غزوة ذات الرقاع
1999/08/25م
المقالات
2,114 زيارة
أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه بإجلاء بني النضير عن المدينة، وبذلك بدأت مرحلة تطهير المدينة من رجسهم، إيذاناً ببدء تطهير جزيرة العرب من اليهودية والنصرانية، إنفاذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان»، وقد أدى ما لحق بيهود بني النضير وسواهم من سبي وقتل وتشريد، أدى إلى بلبلة في صفوفهم، ما أدى بهم إلى إعادة النظر في مواقفهم. فقد روى الواقدي أن عمرو بن سعدى، وكان يهودياً، طاف بمنازلهم، فرأى خرابها، ثم رجع إلى بني قريظة ناصحاً: رأيت اليوم عبراً قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية، بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم، وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، وما سُلّط هذا على قوم لله بهم حاجة،… يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمداً، والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به علماؤنا، ولكن معاندتهم وكبرياءهم منعتهم من اتباع دين الإسلام، ولذلك قال عمرو: ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعاً.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: استعمل عثمان بن عفان، وعند الزرقاني أن أبا ذر لما أسلم بمكة رجع إلى بلاده فلم يجئ إلا بعد غزوة الخندق. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقع يقال له «نخل» من أرض غطفان بنجد، فلقي بها جمعاً عظيماً من غطفان، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ولم يحصل قتال، وانصرف بالناس. وهذه غزوة ذات الرقاع.
واختلف في سبب هذه التسميَة، قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقّعوا فيها راياتهم، ويقال: ذات الرقاع: شجرة بذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع، وقيل أيضاً: إنما قيل ذلك لأن الحجارة أوهنت أقدامهم فشدّوا عليها رقاعاً، وأصح هذه الأقوال كلها ما رواه البخـاري عن طريق أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونحن ستة بيننا بعير نعتـقـبـه، فنُقبت أقدامنا، ونُقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.
وأورد ابن إسحاق قصة رجل من بني محارب يقال له غُورث بن الحارث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيفه في حجره، وقيل معلّق بالشجرة، فاستل السيف، وأخذ يهزه متوعداً ومهدداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد ألا تخافني، قال: لا، وما أخاف منك؟ قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله منك، فردّ سيفه إليه، وفي هذه الواقعة نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ). وقيل نزلت في عمرو بن حجاش، من بني النضير، وما همَّ به من إلقاء صخرة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القافلة في واد كثير العضاة، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله يدعونا، فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال من يمنعك مني؟ قلت: الله، فقال من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشـام السـيف وجلس ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البيهقي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ السيف وقال لغورث: من يمنعك مني؟ فقال كن خير آخِذ. قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهـدك على أن لا أقاتـلـك، ولا أكـون مع قـوم يقاتلونك، فخـلّى سـبيله، فأتى أصـحابـه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
قال ابن إسحاق: حدّثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جعلتِ الرفاق تمضي، وجعلت أتخلّف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر؟ قال: قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: أنِخْه، قال: فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة، قال: ففعلت قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق، يواهق (يعارض) ناقته مواهقة.
ومن أحداث غزوة ذات الرقاع، ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري أن رجلاً من المسلمين أصاب امرأة رجل من المشركين، وكان زوجها غائباً، فلما عاد وأخبر الخبر، حَلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دماً. وخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً، فقام رجلان: مهاجري وأنصاري يمنعان رسول الله، فأقاما بفم الشعب، وقال ابن هشام أنهما: عمار بن ياسر وعبّاد بن بشر. فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري لأخيه المهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله، قال: فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى زوج المرأة، فلما رأى الأنصاري عرف أنه طليعة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه ووضعه وثبت قائماً ثم رماه بسهم آخر وثالث، وهو ينزعها من جسده، ثم ركع وسجد وأيقظ صاحبه المهاجري، فلما رأى ما بصاحبه الأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله، أفلا أيقظتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تابع عليّ الرمي، ركعت، فأذنْتك، وأيم الله، لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها، أو أنفدها.
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأقام عليه ثمانياً ينتظر أبا سفيان، ونزل أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل مَجنّة من ناحية الظهران، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس، وسمّاهم أهل مكة جيش السَّويق. وهذه غزوة بدر الآخرة. وذكر موسى بن عقبة عن الزهري عن عروة بن الزبير، أن المسلمين أخذوا معهم بضائع، وقالوا إن وجدنا أبا سفيان، وإلاّ اشترينا من بضائع موسم بدر، فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، ثم رجعوا، وقد ربحـوا من الـدرهـم درهمـيـن، كما قال الله عز وجل: (فانقلبوا بنعمة من الله وفـضـل لم يمسـسـهـم سـوء واتـبـعـوا رضـوان الله والله ذو فضل عظيم ).
1999-08-25