التقليد المبرئ للذمة
1987/10/25م
المقالات
3,153 زيارة
هناك ناس مقلدون يسألون العالم (أو المرجع) عن أمور دينهم من أحكام وعقائد، ويُفتيهم هذا العالم بفتاوى معينة، وربما يكون فيها الخطأ أو الضلال. فهل يكون المقلد مسؤولاً أمام الله عن هذا الضلال، أو تكون ذمته بريئة عند الله؟
فرض كفائي:
لقد أمر الله سبحانه وتعالى الناس باتباع ما أنزل من الديانات. ولمّا كانت رسالة محمد بن عبد الله عليه وآله الصلاة والسلام خاتمة الرسالات وعامة للعالمين كان الناس جميعاً مأمورين باتباعها في العقائد والأحكام. وهم الرسالة الإسلامية يحتاج إلى علم واجتهاد. ولذلك فإن وجود العلماء المجتهدين فرض كفائي في جميع العصور، ومن الخطأ الشنيع القول بإقفال باب الاجتهاد. فمن كان أهلاً للاجتهاد واجتهد في مسائل فإنه يسير بحسب اجتهاده وله أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب. ومن لم يجتهد فإنه يقلّد رأي من اجتهد. ولكنَّ هذا المقلد لا يجوز له أن يقلّد في المسألة المعينة إلا من يطمئن إلى تقواه وإلى علمه في هذه المسألة. فمن كان تقليده على هذا الأساس برئت ذمته عند الله.
معلوم بالضرورة:
لكن هنا حالة مهمة جداً، سنضرب أمثلة لتوضيحها:
1- رجل يطلّق زوجته ويرجعها، ثم يطلّقها ويرجعها، ثم يطلّقها ويريد إرجاعها، فيجد بين الشيوخ من يعطيه فتوى بذلك. في مثل هذه الحالة لا تبرأ ذمّة المقلد ولا ذمّة من أعطى الفتوى، لأنها مخالفة للشرع، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
2- رجل يستثمر ماله في المصارف بالربا (بالفائدة)، ويجد من الشيوخ من يعطيه فتوى بذلك. في مثل هذه الحالة لا تبرأ ذمّة المقلد ولا ذمّة من أعطى الفتوى، لأنها مخالفة للشرع، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
رُبَّ قائل يقول: هناك علماء معتبرون يفتون بالربا في بعض الحالات. ونحن الآن نتكلم عن موقف المقلّد، فلن نناقش رأي الذين يعطون الفتاوى الخاطئة.فإن كان المقلّد مطمئناً إلى تقوى الشيخ الذي أفتاه بحلّ الربا (في بعض الحالات وليس مطلقاً)، مطمئناً إلى علمه، وكان هذا المقلّد جاهلاً جهلاً كبيراً، فإنه ربما تبرأ ذمته عند الله. فإذا جاء من يقول لهذا المقلّد: إن الربا حرام لا يحل لك، فيقول المقلّد: إن فلاناً العالم أعطاني فتوى. فيقول له: إن فلاناً هذا مخطئ لا ويجوز لك أن تعمل بفتواه هذه. فيقول المقلد: إنه أعلم منك. فيقول له: إذا كان أعلم مني فلس أعلم من كتاب الله الذي يقول: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ)، ويقول: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، ويقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ). وبعد أن يأتيه بالنصوص من كتاب الله وسنة رسوله ويرى المقلد أنها تحرّم الربا، فإنه لا يجوز له أن يستمر في تعامله بالربا مهما كانت ثقته بالمرجع الذي أفتاه. ولعلّ هذا المقلد يقول في نفسه: إن المرجع الذي أعطاني الفتوى لا يجهل هذه الآيات ولا يجهل غيرها من النصوص التي تتعلق بالربا فأنا سأبقى على فتواه وسأبقى أتعامل بالربا.
تقليدٌ أعمى:
في مثل هذه الحالة يكون المقلد قد وقع في الحرام لأنه أصرّ على تقليد قول المرجع الذي أفتاه تقليداً أعمى، وأصر على ترك آيات القرآن بعد أن قرعت أذنيه وفهم معناها أنها تحرّم عليه هذه الفتوى. وكان يجب على هذا المقلد أن يترك الربا فوراً بعد سماعه الآيات، وإذا بقي في نفسه شبهة فعليه أن يذهب فوراً إلى صاحب الفتوى ليبيّن له كيف يبيح له الربا والقرآن يحرمه، وعليه هنا أن يحاول الفهم مهما كان جاهلاً.
لا يحل للمقلّد أن يصرّ على التقليد الأعمى بعد أن يأتيه الدليل من نص القرآن أو نص السنة على خطأ قول المرجع الذي قلده، ولا يحل له أن يجعل ثقته العمياء بالمرجع (كائناً من كان) ترجح على نص القرآن أو السنة. والمقلد الذي يفعل ذلك يكون قد تنصلّ من الكتاب والسنّة واتبع شخص هذا المرجع. وهذا ترك للدين والعياذ بالله.
إن الله سبحانه يقول: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)، فالاتباع لا يكون إلا للكتاب والسنة، وإذا جاز اتباع العالم فلأنه دليل. يدلّنا ويوصلنا إلى الكتاب والسنة، فبمجرد أن نرى إشارة تشير إلى أنه خالف الكتاب والسُنّة فلا يجوز لنا أن نتبعه، ولا يجوز لنا أن نستمر على الثقة العمياء به، بل علينا أن نسأله ونحاسبه، وإلا فإننا نصبح مثل اليهود والنصارى الذين قال الله فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فإن هؤلاء الأحبار والرهبان أفتوا اتباعهم بتحليل بعض الحرام وبتحريم بعض الحلال فاتبعوهم.
3- وهناك من يعطي فتوى بقتل مسلم (أو غير مسلم) برئ، أو هناك من يعطي فتوى بقتال المسلمين وقتلهم متذرعاً بحجة أو بأخرى، ويندفع المقلّد اندفاعاً أعمى بموجب هذه الفتوى لقتل النفس أو النفوس البريئة. وقد وردت في قتل المسلمين وقتالهم نصوص كثيرة في الكتاب والسنة منها: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». فالمقلد حين يسمع فتوى ما أحد المراجع تجيز له قتل المسلم عليه أن يسأل غيره من المراجع ليتأكد من صحة الفتوى، وعليه أن يفهم لماذا يحلّ له أن يقتل المسلم المؤمن. ذلك أن مسالة من أكبر الكبائر مثل قتل المسلم لا يجوز للمسلم أن يُقدم عليها بمجرد سماعه الفتوى من أحد المراجع، إذاً عليه أن يسأل عدة مراجع، وعليه أن يحاول فهم حجتهم، فإن رأى في الأمر اتفاقاً وفهماً جاز له أن يقتل. وإن وجد اختلافاً أو شبهة أو لم يفهم هو الأمر لا يحلّ له أن يقدم على قتل أي مسلم. وإذا أقدم فإنه يكون مرتكباً للكبيرة ولا يبرأ عند الله.
4- وهنا كمن يعطي فتوى بأن المسلم ليس فرضاً عليه أن يعمل لإقامة الخلافة الإسلامية، متذرعاً بحجة أو بأخرى. ويسمع المقلدون مثل هذه الفتوى. فيقعدون عن هذا الفرض، ويسكتون عن أنظمة الكفر تطبّق عليهم، ويرضون بتعطيل أنظمة الإسلام وباتخاذ القرآن مهجوراً. إن اتباع الدين الإسلامي بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وإقامة حدوده، والتزام أحكامه، ورفع رايته، ونشر رسالته، وحفظ بيضته، لا تتم بدون إقامة دولته. فإقامة الدولة الإسلامية فرض حتمي على المسلمين، وهذا أمر بديهي وهو معلوم من الدين بالضرورة. فإذا قام من يفتي بأن العمل لإقامة الدولة الإسلامية ليس فرضاً، فأن مثل هذا المفتي يكون جاهلاً وليس بعالم. وكلّ أمر معلوم من الدين بالضرورة لا يعذر جاهله ولو كان مقلداً، ولو كان أميَاً.
هذه أمثلة ثلاثة من الفتاوى التي يحلّون فيها الحرام، ومثال رابع عن الفتوى التي يتركون بها الفرض، وفيها كلها وفي أمثالها لا تبرأ ذمّة المقلّد لأنها إما مسائل معلومة بالضرورة ولا يعذر جاهلها، وإما مسائل خطيرة وتكاد تكون معلومة بالضرورة بحيث يجب على المقلد أن يتحرى عنها.
وراثة العقيدة:
أمّا التقليد في أصول العقيدة فهذا غير جائز مطلقاً. إذ لو جاز التقليد في أصول العقيدة لما كانت وقعت المؤاخذة على النصرانيّ واليهوديّ والمجوسيّ الذي يقلّد أبويه أو بني ملّته في ذلك. قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ).
وإننا لنرى كثيراً من المسلمين يرثون عقيدتهم عن آبائهم وراثة كما يرثون الشاة والدينار، وهذا حرام، إذ يجب على المسلم حين يبلغ سنّ الرشد ويحن يصبح قادراً على البحث والتفكير أن يعيد النظر فيما ورثه عن آبائه وبيئته دون تعصب أو هوى، فما وجده حقاً تمسك به، وما وجده باطلاً ضرب به عُرض الحائط دون أسف. فالقرآن الكريم خاطب المشركين بقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ). والذي يطلب من الناس برهاناً على عقائدهم أحرى به أن يملك هو البرهان على عقيدته.
هذا بالنسبة إلى أصول العقيدة، فإن كل مسلم يجب عليه أن يكون قد أخذها عن فهم واضح وقناعة يقينية، لأنها ليست محلّ تقليد.
أما بعض فروع العقيدة التي جاءت النصوص ظنّية الدلالة فيها، فإنها فروع خلافية، ويجوز للمقلد أن يقلّد العلماء فيها، شأنها شأن الأحكام الشرعية الخلافية. وذلك مثل الخلاف حول صفات الله، أو حول الجبر والاختيار، أو حول جواز الاجتهاد على الرسل، أو حول عصمتهم فيما عدا التبليغ… الخ
1987-10-25