(أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة)
1999/05/25م
المقالات
3,065 زيارة
يتحدث الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة» عن حاجتنا إلى فقه جديد غير الفقه الذي نعرفه والذي يسميه تقليدياً. ويضع عنواناً هو: (حاجتنا إلى فقه جديد). ومن يقرأ عنواناً كهذا يتوقع أن يذكر الشيخ أسباباً قوية تقتضي منا أن نبحث عن فقه حديث لعدم كفاية الفقه الذي نعرفه. وقد قرأت ما كتبه الشيخ فأحسست بخيبة أمل مريرة فهو يقول في ص26: (الحق أننا في حاجة إلى فقه جديد، نستحق به أن نكون ممن وصفهم الله بأنهم «قوم يفقهون») وهذا يعني أن الناس، أقصد المسلمين، لم يكونوا قبل اكتشاف هذا الفقه الجديد من الذين يفقهون لأنهم كانوا يتعاملون بفقه تقليدي واستمروا يستحقون وصف «الذين لا يفقهون» حتى برز إلى الدنيا هذا الفقه الجديد.
والحق ليس ما قاله الشيخ عن حاجتنا إلى فقه جديد فنحن لسنا في حاجة إلى فقه يحل لنا ما حرم الله علينا، فلسنا في حاجة إلى إصدار أحكام جديدة فيما حدث من وقائع، وإنما نحن في حاجة إلى إصدار أحكام شرعية فيما جدّ من وقائع ـ ولم يجر الاجتهاد في استنباط حكم شرعي لها ـ فلسنا في حاجة ملحة إلى محاكمة الأحكام الشرعية التي استنبطها الفقهاء المجتهدون. ولكن يبدو أن الشيخ هو نفسه يريد أن ينفلت من قبضة القواعد الأصولية في محاولة لتطويع الأحكام الشرعية لموافقة الواقع. ومثله في هذا كمثل من لا يجيدُ قواعد اللغة العربية فإذا كتب راح ينصب الفاعل ويرفع المفعول ويجر المنصوب وينصب المجرور، ويزعم للناس أن هذا فقهٌ لغويٌ جديدٌ يريح الناس من عناء التقيد بالقواعد ويجعلهم يكتبون بحرية أكبر.
يسرد علينا صاحب الفقه مجموعة من الآيات الكريمة التي تفضح المنافقين وتبين حقيقتهم وتصفهم بأنهم قومٌ لا يفقهون كقوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها) سورة الأعراف 179 وقوله تعالى: (بأنهم قوم لا يفقهون) الأنفال 65، وأورد مع هذه الآيات التي تتحدث عن المنافقين آيتين هما: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون )@ الأنعام: 65.
وفي السورة نفسها: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون )@ الأنعام: 98.
ويختم بحثه بهذه العبارة: (ولا ريب أن من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه) ويكتب كلاماً تحت عنوان «الخلاصة» في بضعة أسطر لا يختلف عن سابقه ولا يضيف جديداً.
تدبر معي أيها القارئ الكريم هل تجد في هذا الكلام ما يدلك على حاجتنا إلى فقه جديد؟
فالآيات التي سردها الشيخ هي إما آيات تلفت النظر إلى قدرة الله عز وجل ينبه الله الناس فيها بقوله «لعلهم يفقهون» أو آيات تتحدث عن جهل المنافقين وأنهم يخشون الناس أكثر من خشيتهم لله ولذلك يصفهم الله سبحانه بأنهم «قوم لا يفقهون». فهل كون المنافقين لا يفقهون يجعلنا في حاجة إلى فقه جديد؟ وهل يجد عاقل ربطاً بين المقدمة والنتيجة؟ بين الأدلة والمستدل بها عليه؟
والمهزلة الكبرى أن الشيخ عندما ختم بحثه بقوله (ولا ريب أن من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه) غاب عنه أن المسلمين المؤمنين الموقنين يؤمنون بما ينكره الكفار والمنافقون وهذا يجعلهم قوماً يفقهون ويكون الشيخ قد خاض معارك وهمية لإثبات ما هو ثابت وتحصيل ما هو حاصل!! لأن شيخنا قد بدأ بحثه بقوله: «والحق أننا في حاجة إلى فقه جديد نستحق به أن نكون ممن وصفهم الله بأنهم (قوم يفقهون) ونحن المسلمين قوم يفقهون لأننا لا نخاف الناس أكثر من الله ولأننا لا نرضى أن نكون مع الخوالف ولأننا نحب الله ورسوله أكثر من أي شيء سواهما، وهكذا تكون الحاجة إلى فقه جديد وهمية لا معنى لها.
ونـخــتـم الـكـلام بـآيــة ذكــرهـا الــشــيــخ وعلق عليها فقال:
وفي سورة التوبة ذم الله المنافقين بقوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون )@ التوبة: 87.
يعلق الشيخ عليها فيقول: «فالفقه المنفي هنا هو الفقه في ضرورة الجهاد والبذل لحماية الدين والنفس والعرض، وكيان الجماعة، وأنه مقدم على أية مصلحة فردية عاجلة».
نقول: لا نسلم بأن هذا هو تفسير الآية، وكل ما تدل عليه الآية أن المنافقين لا يعلمون ما هو الواجب عليهم وهو القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القتال معه خير من التخلف عنه لما فيه من الأمر العظيم عند الله سبحانه وتعالى. والفقه المستعمل في الآية وفي غيرها هو الفقه بمعناه اللغوي وهو الفهم أي أن المنافقين لا يفهمون. ولا تؤسس الآية لفقه جديد أو غير جديد كما يتوهم الشيخ. وعلى كل الأحوال فما قاله الشيخ من أن الفقه المنفي في الآية هو الفقه في ضرورة الجهاد … إلى آخر كلامه هو ثابت بالفقه الذي سمَّـاه فقهاً تقليدياً. فالمسلمون يعلمون أن الجهاد فرض والقتال لرد العدوان عن النفس والعرض فرض كذلك والمقتول شهيد. وبهذا يكون الشيخ لم يأتِ بجديد أبداً.
فِقْهُ الواقِعِ
يزعُمُ الشيخ أننا في حاجة إلى ما يسميه فقه الموازنات، وبعد حديث قصير يضع الشيخ عنواناً هو: «حاجتنا إلى فقه الشرع وفقه الواقع». مع أن في كتابه ما يدل على جهله بالواقع وغفلته وعدم وعيه السياسي، لذلك فإننا سنؤخر الحديث عن فقه الموازنات المزعوم لنبين للناس براعته في فهم الواقع.
يقول الشيخ في كتابه «أولويات الحركات الإسلامية في المرحلة القادمة» «وتحت عنوان الحوار السياسي مع الغرب» ما يلي:
ص «187»: «ومن واجبنا نحن أن نعمل على تحسين صورتنا عند الغرب، التي كونها عنا خلال صراعات مريرة، لم تُمح من ذاكرة التاريخ، دخلت فيها المبالغات والأساطير …
«إننا إذا أقنعنا قادة الغرب والمؤثرين في سياسته بحقنا في أن نعيش بإسلامنا، توجهنا عقيدته، وتحكمنا شريعته، وتقودنا قيمه وأخلاقه، دون أن نبغي عليهم، أو نضمر سوءاً لهم، نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في سبيل الوصول إلى هدفنا في إقامة المجتمع المسلم الذي ننشده في أوطاننا. فمما لا شك فيه أن أول ما يعوقنا في طريق هذا الهدف هم حكامنا الذين لنا بالمرصاد، ويقاومون كل توجه لتحكيم الإسلام في الحياة: الاجتماعية والسياسية والثقافية. وأن أكبر ما يؤثر على حكامنا هو الغرب ورجاله وساسته، بالتنفير من الإسلام، والتخويف من دعاته، والتشكيك في دعاته وحركاته، بالتصريح حيناً، والتلويح أحياناً، وبالطريق المباشر تارة، وغير المباشر طوراً. لهذا كان إقناع الغرب بضرورة ظهور الإسلام موجهاً وقائداً، لو أمكن، إقناعاً لحكام العرب والمسلمين بالتالي وفي ذلك كسبٌ كبير.».
الدكتور يوسف القرضاوي يقول هذا الكلام تحت عنوان: «الحوار السياسي مع الغرب» وأنا أقول رداً عليه تحت عنوان «لا حول ولا قوة إلا باللـه» مـا يلـي:
هـل يـقـول هـذا الـكـلام مـن عـنـده أدنـى وعـي سـيـاسـي ؟؟
إن الشيخ يتحدث عن الأمر بسذاجة تشبه إلى حد كبير سذاجة الأطفال، بيد أن براءة الأطفال وسذاجتهم مقبولة أما في حق شيخنا فهي مستنكرة. وهو يذكرنا بما كان يقوله بعض الحكام والسياسيين والكتاب عن محاولة كسب أميركا إلى جانب حقنا في صراعنا مع اليهود. أو على الأقل تحييدها في هذا الصراع. ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان أن ذلك وهم وسراب. فميدان الكفاح السياسي والصراع الفكري هو هنا في بلاد المسلمين، ومادته تحطيم أفكار الكفر، وإظهار عظمة أفكار الإسلام وأحكامه، وفضح الحكام والسياسيين، وخيانتهم لأمتهم ودينهم وبلادهم، وإبراز عقم معالجاتهم لقضايا الناس، وفشلهم في رعاية شؤون الناس رعاية صحيحة.
وكأني بالشيخ القرضاوي يظن أن حكام المسلمين، وهم يسومون أعضاء الحركات الإسلامية سوء العذاب ويحاربون الإسلام أشد المحاربة لمنع عودته إلى الحكم كما كان في السابق، أقول كأني بالشيخ يظن أن هؤلاء الحكام المجرمين هم ضحية للغرب لأنه لم يعطهم الصورة الصحيحة عن الإسلام وحركاته !! أو أن الغرب الحاقد لا يفهم الإسلام فهماً دقيقاً، وعليه فالشيخ يدعونا لنشرح للغرب الكافر حقيقة الإسلام والحركات العاملة له !! حتى إذا نجحنا في هذه المهمة الحضارية أوفدت أميركا مثلاً من يتولى مهمة إقناع حكام المسلمين بأن الإسلام دين الجمال والفضيلة والخير والسلام … وأن لا بأس على هؤلاء الحكام في أن يتركوا الحركات الإسلامية تصل إلى الحكم وتطردهم من هذا النعيم والملكِ الذي هم فيه فاكهون !!! ثم تبادر أميركا إلى سحب قواتها وإلغاء قواعدها العسكرية وسحب أساطيلها البحرية وشركاتها وتكف عن التدخل في شؤون المسلمين بعد أن أدركت روعة هذا الدين وروعة العاملين له !!. فهل هذه الدعوة تعبّر عن فقه الواقع، أم جهل به، وبعد عن معطياته !!
والغريب أن الشيخ في ص58 من الكتاب نفسه يورد كلاماً للإمام علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لابنه الحسن: إياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى «أي الحمقى» ويقول عن الأماني أنها قد تجتمع مع اليأس من الوصول إلى المراد. فكم يبعد هذا التصور عن الواقع وكم هو مغرق في الأحلام والأماني.
فِقْهُ الموازنَاتِ
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في الكتاب نفسه في ص35 ما يلي:
«لقد أفتت بعض الندوات المتخصصة في الاقتصاد الإسلامي التي جمعت بين عدد من أهل الفقه وآخر من أهل الاقتصاد بشرعية الاشتراك في المؤسسات والشركات التي تنشأ في البلاد الإسلامية،وتعرض أسهمها على الجمهور، ويكون أصل عملها مباحاً، ولكن يشوبه بعض التعامل بالفوائد الربوية فَرُئِيَ _ في ضوء فقه الموازنات _ ألا تُترك هذه الشركات المهمَّة والمؤثرة في الحياة لغير المسلمين، أو للمسلمين غير المتدينين، وفي هذا خطر كبير وخصوصاً في بعض الأقطار، ويُمكن للمساهم أن يُخرِجَ من أرباحه نسبة تقريبية يتصدق بها في مقابل الفوائد التي شابت ربحه. وفي ضوء هذا الفقه أُفتي الشباب المسلم الملتزم ألا يدع عمله في البنوك وشركات التأمين ونحوها، وإن كان في بقائه فيها بعض الإثم، لما وراء ذلك من استفادته خبرة يجب أن ينوي توظيفها في خدمة الاقتصاد الإسلامي، مع إنكاره للمنكر ولو بقلبه،وسعيه مع الساعين لتغيير الأوضاع كلها إلى أوضاع إسلامية.».
وفي هذا النص الذي سجله الشيخ على نفسه لم نعد ندري فعلاً هل الشيخ من أنصار هذا الدين أم من أعدائه؟ هل هو مائل إلى هذا الدين أم مائل عليه؟ إن فقيهنا المتوازن المتسامح يحلُّ للناس ما حرَّم الله عليهم مدفوعاً بأوهام لا وجود لها إلا في ذهنه. ونحن هنا لن ندخل في حجاج فقهي فهذا لن يكون مجدياً مع من فقدت عنده البدهيات التي هي معلومة من الدين بالضرورة، بل سنرد عليه بالمنطق نفسه إلزاماً له بما يقول وإفحاماً له بكلامه: حدثني أحد الأصحاب أن إحدى الراقصات كانت تريد شراء نصف الشركة التي كان يعمل فيها وهي شركة ضخمة في السعودية، وشراؤها للنصف ليس لأنها لا تستطيع شراءها كلها بل لأن القانون هناك يمنع ذلك، فهل في ذلك خدمة للاقتصاد الإسلامي تبرر لها امتهان الرقص أو تقلل من الإثم الذي يلحق بها من هذه المهنة المحرّمة. فإن قيل إن الرقص أمام الرجال غير المحارم حرام قلنا والربا حرام كذلك ولا فرق، وهو يعترف بأن الاشتراك في هذه المؤسسات حرام فيما نقلناه عنه «وإن كان في بقائه فيها بعض الإثم»، ولا معنى لكلمة «بعض» لأن الإثم إثم قلَّ أم كثر.
ثم من أين جاء بهذه البدعة، أن يتصدق الإنسان من المال الحرام، أوَلم يبلغه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيباً»، وهل إذا تصدق المسلم من المال الحرام يخفف ذلك من إثم الكسب غير المباح. وإذا وضعت هذه القاعدة أساساً يفرّع عنها، فإن في ذلك استحلال الحرام بحجة قوة المسلمين ومنعتهم، والسيطرة على مواطن الحل والربط في اقتصادهم.
ومن العبارات الطريفة التي وردت في النص المنقول من كتاب الشيخ قوله:
(مع إنكاره للمنكر ولو بقلبه) فالأصل في المسلم أن لا يرتكب المنكر، وأن عليه إنكار المنكر الذي يقوم به غيره، بيده إن كان قادراً، أو بلسانه إن عجز عن استعمال يده، أو ينكره بقلبه إن لم يكن قادراً على غير ذلك، أما أن يتلبس هو بفعل الحرام. وينكره على نفسه فهذا من العجائب.
أدلة فقه الموازنات
1- يقول الشيخ القرضاوي في ص34 مستدلاً على فقه الموازنات من كتاب الله تعالى:
والمتدبر للقرآن الكريم مكيه ومدنيه، يجد فيه أدلة كثيرة على فقه الموازنات والترجيح. نجد في الموازنة بين المصالح قوله تعالى على لسان هارون لأخيه موسى عليهما السلام: (يا ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي.) طه: 94.
فهل في هذه الآية موازنة بين الـمـصـالـح كما ذكـر الشـيـخ؟ وأين هـي الـمـصـالـح التي يراد الموازنة بينها؟
والحق أن ليس في الآية أية موازنة بين أية مصالح. والوضع الذي كان فيه هارون عليه السلام يشبه ما لو سافر صاحب شركة أو مصنع وترك شخصاً يدير الأمر عنه، وحدث في غياب صاحب الشركة أو المصنع أمر لم يعالجه نائبه معالجة صحيحة فعوتب على ذلك.
هذا كل ما في الأمر وهذا ما وقع تماماً فقد وقع هارون عليه السلام في حيرة وتصرف بالشكل الذي رآه مناسباً وهذا ظاهر في الآية في قول هارون عليه السلام: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) الآية.
فهارون عليه السلام كان محتاراً بين أمرين لم يعلم الصائب منهما، أو ما يوافق عليه موسى عليه السلام. وفي كل الأحوال، وسواء أصاب سيدنا هارون أو أخطأ، فليس هذا موضوعنا. المهم أنه لم تكن هناك موازنات من أي نوع بين أية مصالح كما توهم الشيخ.
2- يقول الشيخ: وفي الموازنة بين المفاسد والأضرار نجد قوله تعالى على لسان صاحب موسى عليه السلام في تعليل خرق السفينة: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً). الكهف: 79.
وهذه الآية أيضاً ليس فيها أية موازنة بين المفاسد والأضرار. والذي ورد في الآية يشبه ما لو علم أحدنا أن شخصاً يريد سرقة سيارة مثلاً، فإن استطاع أن يعيبها أو يعطلها ليمنع سرقتها وجب عليه أن يفعل لأن السرقة منكر يجب رفعه ودفعه ومنعه. حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه …» الحديث. أي حسب الفقه التقليدي كما يسميه الشيخ. فإن لم يستطع تعطيلها واستطاع أن يخبر الشرطة أو أي أحد يمكنه منع السرقة وجب عليه أن يفعل. وهذا ليس موازنة وليس فيه شبهة موازنة أبداً. أما ما ذكره الشيخ في قوله: «فلأن تبقى السفينة لأصحابها وبها خرق أهون من أن تضيع كلها، فحفظ البعض أولى من تضييع الكل». فهذه قاعدة مقررة في العقليات وليس في الشرعيات. وإن كان لها مدخل في الشرعيات ففي المباح فقط لا في غيره. ولو أن أحدنا كانت له أرض وأصابتها نار فاحترقت فإنه لا يقف مكتوف اليدين ويترك النار تلتهم الأرض كلها، بل يعمد إلى إنقاذ ما يستطيع إنقاذه عملاً بقاعدة: «حفظ البعض أولى من تضييع الكل». وهذا أمر مدرك بداهة ويجري عليه الناس. ولكن هذا مختلف تماماً عن العمل في البنوك الربوية فيما يتعلق بعملية الربا فهذا حرام قولاً واحداً ولا يحل لمسلم أن يكون له اتصال بعملية الربا عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الربا: آكله وموكله وكاتبه وشاهديه».
3- يقول الشيخ: ومن أبلغ ما جاء في الموازنات قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل). البقرة: 217.
ويعلق فيقول: (فقد أقر بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن لمقاومة ما هو أكبر منه). وهذا كلام خطير جداً لأنه يوهم أن الله سبحانه قد أباح في هذه الآية القتال في الشهر الحرام لمقاومة ما هو أكبر منه كما يقول الشيخ وهذا خطأ كبير لأن حرمة القتال في الشهر الحرام بقيت على حالها بقوله تعالى: (قل قتال فيه كبير) أي لا يحل. وقول الشيخ «لمقاومة ما هو أكبر منه» مخالف للسيرة لأن المسلمين لم يخرجوا لقتال أصلاً، وعندما قتلوا العلاء بن الحضرمي كانوا يظنون أنهم في جمادى الآخرة وليس في رجب. وكانت آخر ليلة من جمادى الآخرة وأول ليلة من رجب. والله سبحانه لم يُبِحِ القتال في الشهر الحرام في هذه الآية أبداً. فمن أين فهم الشيخ أن الله أحلَّ القتال في الشهر الحرام لمقاومة ما هو أكبر منه؟
إن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من المسلمين، بعد هذه الواقعة، أن يعتذروا للكفار المشركين، فالمسلمون قد قتلوا كافراً محارباً لهم على أي حال، وإن كان في الشهر الحرام فقد اشتبه الأمر عليهم كما أسلفنا، ولكنه جل وعلا، إعلاءً لشأن الإيمان وحطاً من قدر الكفر والشرك، عمد إلى تعيير المشركين وإظهار تناقضهم في أن ما فعلوه من فتنة المسلمين عن دينهم أكبر من القتل. ومعلوم أن من قتل من أبنائك خمساً وقتلت من أبنائه واحداً ليس له أن يلومك لأن ما فعله أكبر مما فعلته. خاصة أن الله سبحانه يعلم أن الزوبعة التي أثارها المشركون لم تكن حباً بالشهر الحرام واحتراماً له، بل كيداً بالمسلمين وطعناً بدينهم ونبيهم ففوّت الله عليهم الفرصة بأن هاجمهم وعيَّرهم وقرَّعهم وأظهر كذبهم وتناقضهم.
4-يقول الشيخ: وفي الموازنة بين المصالح المعنوية والمادية نقرأ قوله تعالى عتاباً للمسلمين عقب غزوة بدر: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم) الأنفال: 67.
والشيخ في هذه الآية قد ذُهِل ذهولاً تاماً عن الحق، لأن هذه الآية إن كانت تتحدث عن الموازنة بين المصالح المعنوية والمادية فهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهم فقه الموازنات بل كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفقه منه فيه (والعياذ بالله) لأن ما ورد في السيرة يقول: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من الغم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء قال وأنزل الله عز وجل: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)نقلاً عن تفسير ابن كثير.
وهكذا يظهر جلياً أن الصواب كان مع عمر ابن الخطاب لا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه فهل يدعي الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له علم بفقه الموازنات؟
5- يقول الشيخ: وفي الموازنة بين المصالح والمفاسد نقرأ قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما). البقرة: 219.
وهذه الآية حجة على الشيخ لا له، لأن فقه الموازنات (كما يحدده الشيخ) يقتضي أن ما كان إثمه أكبر من نفعه، أن يترك، ولكن المسلمين ظلوا يشربون الخمر بعد نزول هذه الآية، وإلى أن نزل قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)@ المائدة: 90.
ويظهر تخبط الشيخ جلياً، إضافة إلى ما ذكرناه، عندما يتحدث عن فوائد فقه الموازنات فيقول إنه دعي للكتابة في مجلة «الدوحة» التي يشرف عليها علمانيون وبعد تردد قرر، في ضوء فقه الموازنات، أن يكتب. ونحن نقول للشيخ إن الكتابة في المجلة المذكورة أو عدم الكتابة أمر مباح ولا يحتاج إلى فقه خاص ولا إلى استشارة مركز للدراسات. ثم يقدم لنا دليلاً آخر على عدم الحاجة إلى فقه الموازنات، مع أنه يتحدث عن أهميته وأنه لا غنى لنا عنه فيقول في ص37: «ومن نظر إلى الأمر، في ضوء فقه الموازنات، وجد أن الدخول في هذه الميادين الهامة ليس مشروعاً فحسب بل هو مستحب، بل واجب، لأنه وسيلة إلى أداء أمانة الدعوة ومقاومة الباطل والمنكر بقدر المستطاع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر ومعلوم».
فهل الدخول في هذه الميادين واجب حسب فقه الموازنات، أو أداءً لأمانة الدعوة ومقاومة الباطل، أو حسب قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؟ لأنه إذا كان واجباً حسب القاعدة الشرعية المعروفة، أو أداءً لأمانة الدعوة ومقاومة الباطل، وهذه من الفقه الذي يسميه الشيخ تقليدياً، لم نكن في حاجة أبداً إلى فقه الموازنات المزعوم وهذا هو الحق لأن في القواعد الشرعية (القديمة) ما يغني تماماً وكلياً عن فقه الموازنات أو أوهام الموازنات هذه. هذا في المباحات، مثل الكتابة في مجلة أو عدم الكتابة، ولكن الشيخ يذهب أبعد من ذلك فَيُحِلُّ ما حرم الله سبحانه. يقول في ص33: «لقد لقي العلامة المودودي وجماعته عنتاً كبيراً حينما رأى، في ضوء فقه الموازنات، أن انتخاب «فاطمة جناح» أقل ضرراً من انتخاب أيوب خان … فشُنت عليهم الغارة بحديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ويتساءل فيقول: وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية متجبراً؟ لن يفلحوا …».
وهذا يشبه قولك لشارب الخمر: لن يفلح قوم شربوا الخمر وعصوا الله سبحانه فيقول لك: وهل أفلح قوم شربوا اللبن؟!! وتبقى الخمر حراماً إلى يوم القيامة أفلح شاربو اللبن أم لم يفلحوا.
وتولي المرأة أمر المسلمين حرام إلى يوم القيامة. وهل خلت الأمة من رجل يُسند الأمر إليه؟
والشيخ يقول: «والفقه هنا ينظر: أي الشرين أهون …» ونحن نسأل الشيخ السؤال نفسه: أي الشرين أهون؟ أن يعصى الله سبحانه ويُستحلَّ حرامه وتُنتهك محارمه أو يتولى أيوب خان؟ إن الصبر على طغيان أيوب خان، على فرض حصوله، أهونُ مئات المرات من معصية الله سبحانه، بل لا وجه للمقارنة أصلاً، بل إن هذا السؤال لا يجوز والمقارنة لا تنعقد. ونحن، معشر المسلمين، لا نعترف بفقه يحلُّ ما حرم الله أو يحرم ما أحلَّ الله. وإن الصبر على تعذيب الطغاة وأذاهم وتنكيلهم بالمسلمين المخلصين لهو أحب إلينا من معصية الله عز وجل. اللهم ربنا لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك .
1999-05-25