ركائز الخطاب الإسلامي المعاصر
2007/07/24م
المقالات
3,722 زيارة
ركائز الخطاب الإسلامي المعاصر
يستحوذ الخطاب الإسلامي المعاصر اليوم على عقول النخب المثقفة والسياسيين والمفكرين والعلماء، حيث تعقد المؤتمرات، وتنشر الأبحاث، وتدور النقاشات تحت شعار النهوض بالخطاب الإسلامي المعاصر والارتقاء به ليواكب متطلبات الحياة الحديثة، ويتماشى مع روح العصر، ويتجاوز السلبيات التي حالت دون أن يتبوأ الصدارة والريادة في شتى ميادين الحياة.
إن المتتبع لما يصدر من أبحاث وأوراق عمل، والمحلّل لما يصدر من توصيات عن المؤتمرات المعنية، والسابر لأغوار هذه المؤتمرات والقوى المتحكمة فيها، يخلص إلى وجود طرفين فاعلين يعملان في هذا المجال، أحدهما مخلص نزيه غيور يتطلع إلى الارتقاء بالخطاب الإسلامي المعاصر بقصد مواجهة الحملة الفكرية الشرسة التي يقودها الغرب ضد أفكار الإسلام وأحكامه، مع الحفاظ على تميّز الإسلام، ورفض التنازل عن أي جزئية دلّ الدليل الشرعي على صحتها، كما يسعى هؤلاء إلى إبراز عظمة أحكام الإسلام وسمو عقيدته، إلا أن هذا الطرف يتعرض لضغوط شديدة للحيلولة دون ظهوره وانتشاره عبر وسائل الإعلام أو أي منبر خطابي.
أما الطرف الآخر فهو على النقيض، حيث يسعى أربابه إلى ابتداع خطاب إسلامي معاصر يتماشى وأذواق الحكام، وينسجم مع تطلّعاتهم، ولا يصطدم مع الهيمنة الغربية فكرياً وسياسياً، وبالتالي انتهج أنصاره سبل تأويل النصوص، ولي أعناق الأدلة، والإتيان بقواعد قالوا إنها أصولية، لكنها تفتقر إلى الدليل أو حتى إلى شبهة الدليل، وقد سُخّرت وسائل الإعلام بجميع أشكالها لهذا الطرف طمعاً بانتصاره بحبل من الأنظمة وحبل من وسائل الإعلام.
فتجديد الخطاب الديني، والنهوض بالخطاب الديني المعاصر، وسلبيات الخطاب الإسلامي المعاصر، كل هذه العناوين وما شابهها تجمع على أن الخطاب الإسلامي يحتاج إلى طرح أفكار ومعالجات حياتية ليتصدر موقعه الريادي، ويوجه العقول سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً بالشكل الذي يريده كل طرف من الطرفين المتصدرين والموجهين لهذا الخطاب.
والراصد لفعاليات الطرف الثاني من لقاءات وحوارات ومؤتمرات يخلص إلى أن الجهود تنصبّ على ثلاث ركائز أساسية تستند عليها الأهداف، وتنكشف بانكشافها الغايات، فالخطاب الإسلامي المعاصر حسب أولويات البحث عندهم يشمل المباشر للخطاب -أي العالم أو الداعية- وصيغة الخطاب ومادته، وأخيراً يشمل المتلقي للخطاب.
وبما أن المباشر للخطاب هو ركيزة هامّة من ركائز الخطاب الديني فإنهم يشترطون حصوله على شهادة في العلوم الشرعية من جامعة معتبرة أو معهد معترف به، ناهيك عن ضرورة عقد دورات التأهيل والتوجيه لهؤلاء الدعاة، وبالتالي يتم اختزال الدعاة في حشد من الموظفين، يسهل انقيادهم، ويهون تطويعهم. والذي يمهّد طريقهم رغم اعوجاجها، أن النخبة المتميزة من الطلاب المتفوقين الحاصلين على أعلى الدرجات في معظم البلاد الإسلامية تتوجه لدراسة الطب والهندسة والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا بدل إقبالها على دراسة العلوم الشرعية.
أما الخطر الكامن في هذا المنهج والبلاء المستتر بعباءة هذه السياسة فيمكن تلخيصه بما يلي:
أولاً: منع حملة الدعوة المخلصين مخاطبة الناس جماهيرياً، والحيلولة دون اعتلائهم المنابر، أو بروزهم عبر وسائل الإعلام.
ثانياً: جعل الخطاب الديني مقصوراً على من يُضمن ولاؤهم بالوظيفة، ويتيسر تطويع ألسنتهم بالعلاوة.
ثالثاً: حصر الخطاب الديني في حملة الشهادات الذين تلقوا العلوم الشرعية كمعلومات نظرية، ولم يتلقوها تلقياً فكرياً كمفاهيم تؤثر في السلوك وتحدث طاقة للاندفاع.
رابعاً: إعطاء مسوّغ قانوني لاعتقال ومحاسبة كل مسلم غيور يريد أن يصدع بالحق أمام جمهرة من الناس آمراً بالمعروف أو ناهياً عن منكر.
خامساً: محاولة سلب الأحكام الشرعية مصداقيتها، وإرجاف الأباطيل في صحتها وقوة أدلتها إذا لم تكن صادرة عن «المجمع الفقهي» أو ما شاكله من المؤسسات التي لا تُعنى إلا بالجزئيات، كزواج المسيار وحكم التدخين، ولا تمس حياة الأمة، ولا تعالج قضاياها المصيرية، وإذا ما تعرضت لحياة الأمة بتوجيه معين فإن رائحة مداهنة الحكام المنبعثة منها تظهر قبح السرائر وتفضح خبثها.
ولقد استثمرت الأنظمة التي تسوس المسلمين بغير ما أنزل الله ذلك أسوأ استثمار، واستغلت سذاجة بعض الداعين إليه وكيد الآخرين أقبح استغلال، حتى وصل الأمر ببعضها إلى انتهاج سياسة يتمخض عنها أن يأخذ خطيب الجمعة الخطبة جاهزة، ولا يتعدى دوره على المنبر دور تلميذٍ يسمِّع الدرس أمام بقية التلاميذ، والويل له إن بدّل كلمة أو أضاف جملة، حتى ول كانت آية أو حديث.
وما نراه عبر الفضائيات، وما نسمعه عبر الإذاعات، من التسبيح بحمد الحاكم والدعاء له، رغم ما سطره هذا الحاكم أو ذاك من صحائف سوداء في تاريخ هذه الأمة إلا غيض من فيض لدعائم الخطاب الإسلامي التي يريدون، وملامح الدعاة والعلماء التي ينشدون, إلى درجة عدم تمييزهم فيما إذا كان حكام المسلمين اليوم خائفين أم خائنين.
أما الركيزة الثانية من ركائز الخطاب الإسلامي المعاصر والمتعلقة بصيغة الخطاب ومادته، فقد أصّل لها هؤلاء القوم أصولاً هي أوهن من بيوت العنكبوت (كفقه الواقع) و(فقه الموازنات) واستدلوا بقتل الغلام وخرق السفينة على ما ذهبوا إليه، فجعلوه أساساً ثم بنوا عليه، مع أن أصل الفعل حرام لا يجوز لمسلم أن يباشره، فكيف له أن يبني عليه غيره أو يستنبط منه حكماً دونه أو فوقه، كما استندوا على غير ذلك من فقه المصالح، وردّوه إلى الشاطبي افتراءً عليه، وما إصدار الفتاوى التي تتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كإباحة التعامل بالربا للشركات التي يملكها مسلمون للتحكم بعجلة الاقتصاد من الأتقياء بدل الكفار والفساق، أو السماح للطالبة المسلمة أن تنـزع الخمار عن رأسها داخل الجامعة التي تمنع ارتداءه، كما هي الحال في تونس، موازنة بين ما ينشأ عن ولوج الجامعة من العلم وما يترتب عن الانقطاع من جهل، إلا أمثلة حية لمدى جرأة هؤلاء على أحكام الله.
أما مكمن الداء وسر البلاء في هذا المنهج فيمكن تلخيصه بما يلي:
أولاً: إصدار فتاوى تتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإلباس هذه الفتاوى لباس الإسلام؛ وبذلك يسهل على البسطاء أخذها، فيصير حالهم كحال أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [التوبة 31].
ثانياً: إيهام الأمة شرعية الركون إلى الظالمين، ووجوب طاعة أولي الأمر منهم حسب تعبير علماء السلاطين، رغم ظهور الكفر البواح، وبالتالي تبقى الأنظمة في مأمن من الاجتثاث، ومنعة من الاستئصال. يقول الشيخ علي الجفري في برنامج الميزان الذي يبث عبر محطة “إقرأ” في إحدى حلقاته بتاريخ 17/7/2006م، «من حق ولي الأمر التأكذ من أن العالِم الذي يوجه الخطاب ليس له أغراض مضرة قد تحدث بلبلة في المجتمع».
ثالثاً: إجهاض أي عمل مخلص لاستئناف الحياة الإسلامية، والتنفير من حملة الدعوة العاملين لإعادة الحكم بما أنزل الله، وبالتالي إضفاء الشرعية على دوائر مخابرات الحكام التي تنتهج سياسة تكميم الأفواه، واعتقال وتعذيب الشرفاء. يقول الشيخ الداعية علي الجفري في نفس البرنامج «من حق مؤسسات ولي الأمر أن تتأكد من ضابط آخر، وهو أن العالم قد يستغل ثقة الناس للقيام بأمور قد تحدث ضرراً…».
رابعاً: ترويج سياسة قبول الآخر، واحترام الديانات الأخرى -أي احترام الكفر- وترك الحركات التنصيرية والمؤسسات الملوثة تمارس نشاطاتها دون الدخول معها في صراع فكري، لتجد الطريق الممهدة للدخول، والتربة الخصبة للنمو.
هذه بعض المخاطر المترتبة على ما يرمي إليه دعاة النهوض بالخطاب الإسلامي المعاصر، وما ذلك إلا غيض من فيض لما جرّوه من ويلات، ولما أرسوه من دعائم للأنظمة الجاهلية والحكومات.
أما الركيزة الثالثة من ركائز الخطاب الإسلامي عندهم وهي المتلقي للخطاب، فإنه إن كان الخطاب موجهاً للمسلمين في البلاد التي يدين أهلها بالإسلام، فإنه لا يعدو عن كونه إبر تخدير، لتبقى هذه الشعوب تستمرئ الذل وتستعذب الهوان، وإن كان للمسلمين الذي يعيشون في بلاد الغرب، فإن سياسة الخطاب هنا مبنية على شعار دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية، بإصدار الفتاوى التي يتحكم فيها الواقع ولو خالفت ما هو معلوم من الدين بالضرورة، مثل البقاء على العلاقة الزوجية بين من أسلمت وبقي زوجها على الكفر، بحجة حماية الأسرة من التفكك، واحتضان الأطفال من الضياع، أما إن كان الخطاب موجهاً للكافرين، فإنه وبدل دعوتهم للدخول في الإسلام، فإن الحفاظ على مشاعر الكفر عندهم غاية نبيلة، والبحث عن قواسم مشتركة هدف منشود، إلى درجة التحرّج من نعت الكافرين بالكفر والاكتفاء بتسميتهم (غير المسلمين).
والخلاصة أن النـزاهة عند هذا الطرف المتصدر للخطاب الإسلامي مجروحة، والسياسة التي ساروا عليها سياسة عرجاء فيها افتراء على الله وصد عن سبيله.
وبالعودة إلى الطرف الأول من الطرفين المتصدرين للخطاب وهو الطرف النـزيه، فإن الارتقاء بالخطاب الإسلامي المعاصر عنده إنما يكون بإرجاع الخطاب إلى أصله، ونبذ كل ابتداع لغيره، وهذا يقتضي أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله، وأن يكون الصحابة، رضوان الله عليهم، هم القدوة والمثل، وبذلك يتجلى معنى التجديد بأسمى صوره، وأرقى أشكاله، وأدق معانيه، وهذا يتطلب وجود حزب سياسي على الأقل، يكون مبدؤه الإسلام يرقى بركائز الخطاب الإسلامي، ويسمو بها إلى معارج السناء.
وإذا ما استشعرنا مدى النقاء في الخطاب، ومستوى الوعي والإدراك المنبثق عنه، ودرجة التزكية والإخلاص عند حملة الدعوة عند أخذ حزب سياسي مخلص ونزيه بعنان الخطاب الإسلامي المعاصر وبركائزه الثلاث، فإن درجة الارتقاء وصورة التجديد التي يتحلى بها المباشر للخطاب باعتباره الركيزة الأولى تتجلى بما يلي:
أولاً: العمل على تثقيف حملة الدعوة بالثقافة الإسلامية المركزة، بحيث يتلقى حامل الدعوة الأفكار تلقياً فكرياً دافعاً إلى العمل، ومحدثاً طاقةً لا تنضب، وحيويةً لا تفتر، اقتداءً بالصحابة، رضوان الله عليهم، الذين ما كانوا يتجاوزون العشر آيات إلا بعد ترجمتها عملياً في السلوك. وهذا يقتضي اجتناب طريقة الجامعات في تدريس الإسلام كمعلومات نظرية، وليست كمفاهيم عملية.
ثانياً: أن يكون الدافع الذي يدفع حامل الدعوة هو تقوى الله سبحانه، وتكون الغاية هي نيل رضوانه، وذلك لأن ما يسمم أجواء الدوافع ويلوث أرجاء الغايات هو ربط الخطاب الإسلامي بالوظيفة، وجعله رهناً للعلاوة، يقول الداعية علي الجفري في برنامج الميزان «… نشعر بالإحباط عندما نسمع بأن هناك من يبيع خطاب الله بتأمين إعارة أو بوظيفة».
وبالتالي فإن حامل الدعوة الذي نذر نفسه ابتغاء رضوان الله سيعكس الصورة الناصعة لهذا العمل الجلل، وهذه الغاية النبيلة، إن هو تلبس بالعمل ضمن حزب سياسي، وليس ضمن إطار وظيفي.
ثالثاً: الحرص على عدم ربط حامل الدعوة بأي مردود مادي، أو منصب دنيوي، لما يترتب على ذلك من فساد في الذوق، وجبن في المواقف، وافتقار للإنصاف عند الانتصاف.
يقول الداعية علي الجفري في نفس البرنامج السابق: «… إن بعض القائمين على المؤسسات الدينية يطلب الرشوة». ويقول متحدثاً عن بعض علماء الشهادات: «… يكاد صوته يخرق سمّاعة المسجد وهو يتكلم عن الحلم والأناة… ثم تراه يصخب من أجل علاوة…».
وعليه فإن استخدام المغريات على طريق حامل الدعوة من بعض الحركات للمباشرين بالخطاب إنما هو من المهلكات، لأنها تنشئ حملة دعوة يؤثرون المصلحة على الدليل، ويكون للنفعية على مواقفهم سلطان وسبيل.
رابعاً: العمل على تزكية نفوس حملة الدعوة بإخلاص العمل لله، وليس هناك أسمى من أن يشري المرء نفسه وماله لخدمة الدعوة، والنهوض بالخطاب الإسلامي نهوضاً يظهر عظمة الإسلام من خلال حملته، ويعكس صفاء العقيدة من خلال نقاء سرائر حامليها، وبالتالي يكون هؤلاء الدعاة هم القدوة والمثل.
خامساً: الوعي على وجوب عدم الربط المباشر للخطاب بالحدود المصطنعة التي أقامها الكافر المستعمر، أو أن يبرز على الدعاة شكل من أشكال الوطنية أو القومية أو الطائفية، فإن في ذلك تكريس لتمزيق الأمة، وشق وحدتها، وتثبيت مخططات أعدائها.
سادساً: العمل على توعية الدعاة سياسياً بالشكل الذي يؤهلهم ليكونوا سادة الدنيا وقادة العالم، وهذا أيضاً لا يمكن حصوله على وجهه ويتعذر تمام أمره، إلا ضمن تكتل قائم على حدود الله، لا تنطلي عليه ألاعيب الحكام، ويأبى أن يسخّر بوقاً من أبواق الزعماء.
سابعاً: تجنيد العلماء والمهندسين والأطباء والمعلمين وكل مسلم غيور ليكونوا جميعاً حملة دعوة، يتم تأهيلهم بعيداً عن حبائل الأنظمة، ومكائد العروش، عن طريق حزب سياسي مبرئ للذمة، خاصة وأن كل مسلم على ثغرة من ثغر الإسلام، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حكراً على حملة الشهادات أو أصحاب جبب وعمائم.
ثامناً: الحرص على الارتقاء بشخصيات الدعاة إلى معارج الكمال، بتزكية نفوسهم، وإثارة الشوق عندهم إلى رضوان الله وجناته، بانكبابهم على الطاعات، وانصهارهم في رحاب الفروض والمندوبات، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وفاضت عيونهم، ليس للدنيا وملذاتها سلطان عليهم، يتحلون بحلية الإخلاص لله، لا ينتظرون من أحد ثناء ولا شكوراً، حالهم كحال الصحابة رضوان الله عليهم، يتلون كتاب الله حق تلاوته، ويحرصون على تطبيق حدوده كما يحرصون على ترتيل حروفه، وهذا لا يتأتى أيضاً على وجهه الأكمل وصورته المثلى إلا ضمن حزب سياسي مبدؤه الإسلام يعمل على الارتقاء بعقليات أعضائه وتهذيب نفسياتهم.
تاسعاً: ترفّع حملة الدعوة عن كل ما يخدش الحياء ويخرم المروءة بانتقاء الألفاظ عند الحديث، والتماس الوقار دون استكبار، والتنـزه عن كثرة الضحك والمزاح، أو ولوج مواطن الميوعة، والنأي بالنفس عن كل ما ينفر السامعين ويبني حواجز بين الدعاة والناس، كالتدخين الذي أصبح عند الكثيرين عادة سيئة تحطّ من منـزلة حامل الدعوة، هذا إذا لم يتحول النقاش إلى موقف دفاعي ليقنع الآخرين بالحكم الشرعي الذي يتبناه، وكان الأولى أن يستغل المجلس فيما عداه.
وهذا يقتضي أن يرعى الحزب أفراده رعاية توجيه، وحث، وتذكير، ومتابعة، يقتقر إليها الكثيرون ممن يمارسون الخطاب الإسلامي بحكم الوظيفة.
أما الركيزة الثانية من ركائز الخطاب الإسلامي والمتعلقة بصيغة الخطاب، لقوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) [النساء 59]، وقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [الأحزاب 21].
وبالتالي فإن تجديد الخطاب بشكل لا يعتريه تأويل، ولا يلفّه نفاق، ولا يتحكم فيه دخيل، يستدعي وجود حزب سياسي أيضاً يسعى ليكون قيماً على فكر المجتمع وحسه لقوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران 104].
وإذا ما سلطنا الضوء على مدى الارتقاء المنبثق عن هذا السبيل، والمنعكس على صيغة الخطاب ومادته، تتجلى أمام أعيننا الحقائق التالية التي تبقى معلومات مجردة بمعزل عن حزب سياسي يسعى لتحقيقها.
1- قضية المسلمين الأولى هي استئناف الحياة الإسلامية، فهي تاج الفروض، بتحققها تتوحد الأمة وتطبق أحكام الله، ويوجد الإمام الجُنّة الذي يقاتل من ورائه ويتقى به. قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الإمام جُنّة يقاتل من ورائه ويتقى به» (رواه مسلم).
2- إبراز سموّ العقيدة الإسلامية عند الخطاب، وكونها العقيدة الوحيدة المبنية على العقل والموافقة لفطرة الإنسان، والعمل على ترسيخ هذا المفهوم عند أبناء الأمّة.
3- التركيز على أن المسلمين أمّة من دون الناس، وبأن هذه الأمة الكريمة هي التي اختصها الله سبحانه وتعالى بالشهادة على الناس يوم القيامة، لأن دينها هو دين الحق الناسخ لكل الشرائع. قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [البقرة 143]، وقال سبحانه: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران 85].
4- تجنب المداهنة في الخطاب، أو الركون إلى الظالمين الذين يسوسون الناس بغير ما أنزل الله، ووجوب المفاصلة بين الحق والباطل، وبين الخبيث والطيّب. قال تعالى: ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) [القلم 9]، وقال أيضاً مخاطباً رسول الكريم عليه الصلاة والسلام: ( وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا @ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) [الإسراء 74-75].
5- التصدي لكل فكر وكل مفهوم يتناقض مع أفكار الإسلام ومفاهيمه يحاول الغرب الكافر نشره بين أبناء الأمة، والحرص على إظهار فساده، وبيان زيفه، وتحذير الأمة منه وممن يحاولون إلباسه ثوباً غير ثوبه، ويظهرونه بوجهٍ غير وجهه، اقتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام الذي حارب الشرك والكفر والنفاق وخاض صراعاً فكرياً نتج عنه اندحار الكفر وأفكاره أمام الإسلام ومفاهيمه.
6- تجنيب الخطاب الإسلامي المعاصر من الوقوع تحت وصاية الحكام الظالمين، وحمايته من أن يكون رهن أهوائهم، أو طوع سياساتهم، وإن مجرد التماس مرضاتهم وأخذ موافقتهم هو إلباس للخطاب ثوب النفاق، وضمه تحت جناحي الافتراء. قال تعالى: ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) [هود 113]، وقال: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [المائدة 45].
7- عدم وضع الإسلام في قفص الاتهام ومن ثم الاستحياء أثناء الدفاع عنه بشكل تكتم فيه البيّنات، وتلوى أعناق الأدلة؛ ذلك لأن أحكام الله هي الحق ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) [يونس 32]، وبالتالي تجنب الانزلاق فيما انزلق إليه بعض العلماء بداية القرن الفائت في انتحال الأعذار، وتأويل الأحكام لإرضاء المهاجمين، وما محاولة التنصّل من أحكام الجهاد هذه الأيام ووصفها بأنها دفاعية إلا درباًَ من دروب مجاراة الكفار في محاربة الإسلام تحت شعار محاربة الإرهاب.
8- النـزاهة في الخطاب عند حملة الدعوة، وهذه النـزاهة تقتضي نبذ منهج علماء السلاطين القائم على القدح في بعض الحركات الإسلامية التي تدخل في صراعات مع الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله، وما يتبعه من محاولة إبراز الخطأ في اجتهادهم، بل وتسفيههم ونعتهم بالمتطرفين مثلاً، وفي المقابل يبقى جانب الحاكم منـزهاً عن الأطر على الحق أطراً، ومقدساً على كل مثلبة أو خطيئة، مع أن الطرف الأول محمود شرعاً وإن أخطأ، والطرف الثاني مذموم شرعاً وإن برر. قال عليه الصلاة والسلام «إنه ستكون بعدي أمراء، من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض» (رواه النسائي).
9- سماع نصح الناصحين، والابتعاد عن التماس المبررات، وهذا يقتضي الهروب من بين براثن الغرور الذي يحجب كل اتصال بين الناصح والمنصوح، وإن ما يحصل من شعور عند بعض الدعاة بأنه الأقدر على الفهم، والأدق في الاستنباط لكونه يحمل شهادة عالية في العلوم الشرعية إنما هو وقوع في حبائل الشيطان، فعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لم يتعزّ بمصاحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا بقوله: «وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» (رواه الترمذي)، ليصم أذنيه عن سماع المرأة التي عارضته في حادثة تحديد المهور تحت ذريعة أخذه العلوم الشرعية مشافهة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأن هذا لم يتسن للمرأة.
هذه بعض مصابيح الهداية التي تتلألأ بنور الإسلام المتمثل بصيغة الخطاب ومادته إذا ما باشر حزب سياسي هذا العمل الجلل، وهو بحمد الله قائم، والتلبس بالعمل معه مبرئ للذمة إن شاء الله، ونسأل الله سبحانه أن ينصره على من ناوأه، وأن يخذل من عاداه.
أما بالنسبة للركيزة الثالثة من ركائز الخطاب الإسلامي وهي المتلقي للخطاب، فالأصل أن يقتصر الخطاب الموجه لغير المسلمين على العقيدة الإسلامية ولا يتعداها إلى الأحكام؛ لأن هذه الأحكام منبثقة عن العقيدة، وما لم يؤمن بها الكافر فمن العبث الخوض معه فيها، ومحاولة إقناعه بها من خلال استلهام بعض إيجابياتها، كما يتوجب إظهار زيف أفكار الكفر التي يحملها، ونقض الأفكار التي يعتنقها، لقوله تعالى: ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) [الأنبياء 98].
كما لا يجوز إيهام الكافرين بأنهم على الحق، أو على جزء من الحق، فإن في ذلك افتراء على الله وكذب عليه لقوله تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) [آل عمران 19]. وإن مجرد إيهام الكافر بوجود قواسم مشتركة بيننا وبينهم بدل دعوتهم لترك عقيدتهم والدخول في الإسلام إنما هو تشجيع لهم على الكفر.
أما بالنسبة للمسلمين فلا بد من أن يثبت الخطاب عند الأمة الثقة بأحكام دينها والاعتزاز بالانتماء إلى عقيدتها، والنهوض بالأمة لتفكر على أساس الإسلام في كل قضاياها، ولتعمل مع العاملين الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [فصلت 33].
أبو مهند الحموري
2007-07-24