد العلاقات، كما يجب أن يتوحد النظام الذي يرعى المصلحة، حتى توجد العلاقة، ولا يُختلَـف بشأنها.
وواقع المصلحة أنها تعني إما جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا الواقع لا خلاف فيه بين البشر لأنهم قد فطروا عليه، ولكن نظرتهم إلى المصالح تختلف باختلاف وجهة نظرهم في الحياة، فبتغيرها تتغير نظرة الناس إلى المصالح. ونظرة الإنسان إلى المصالح، أي إلى المنافع والمفاسد، تتكون من حكمه على أفعال الإنسان ومتعلقاتها، فما حكم عليه بأنه حسن أقدم عليه واعتبره بأنه منفعة، وما حكم عليه بأنه قبيح ابتعد عنه واعتبره مضرة. فاعتبار المصالح يكون بالحكم على الأفعال والأشياء فحيثما يكون الشرع فثمة المصلحة، وهذا الحكم لا يخرج عن كونه إما من عند الله أو من عند الإنسان، أي هو إما عائد للشرع أو عائد للعقل والهوى، والمقياس لا يعدو كونه إما الحلال والحرام وإما المنفعة المادية. والمتتبع للنصوص الشرعية في الإسلام يرى أنها تدل على أن نظرة المسلم للأفعال والأشياء يجب أن تكون الحلال والحرام، وهذه النظرة هي التي تعين موقفه اتجاه الأفعال واتجاه الأشياء قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آللهُ أذن لكم أم على الله تفترون) ويقول: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)، ويقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذبَ هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يوشك رجل منكم متكئاً على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدناه منه من حلال استحللناه وما وجدناه من حرام حرمناه، ألا إن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله» ويقول أيضا: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة».
وهكذا فالحياة في نظر المسلم مقياسها الحلال والحرام، وليست المنفعة أو المصلحة أساسا أو مقياسا للمسلم يحصر نظرته فيها لأن الحياة الدنيا ما هي إلا طريق للآخرة وما وجد الإنسان فيها إلا من أجل عبادة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى(وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) فالغاية هي الآخرة وما الحياة الدنيا إلا ابتلاء وممر وليست هي بالحياة الحقيقية قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) أي الحياة الحقيقية.
ولكن تلبية المصالح الدنيوية لا بد منها ورعايتها أمر حتمي لا غنى للناس عنه، ولذلك كان لا بد من وجود السلطان الذي لا يصح أن تخلو الأمة من وجوده في أي لحظة من اللحظات، لأن وجوده واجب حتمي تحتمه طبيعة حياة الأمة، وخلو الأمة من أمير لا يصح أن يحصل ولا بحال من الأحوال. ومن هنا كانت السلطة رعاية مصالح الناس، وكانت النظرة إلى المصالح هي الأساس في أخذ السلطة، وهذه النظرة هي مجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس عن الحياة وهي أساس تحول السلطان، وقيامه في الناس. ومن هنا كانت أية محاولة جدية لإيجاد السلطان يجب أن يسبقها وجود الأفكار والمفاهيم والمقاييس بين جماهير الناس، وهذا يعني بالضرورة وجوب مخاطبة الجماهير والتي هي الجماعات المتجمعة تجمعا آنيا بالأفكار والمفاهيم والمقاييس المراد إقامة السلطان على أساسها فضلا عن مخاطبة مختلف فئات وأفراد الأمة بها.
ولا يتوقف الأمر عند حد المخاطبة بل لا بد لمن يبتغي السلطان أن يتعرض للعلاقات، أي لا بد من التعرض للمصالح القائمة على أسس مخالفة لما يراد إيجاده ويسعى لتحقيقه. ومصالح الناس قد تكون دائمية وقد تكون آنية، فالدائمية منها يتعرض لها بالصراع الفكري والتثقيف المركز والجماعي وأما الآنية فيتعرض لها بالكفاح السياسي والذي يعتبر تبني المصالح جزءاً لا يتجزأ منه، وتبني المصالح هو غير رعاية المصالح لأن رعاية المصالح تكون من قبل السلطة التي بيدها الحكم والتنفيذ، وأما تبني المصالح فيكون من قبل السياسي الذي لا يملك الحكم والسلطان ولكنه يعمل جاهدا لجعل ما تبناه من مصالح محل رعاية.
ولهذا لا بد للسياسي المسلم من التعرض للعلاقات القائمة بين الناس في المجتمع، وتبيان أنها لا تقوم على وجهة النظر الإسلامية، كما لا بد من التعرض لعلاقة الحكام مع المحكومين، وإبراز عمالة الحكام لعدو الأمة الكافر، وأن رعايتهم للشؤون ليست رعاية صحيحة، وأن حلولهم لمشاكل الناس تزيدها تعقيداً، كما يجب عدم إغفال العلاقات بين دول المسلمين وأنها يجب أن تكون علاقات الإخوة في البلد الواحد، كما أن علاقة المسلمين بغيرهم يجب فيها إبراز أننا أمة واحدة تحمل رسالة السماء إلى العالم بالدعوة والجهاد.
وأهم مصالح المسلمين الدائمية وأكثرها مـصـيـرية ثـلاث:
الحفاظ على العقيدة الإسلامية، وإيجاد الخلافة والحفاظ عليها، وديمومة وجود الجهاد في سبيل الله فالعقيدة أساس الدولة وأساس المجتمع وأساس الحياة الإسلامية، والخليفة حارس للعقيدة والبلاد والعباد، وما لا أساس له ينهدم. وما لا حارس له يضيع. والجهاد لرد العدوان وحمل رسالة الإسلام. يقول سبحانه وتعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) وقال: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) وهذا تهديد صريح بعذاب الله لمن يجعلون تلك الأمور أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وعليه فلا يحل لمسلم أن يجعل حياته وحياة أولاده ورفاهيتهم في رأس سلم القيم، ثم بعد ذلك يأتي الإسلام والجهاد، لأنه إن فعل ذلك أثم واستحق عذاب الله، ومن لم يراع هذا الترتيب وحصل عنده اضطراب في هذا السلم فإنه بلا شك سوف لا يبقى في الحزب وسيسقط من أعلى درجات السلم.
فهذه المصالح الثلاث هي مصالح الأمة المصيرية والحيوية والاستراتيجية، هي مثلث الإسلام السياسي الذي يوحد هموم المسلمين وأهدافهم وأولوياتهم ومصائرهم. وكل مصلحة أخرى غير هذه لا تعدو كونها متممة لها أو مكملة لمقتضياتها. وتصاغ تلك المصالح بشكل أهداف قابلة للتحقيق، ويغلب في إظهارها جعل درء المفاسد مقدماً على جلب المنافع لخطورة وقع المفاسد على الأمة ولكون الأمة اليوم مغلوبة على أمرها فهي تعيش في أحلك لياليها وتحيط بها المفاسد من كل جانب حتى لا تكاد ترى منافع البتة أمام ناظرها.
ويمكن صياغة المصالح الحقيقية للأمة في أهداف قابلة للتطبيق وفقا للخطوط العريضة التالية:
أولا: التركيز في كل قطر إسلامي على خضوع ذلك القطر لنفوذ الكفار في كل مجالات الحياة: العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإثبات ذلك الخضوع بالأدلة والشواهد وبيان حرمة خضوع المسلمين للكفار وللكفر، ثم بيان كيفية التخلص من ذلك النفوذ ببيان الأحكام الشرعية في تلك الجوانب منـزلة على الوقائع، ويتم بذلك شحن الأمة بالعداء للكفار ولأدواتهم من الفئات الحاكمة والسياسيين المرتزقة والمثقفين المضللين.
ثانيا: إثارة مشاعر البغض والكراهية ضد أمريكا بالذات لدى جميع شعوب الأمة الإسلامية لتوحيد مشاعر سخطها في كل أقطارها ضد أمريكا باعتبارها الدولة التي لا يخلو بلد من بلدان المسلمين من وجود لها فيه. وبيان عدوانيتها للشعوب يكون مصحوبا بالإثباتات والأدلة والبراهين لتقرير أنها العدو رقم واحد للإسلام والمسلمين، ويلاحظ ذلك عند الناس عند ملاحقة نفوذها وأعمالها في كل بلد إسلامي وإبراز خطورة ذلك النفوذ وتلك الأعمال، وتحريض الشعوب الإسلامية ضد الوجود الأمريكي وإلصاق مسؤولية ذلك الوجود الاستعماري الخطير في بلاد المسلمين على الحكام الذين قبلوا بالإملاءات الأمريكية ويتحملون بذلك عار الخنوع لها.
ثالثا: الاستمرار في ضرب فكرة الديمقراطية باعتبارها أخطر فكرة غربية غزانا بها الغرب الكافر وكان قد زاد في حملته المسعورة للدعوة لها بشكل خاص في البلاد الإسلامية منذ أكثر من ثلاثين عاما لأجل حمل الشعوب الإسلامية على القبول بها بحجة عدم معارضتها للإسلام وبوصفها واحدة من الثوابت التي لا مجال لتغييرها عند كل شعوب الأرض، ثم مهاجمة فكرة الديمقراطية أولا من جهة كونها جزءا من الغزو الثقافي الغربي وثانيا من جهة كونها خيالية ويستخدمها الرأسماليون لمخادعة الشعوب وفرض سيطرتهم عليها مع أنها في الأصل غير قابلة للتطبيق، وثالثا من جهة كونها من صنع البشر وليست من عند الله سبحانه وتعالى، ثم بيان معاني السيادة والسلطان في الإسلام ومهاجمة الأفكار السياسية المرتبطة بها من مثل التعددية السياسية، وتداول السلطة، وحقوق الإنسان.
رابعا: التشديد على خطورة عمل الشركات الأجنبية في ديار المسلمين والتشكيك في أهدافها وتحريض الجماهير والأفراد ضدها باعتبارها أحد أخطر أوجه الاستعمار الاقتصادي الحديث للدول، وباعتبارها الأفعى الاقتصادية التي تقف من وراء كل الهزات المالية والاقتصادية العنيفة التي عصفت في الدول التي تسمى النامية ثم شرح دور هذه الشركات الفظيع نيابة عن حكوماتها في فرض أسلوب جديد من الاستعمار على البلدان الضعيفة، ثم بيان الأحكام الشرعية التي تثبت حرمتها وحرمة القبول بها وحرمة التعامل معها، وإثبات البدائل الشرعية التي أوجبها الإسلام على المسلمين بدلا منها. ثم مهاجمة تجليات الجشع الرأسمالي في العولمة والتجارة الحرة والخصخصة.
خامسا: حمل شعوب الأمة الإسلامية في كل أقطارها على نبذ الروابط القومية والوطنية والقبلية والمذهبية والإقليمية. وإحلال رابطة الأخوة الإسلامية محلها وجعل المسلمين يستشعرون قوتهم حال ترابطهم بها ويدركون أن أحد الأسباب الرئيسية لضعفهم هو ارتباطهم بروابط القوم والوطن والدم والمذهب مع طرح الأمثلة الواقعية على ذلك كما هو الحال في أفغانستان وبلاد العرب والفرس والترك ومعظم بلاد المسلمين.
سادسا: تسليط الأضواء على قضايا المسلمين الساخنة من مثل: قضية فلسطين وكوسوفو والعراق وجنوب السودان والجزائر وأفغانستان وطاجيكستان والشيشان وأذربيجان والفلبين وإندونيسيا وماليزيا والصحراء الغربية وغيرها وذلك بشرح واقع كل منها وبيان كيفية معالجتها وفقا للأحكام الشرعية وتعزيز الرأي العام الجماهيري بتلك المعالجات الشرعية من خلال تكرار إنزالها على الواقع.
إن هذه الأمور الستة وهي: خضوع المسلمين لنفوذ الكفار وكيفية التخلص من هذا النفوذ وإثارة مشاعر الكراهية لأمريكا والاستمرار في ضرب فكرة الديمقراطية والتشديد على خطورة عمل الشركات الأجنبية في ديار المسلمين وحمل الشعوب الإسلامية على نبذ الروابط القومية والوطنية والقبلية والمذهبية والإقليمية وتسليط الأضواء على قضايا المسلمين الساخنة، إن هذه الأمور الستة وبهذا التحديد هي التي تصلح لأن تكون أساسا للخطوط العريضة التي بموجبها تصاغ مصالح الأمة ويتم تبنيها.
واختيار هذه الأمور الستة على ما سواها آت من تقدير أنها الأكثر قابلية للإدراك والتبني من قبل الأمة، ولكونها الأشد خطورة على المسلمين إن لم تتم معالجتها، ولفت الأنظار إليها، وإدخالها في دائرة مركز تنبه الأمة الإسلامية في كافة أقطارها، ولكونها تشترك جميع بلدان المسلمين في النظر إليها باعتبارها من أولويات مصالحها.
تلكم هي الخطوط العريضة التي نرى أنها تصلح لصياغة مصالح الأمة المتجددة الحقيقية والتي هي مصالح عامة وحيوية وحساسة في كل الأقطار المسلمة مع ملاحظة أنه لا ينبغي لتلك المصالح أن تنفصل عن مثلث مصالحها المصيرية والجوهرية وهي العقيدة والخلافة والجهاد وإنما هي مكملة لها ومعززة لإيجادها ومتممة لمتطلباتها نسأل الله سبحانه وتعالى أن تتحقق تلك المصالح إنه سميع مجيب .
أحمد الخطيب ـ القدس
1999-04-25