( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنه من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
تنشر الوعي على صفحاتها من أقوال بعض هؤلاء الرجال وشيئا عن حياتهم أو قبسا من تجاربهم، سواء منه من استشهد، أم توفاه الله سبحانه ولما يشهد بزوغ فجر الخلافة، أم من لم يزل حيا يحمل روحه على راحته، ضارعا إلى الله سبحانه أن تكتحل عيناه برؤية الخلافة الراشدة قريبا بإذن الله سبحانه،تنشر الوعي ذلك ليس تأريخا لهم بقدر ما هي ومضات في حياتهم؛ لينتفع قراء المجلة بها ( ونعم أجر العاملين) آل عمران 136.
ومن الجدير ذكره والتأكيد عليه أن المجلة وهي تعرض بعض أقوال هؤلاء الإخوة وشيئا عن حياتهم أو قبسا من تجاربهم، في هذا العدد أو غيره ، لا تعني بذلك أنهم أفضل من غيرهم ، فالفضل بيد الله سبحانه، كل ما هنالك أن ذكرهم كان لاعتبارات لدى المجلة.
والوعي تسأل الله سبحانه أن يكون لهذا الذي فعلت خير للدعوة ولأهلها، وللمجلة وقرائها، وبالله التوفيق، وعليه التكلان سبحانه.
أولا : الشيخ أحمد الداعور ، رحمه الله
ولد شيخنا رحمه الله في مدينة قلقيلية، إحدى مدن فلسطين ” شمال الضفة الغربية” ، وكان مولده على الأرجح 1325هـ الموافق 1907م.
تلقى علومه الابتدائية في مدارسها ثم ارتحل إلى الأزهر لدارسة الفقه والشريعة الإسلامية، والتقى في هذه الفترة بالشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، حيث كان الشيخ تقي ملتحقا بالثانوية الأزهرية منذ 1928م.
أكمل الشيخ دراسته في الأزهر الشريف. وحصل على تخصص القضاء الشرعي، ثم عاد إلى فلسطين وعمل في سلك التعليم ثم في سلك القضاء الشرعي.
ولما احتل اليهود معظم فلسطين سنة 1948م بفعل الدول الاستعمارية وعلى رأسها آنذاك بريطانيا، وبفعل الحكام العملاء حول فلسطين ، كانت قلقيلية على الخط الأمامي بين الجزء المحتل من فلسطين والجزء الباقي منها مع الأردن، ولذلك كانت قلقيلية بؤرة ساخنة بين عصابات اليهود التي تغير عليها كلما وجدت فرصة؛ وبين أهل قلقيلية بؤرة المدافعين عنها، وقد كان الشيخ رحمه الله ، في أول المجاهدين الذين يردون عدوان اليهود على البلدة ، ولقد ذاع صيته في التصدي لكل عدوان يهودي على قلقيلية، فكان في البلد إمامهم في الصلاة ، وقائدهم في صد عدوان اليهود على قلقيلية ، ثم فيما بعد حامل مشعل الدعوة للخلافة منذ قيام حزب التحرير رسميا في 1953م بإمارة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله.
انضم إلى صفوف في بداية ظهوره، فقد كان يجمع الشيخين تقي الدين وأحمد الداعور رحمها الله منذ علاقتهما مع الأزهر، يجمعها إحساس بالألم لما أصبحت عليه حال المسلمين بعد قضاء الكفار المستعمرين على الخلافة 1342 هـ/ 1924 م، وكانا يدركان أن العمل للخلافة فرض وأي فرض، وأن نهضة المسلمين وعزتهم وعودتهم خير أمة أخرجت للناس، هي بإقامة الخلافة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا أصبح الشيخ عضوا في الحزب، فاعلا نشيطا قويا تقيا ، بعو الله وتوفيقه، وذلك حتى إعادة تشكيل قيادة الحزب في 1956م حيث أصبح الشيخ أحمد عضوا في قيادة الحزب الى جانب أخيه الشيخ عبد القديم زلوم بإمرة الشيخ تقي الدين النبهاني رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
رشحه الحزب في الأردن لانتخابات 54 ،56 وكان برنامجه الانتخابي صريحا واضحا أنه لمحاسبة الدولة على ولائها للإنجليز وعلى عدم تطبيقها الإسلام، وصريحا كذلك في العمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة، وكان واضحا في برنامجه الانتخابي تحريم اعمال مجلس النواب الأخرى أي التشريع وإعطاء الثقة للحكومة، فإن التشريع لله سبحانه ،والثقة لا تعطى إلى للحاكم المسلم الذي يحكم بالاسلام، وإنما ما يجوز الترشيح له فهو فقط محاسبة الدولة على عدم الحكم بالإسلام، وعلى ولائها للكفار، وأن يكون البرلمان منبرا تقال فيه كلمة الحق القوية النقية الجريئة في محاسبة الدولة ووجوب تغييرها إلى دولة تحكم بالإسلام ، ولاؤها لله سبحانه ولس للكفار المستعمرين.
إن الانتخابات وكالة وإن لم يكن موضوعها صحيحا فيحرم الترشيح والانتخاب ، إلا أن يكون البرنامج معلنا للناس صريحا بالمحاسبة فقط على النحو الذي ذكرنا، أما إن لم يكن كذلك كأن كانت الدولة تمنع الترشيح إلا بموجب دستورها أو تضع شروطا مخالفة للشرع، أو لا يذكر المرشح في برنامجه حرمة التشريع والثقة، وأنه داخل للمحاسبة فقط… إن لم يكن كذلك فيحرم ترشيحه ويحرم انتخابه. ولا يعذر المرشح القول إن إعلان مثل هذا صريحا في البرنامج الانتخابي يعرضه للسجن ونحوه، فإن الحق أحق أن يتبع، وما عند الله خير مما يجمعون، فإما أن يترشح ببرنامج يرضي الله ورسوله، وإما ، إن لم يتمكن أو لم يمكنوه، فلا يترشح حتى لا يقع في الإثم.
وهكذا فإن برنامج الشيخ الانتخابي، ولأنه كان صريحا واضحا، ولأن الناس يعرفونه تقيا قويا؛ يؤمهم في الصلاة، ويقودهم في السياسة والصدع بالحق في وجه الظالمين، وفي رأس صفوفهم في مقاومة عدوان اليهود على قلقيلية…. يألفهم ويألفونه، لذلك نجد في الانتخابات 54، 56 ، ولكثرة من انتخبه في دائرة قضاء طولكرم، فلم تستطع جهات التزوير المختصة في الدولة من إسقاطه، رغم التلاعب في الأصوات الذي حدث لكن مع هذا التلاعب فقد بقيت له أصوات متقدمة ضمنت له الفوز في الدائرة.
لقد كان الشيخ رحمه الله أمة وحده في مجلس النواب، يصدع بالحق بقوة، حتى ضاقوا به ذرعا لأن كلمة الحق أقوى من السيف على رؤوس الظالمين، وبخاصة وهو لم يعط الثقة لأية حكومة، ولم يسكت عن ارتباط الأردن بالإنجليز، وكان له موقف مشهود في البرلمان سنة 1956 من المعاهدة البريطانية الأردنية، وقد كان لكلمته آنذاك وقع الزلزال عندما قال : ” لم أر أجرأ من هذه الحكومة على الباطل..” مبينا خيانتها للأمة وولاءها للإنجليز.
وكان قد سبق هذه الكلمة، نقضه للقانون المدني في الأردن، وقد ألقى الكلمة المذكورة في مجلس النواب في 30 جمادى الأول 1274 هـ الموافق في 24كانون الثاني / يناير 1955م، وسجلت في محاضر مجلس النواب الأردني في الجريدة الرسمية العدد رقم 55 المؤرخ في 22 جمادى الآخرة 1274هـ الموافق 15/2/1955 م، ” وقد نشرت الكلمة في كتاب طبع ثلاث مرات آخرها صدر عن دار الأمة في 1410هـ/1990م”.
ولمواقفه الجريئة في محاسبة الدولة على عدم احتكامها للإسلام، وعلى ولائها للإنجليز، وعلاقتها مع اليهود المغتصبين لفلسطين، قامت السلطة في الأردن برفع الحصانة البرلمانية عنه، وتعرض للاعتقال أكثر من مرة، وكان عندما يخرج من السجن ينفى إلى بلد غير مسكنة كما نفته إلى معان مدة سنتين.
وفي 6/1/1969م اعتقل الشيخ على أثر محاولة الحزب إقامة الخلافة في الأردن وبلد آخر مجاور، ولم تخجل السلطة بأن تذكر في لائحة الاتهام التي وجهتها للشيخ وإخوانه الخمسة عشر الذين كانوا في اللائحة معه، لم تخجل أن تذكر في لائحة الاتهما ” فهم يريدون إعلان إقامة الخلافة وانتخاب الخليفة” وكل مسلم يدرك أن إقامة الخلافة هي فرض وفرض عظيم وليست تهمة توضع في لائحة اتهام.
لقد حكم الشيخ بالإعدام، ثم فرج الله كربه بعدما لبث في السجن بضع سنين.
ولما قامت ثورة الخميني في إيران ، وكان الناس يتوقون للحكم بالإسلام ، ولكن الخميني أعلن ” جمهورية إسلامية” ، ووضع دستورا لها لم يتقيد بالإسلام في كل مواده، لذلك أرسل الحزب وفدا برئاسة الشيخ أحمد إلى الخميني في قم يبين له أن نظام الحكم في الإسلام هو ” الخلافة” وليس ” الجمهورية” ثم أرسل نقضا للدستور الإيراني وجهه للخميني وباقي الجهات المختصة في إيران آملا أن يؤخذ به، وأن يعدل عن مواد الدستور الإيراني المخالفة، ولكن الوفد لم ينجح في مسعاه بل بقي النظام جمهوريا ،وبقي الدستور كما هو.
لقد قابل الوفد كثيرا من المراجع في قم، شريعة مداري ، النجفي، كولبايكاني، روحاني، وجواد ناهونار، ومنتظري ” نائب خميني حينها” وغيرهم ، كما قابل المرحوم بهشتي وكان رئيسا للحزب الإسلامي حينذاك، وقد كان له موقف محمود تجاه الوفد، وساعد في تنظيم مؤتمر صحفي للوفد ، وأكرم وفادته، ولمواقفه الخيرة تجاه الإسلام والمسلمين فقد طالته يد الغدر في التفجير الذي حدث في البناية التي كان يجتمع فيها. رحمه الله وأدخله فسيح جناته. لقد حضر المؤتمر الذي عقد في فندق الإنتركونتننتال عدد كبير من وسائل الاعلام المحلية والدولية، وقد حضرها نائب وزير الإعلام، وقدم الفندق القاعة الإعلامية مجانا ، وتكلم الشيخ أحمد في المؤتمر وأجاب على أسئلة الصحفيين ، وكان الكلام بالعربية ثم يرتجم إلى الفارسية ومن بعد إلى الإنجليزية ، وكان المؤتمر ناجحا والحمد لله.
وأخيرا لقد عرف عن الشيخ رحمه الله رغم صراعه الفكري وكفاحه السياسي، عرف عنه التقوى والزهد في الحياة الدنيا، والتطلع إلى الآخرة فوق تطلعه إلى الدنيا، فعلى الرغم من أنه عمل في سلك التعليم وسلك القضاء وانتخب مرتين عضوا في البرلمان، إلا أنه كان يسكن في بيت متواضع، لا يخطر ببال أحد أن هذا البيت يسكن داخله رجل عمل في سلك التعليم وفي القضاء وكان عضوا في البرلمان مرتين!
رحم الله الشيخ أبا محمد ، فقد كانت حياته حافلة بالخير ، فتكاد لا تجد فيها بإذن الله شاردة ولا واردة إلا أن تكون فعلا بالحق أو قولا بالحق، إلى أن توفاه الله سبحانه في 22 من ربيع الآخر 1422 هـ الموافق 13/1/2001 م.
رحمه الله ، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
******
ثانيا: محمد مهذب حفاف
عرفت الشهيد نحو سنة ” من نيسان 1972م إلى نيسان 1973م” ، وكنا معا مع إخوان لنا نعمل في حزب التحرير لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة، ثم عرفته بعد ذلك عندما شن الطاغية القدافي في حملته المجرمة على شباب حزب التحرير بعد خطابه المشؤوم في زوارة في شهر نيسان 1973 م، ثم كنا معا في السجن العسكري بطرابلس الغرب ” ليبيا” ثم نقلنا إلى السجن المدني بعد أن قضينا شهورا ثلاثة في السجن العسكري نتعرض للتعذيب الوحشي من زبانية القذافي عدو الله ورسوله والمؤمنين.
لقد كان الشهيد أمة وحده في الشجاعة والإقدام وقول الحق دون أن يخشى في الله لومة لائم.
ولأن كلمة الحق أقوى من السيف على رقاب الطواغيت: لذلك فلم يطق طاغية ليبيا سماعها وقام بإعدام الشهيد بعد نحو عشر سنوات من اعتقاله في 1983م.
ولد الشهيد في قرية القواسم بغريان ” ليبيا” ، عام 1947م، وأنهى تعليمه الابتدائي والإعدادي، في نفس القرية . ثم تحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة غريان الثانوية عام 1968م، فالتحق بكلية الهندسة ، قسم الهندسة الميكانيكية ، بالجامعة الليبية بطرابلس.
التحق الشهيد في صفوف حزب التحرير في ريعان شبابه ، وكان خلال دراسته الجامعية شعلة في العمل لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة، لا يخشى في الله لومة لائم.
اعتقل الشهيد في نيسان/ إبريل 1973 م ، وهو في السنة النهائية ” أي السنة الخامسة” ، عقب الهدرمة التي عرفت ب ” خطاب زوارة” والتي تمخض عنها موجة الاعتقالات التي طالت المثقفين والسياسين والمتعلمين بصفة عامة، وتمخض عنها أيضا الإنجاز الثقافي النادر! الذي سمي ب” الثورة الثقافية”! والتي تجسدت في منع وإحراق ومصادرة الكتب والمكتبات، ومنع الفكر والإبداع والتفكير، بالإضافة إلى إعلان الأحكام العرفية ونشر الفوضى والفوضوية التي تعيشها ليبيا إلى يومنا هذا.
يقول الدكتور فتحي الفاضلي وهو يصف إعدام الشهيد، وذلك نقلا عن موقعه (www.fathifadhli.com):
” إن المشهد الدموي الذي سنتحدث عنه، يعكس ما يكنه هذا النظام السادي، من كره لشعبنا وبلادنا ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قد أرغم النظام الليبي طلبة وأساتذة وعمال الجامعة الليبية وطلبة المدارس الثانوية والإعدادية، على التجمع في ساحة كلية الهندسة بطرابلس، دون الإعلان عن المناسبة التي دفعت بثورتنا المجيدة! إلى لم هذا الشمل المبارك.
وانطلق خيال الطلبة في محاولة ساذجة للتنبؤ بالمفاجأة التي تنتظرهم، وتساءلوا فيما بينهم، ترى من أجل ماذا هذا التجمع؟ أمن أجل تكريم أساتذة الجامعة وطلبتها! أم من أجل تدشين كليات ومعامل ومكتبات جديدة! أم لتكريم زائر من الأوساط الثقافية العالمية، أم تراه احتفالا بفوز فطحل من فطاحل الثورة بجائزة علمية ما ، أو ربما لمجرد المن على هذا الجمع الكريم بخطاب يلقيه ” القائد” ، يتحدث فيه عن استراتيجيات التعليم والإنجازات العلمية الضخمة التي حققها نظامنا الجماهيري البديع!
وفي خضم هذه التوقعات البريئة الساذجة، التي لم يستوعب أصحابها الفقه الثوري بعد! نصبت مشنقة وسط الساحة، وتوقفت سيارة قريبا من ساحة كلية الهندسة، أنزل منها أحد المواطنين الليبيين وهو محاط بشلة من الكلاب المكلوبة، كانت تمارس عليه ما تيسر من ركل ونباح وصفع، وغير ذلك من طقوس علمية ثقافية ثورية، فتراجعت ، أمام هذه المفاجأة التربوية، جميع التنبؤات ، وذهل الجميع، إلا الكلاب المكلوبة، التي كانت تجر الضحية إلى المشنقة ، بمتعة وحماس وإخلاص . ثم قامت نفس الشلة ، بشنق المواطن الليبي ” محمد مهذب حفاف” أمام ذلك الحشد العلمي العظيم. ليس ذلك فحسب بل أخذ أحد فقهاء الثورة الثقافية الخضراء، يتأرجح بجثة الضحية وهو يصيح قائلا: هذا عميل… هذا عميل!..
كان الشهيد قد اصطدم مع الرائد ” بشير هواري” والرائد ” عمر المحيشي” عضوي مجلس قيادة الثورة، في الندوة التي عرفت ب” ندوة الفكر الثوري” التي عقدت في مايو 1970م، كما اصطدم أيضا بمعمر القذافي. وكانت وجهة نظره في تلك الحوارات أكثر عمقا وموضوعية مما طرحه معمر، ومما طرحه عضوا مجلس قيادة الثورة، بل كانت وجهة نظره تنم عن ذكاء وبعد نظر وفهم دقيق للساحة السياسية في ليبيا والعالم الإسلامي. وربما بدأ الحقد والحسد يدبان إلى النفوس ضد الشهيد منذ تلك اللحظات.
اعتقل الشهيد، بعد خطاب زوارة، ذلك الخطاب الكارثة، وأودع السجن، وعذب هو وزملاؤه الذين اعتقلوا معه، عذابا شديدا ، ثم حولوا إلى غرفة الاتهام التي أطلقت سراحهم لعدم وجود تهمة أصلا . لكن هذا الحكم لم يرق للقذافي الذي شتم القضاء قائلا:” لا بد أن ترجعوهم”، فأعيدوا إلى السجن في اليوم نفسه الذي أطلق فيه سراحهم، وحولوا إلى ” محكمة الشعب” التي نظرت في القضية بعد عشرة أشهر، وحكمت على الشهيد بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. لكن هذا الحكم لم يرض غرور القذافي أيضا، فأعيدت المحكمة في فبراير من عام 1977م، ولكن أمام محكمة ثورية هذه المرة. فقامت هذه المحكمة بتغيير الحكم السابق ” 15 عاما ” إلى السجن المؤبد، ثم ولحكمة ” لا يعلمها إلا الثوريون” تغير الحكم إلى الإعدام، وفعلا أعدم الشهيد شنقا في ساحة كلية الهندسة، وفي حفل دموي عكس النفسية المريضة لكل من كان له ضلع في هذا الأمر، بصورة مباشرة أوغير مباشرة، أعدم الشهيد، قاب قوسين أو أدنى من مكتبة الجامعة وفصولها ومعاملها، التي كان يدرس بها، بينما يراقب طلبة وطالبات الجامعة والمدارس الثانوية هذا المشهد، وقد ارتسمت على وجوههم البريئة ، نظرات الحيرة والذهول والغضب.
أعدم شهيدنا بعد عشر سنوات من الترهيب والاعتقال والترغيب، من أجل أن يتخلى عن مبادئه، لكن إيمان وعزم وإرادة الشهيد فاقت طموحات الطغاة وتصوراتهم، فلم يثن العذاب ، ولم تثن الإغراءات والتهديدات من عزم ” محمد ” ، ولم تحده هو وزملاؤه عن مبادئهم قيد أنملة أو أقل، فضرب بذلك مثلا رائعا على الثبات على القيم والمباديء التي آمن بها وعاش من أجلها، ودفع حياته ثمنا لها” .
ثم يضيف الكاتب:
ويحدثنا صديق آخر عرف الشهيد عن قرب فيقول:
” كان الشهيد طويلا … أسمر اللون… دمث الأخلاق…. مهذبا ( اسم على مسمى)… جادا… أنيقا…ومتواضعا.. وكانت البسمة لا تفارق ثغره.. وكان صداعا بالحق.. جريئا .. وخاصة في المواقف التي تتطلب الجرأة.. والشجاعة.. وكان عنيدا في الحق.. لا يداهن.. ولا يهادن.. ولا يخشى في الله لومة لائم. لهذا كان معمر يحقد عليه حقدا شديدا. وكنت الفكرة الإسلامية متجسدة فيه قولا وعملا. وكان يصلي بالناس في الجامعة، وينظم حلقات القران والدروس الأسبوعية”.
ويواصل هذا الصديق قائلا:
” أعتقل الشهيد وزملاؤه في سجن الحصان الأسودن بتهمة ” الدعاية ضد الثورة” و ” محاولة قلب نظام الحكم ” . وقدم هو زملاؤه إلى غرفة الاتهما في 1/7/1974م، فأفرج عن البعض واحتفظ بالبعض الآخر، ومن بينهم الشهيد ” محمد” ، ثم أعيدوا جميعا ( حتى الذين أطلق سراحهم) إلى محكمة الشعب في 1977م، فحكمت عليهم بالسجن لمدة خمسة عشر عاما، فغضب معمر وقال: ” إللي يدان يجب أن يقضي حياته في السجن إلى الأبد” . فتغيرت الأحكام بقدرة قادر إلى المؤبد. ثم اصطدم الشهيد مع معمر في السجن، عندما كان النظام يساوم المعتقلين ويعرض عليهم العروض مقابل التخلي عن مبادئهم، وكان الشهيد صريحا واضحا حازما في طرح أفكاره ومبادئه والدفاع عنها دون تردد وريبة وشك، حتى وهو داخل المعتقل”.
انتهى كلام الصديق.
وتذكر مجلة العودة التي كانت تصدرها وحدة الشهيد التابعة لفرع الاتحاد العام لطلبة ليبيا قائلة :
” والشهيد محمد حفاف كان في إمكانه الخروج من السجن عندما عرض عليه بيع كرامته، ولكنه اختار طريق الشهداء والصالحين، ولعل بعضكم يذكر ذلك الموقف الذي يسجله التاريخ للشهيد حفاف، يوم أن وقف ناصبا عوده الرقيق ، في عزة وكبرياء وشموخ، عندما هدده الطاغية معمر بأنه سيبقيه في السجن مدى الحياة، فما كان من الشهيد إلا أن ردد قائلا بقوة وصدق وإيمان: ” إن ذلك في حد ذاته فخر وشرف لي “. وقد كرم الاتحاد العام لطلبة ليبيا الشهيدن فنظم مؤتمره الطلابي الثالث الذي انعقد في ذي القعدة 1403هـ (آب 1983م)، تحت اسم ” مؤتمر الشهيد محمد مهذب حفاف… من أحل غد أفضل”.
وتضيف وحدة الشهيد:
” نصب أذناب الطاغية المسنقة في ساحة كلية الهندسة بجامعة طرابلس، ثم أحضروا أحد خيرة شباب ليبيا ، وهو السيد ” محمد مهذب حفاف” وارتكبوا بعدها جريمتهم النكراء، جريمتهم الدنيئة، جريمتهم الخسيسة، فقد علقوا الشهيد على المشنقة ، لا لذنب، إلا لأنه قال: ” إن ربي الله ” . ولم يكتف أحد هؤلاء الحقراء المجرمين، بهذا ، بل أخذ يتعلق بجسد الشهيد الطاهر، ثم أخذوا يضربون الجسد المعلق. كما أصروا أن يحضر ذلك المشهد جميع الطلبة، حتى أنهم وجدوا بعد عمليتهم الدنيئة ، بعض الطالبات اللواتي لم يتحملن المنظر، في مكان قريب من الساحة ، فانهالوا عليهن ضربا.
وهكذا اتضحت قائمة ( الجرائم ) التي ارتكبها السيد ” محمد مهذب حفاف” من خلال ما قيل عنه وما قيل فيه:
فهو شجاع ومهذب .. وجريء,, لا يخشى في الله لومة لائم.. صدع.. أكثر من مرة… بكلمة حق.. في وجه طاغية ظالم جائر.. وهو رجل صلب.. تمسك بمبادئه.. بالرغم من الظلم والعذاب والسجون.. وبالرغم من الترغيب.. والمساومة.. والإغراء.. وهو رجل تقي.. ملتزم بكتاب الله وسنة نبيه الكريم.. متفوق في دراسته.. نشط.. يجب بلده وأهل بلده.. وكان فوق كل ذلك، أكثر ذكاء من الذين يقودون البلاد حاليا، وقد ظهر ذلك واضحا من خلال حواراته معهم.
تلك بعض جرائم السيد حفاف، التي أعدم من أجلها. فالمواقف التي أتخذها في سبيل دينه وبلده، والصفات التي تميز بها، هي قائمة جرائمه، فصفاته ومواقفه تعتبر في عرف نظامنا، جرائم تكفي لأن يتعرض صاحبها، إلى حسد وكراهية ومقت نظامنا ، فالنظام في ليبيا عدو لكل متميز ومبدع ومفكر”.
رحم الله الشهيد محمد مهذب حفاف وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، أما القذافي وزبانيته فإن لهم يوما يجعل الولدان شيبا، ليس فقط في الآخرة بل كذلك في الدنيا ، عندما يكرم الله سبحانه هذه الأمة بعودة الخلافة الراشدة، وعندها ( سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء227.
ثالثا : السياسي القدير محمد صبري موسى رحمه الله
ولد محمد صبري في 5/10/1936م في قرية جليل الواقعة في الساحل الفلسطيني شمال مدينة يافا، وفيها ترعرع ودرس في مدرستها إلى وقعت الكارثة في فلسطين بإقامة دولة لليهود عام 1948م، فاضطر أهله إلى ترك القرية والهجرة إلى مدينة طولكرم، حيث التحق بالمدرسة الفاضلية الثانوية فيها، واستمر بالدارسة إلى أن تخرج منها بعد أن أكمل دراسته الثانوية عام 56/1955م، وكان رحمه الله من الطلبة الأذكياء المتفوقين.
وفي هذه الأثناء التحق بحزب التحرير، وكان لا زالت في مقتبل العمر،وفي عام 56/1957م عين معلما في المدرسة السعدية الثانوية بقلقيلية، فانتقل هو وأهله للسكن فيها ، إلى أن سافر للسعودية للعمل فيها، وهناك التحق بوظيفة محاسب في الحرس الوطني السعودي،واستمر بهذه الوظيفة إلى عام 1962م.
وفي السعودية لم يظهر على هذا الشاب نشاط ملحوظ لأن السعودية آنذاك لم تكن داخلة في مجال العمل الحزبي . وفي عام 1962م رحل إلى الكويت للعمل فيها، وهناك التحق بوظيفة محاسب أيضا في وزارة الكهرباء، ولم تمنعه وظيفته هذه ممارسة النشاط الحزبي في الكويت، فكان رحمه الله يقوم بزيارات واتصالات للوزراء والنواب والزوار القادمين إلى الكويت يحمل الدعوة إليهم، وكان يرتاد الديوانيات للغرض نفسه، إلى أن كلفه الحزب عام 1971م بالذهاب إلى سوريا متفرغا ليتولى إدارة الحزب هناك، فانتقل هو وعائلته للسكن فيها، وبالفعل تسلم عمله كمعتمد ومندوب للقيادة في سورية، واستقر على رأس عمله إلى عام 1972م حيث أعتقل، وبقي في السجن ما يزيد عن ست سنوات، ثم فرج الله كربه وخرج من السجن عام 1977م، فاستدعاه الحزب إلى لبنان، وهناك التقى بأبي إبراهيم الشيخ تقي الدين النبهاني، عليهما رحمة الله، فكلفه بالعود إلى الكويت والمكوث فيها إلى أن يتحقق النصر بإقامة الخلافة ، ولكن الله سبحانه توفى أبا إبراهيم في العام نفسه دون ان تكتحل عيناه برؤية الخلافة التي طالما رجا الله سبحانه أن يقيمها في حياته.
وفي هذا العام 1977م تسلم قيادة الحزب الشيخ أبو يوسف عبد القديم زلوم رحمه الله، فأناط بمحمد صبري مهمة الإشراف على الحزب في الأردن، فكان مندوبا للقيادة تارة ومعتمدا تارة أخرى إلى عام 1985م ، حيث اختاره الأمير أبو يوسف عضوا في لجنة قيادة الحزب. وقد رافق محمد صبري أبا يوسف في تنقلاته، فكان إلى جانبه في لبنان تارة، وفي الأمارات تارة أخرى، وفي الأردن فترة طويلة قبل أن يعود الأمير نهائيا إلى بيروت حيث توفي فيها عليه رحمة الله.
وفي عام 1995م قرر الأمير أبو يوسف توسيع لجنة القيادة إلى ما سمي بمكتب الأمير، فدخل محمد صبري في مكتب الأمير عضوا فاعلا، وآنذاك كلفه الأمير برئاسة المكتب السياسي وإعداد النشرات السياسية للحزب، وكان رحمه الله ذا بصيرة نافذة في الوقائع السياسية، وقد ألف كتابا في السياسة سماه أضواء على العلاقات الدولية.
وعندما قام نفر من أعضاء الحزب بعملية النكث وقف محمد صبري منهم موقفا مشهودا إلى أن مكن الله سبحانه الحزب من تجاوز تلك الفعلة القبيحة الغادرة، فسجل اسمه في قائمة المنافحين الغيورين على الحزب، جزاه الله عن الحزب وعن المسلمين خير الجزاء، وقد تكالبت عليه الأمراض إلى أن حانت وفاته في 21/4/2004م، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
*****
رابعا:
قال شيخنا الكريم عن بداياته في الحزب:
” عرفت الحزب منذ نشأته في الخمسينات وكنت آنذاك دون سن العشرين، فالتحقت بعدد من الحلقات في قلقيلية آنذاك ، ثم انقطعت عن الدراسة إلى أن عدت اليها في السعودية في منتصف الستينات، ومنذ ذلك الوقت وأنا مواظب على الدراسة في الحزب.
وقد تسلمت في عهد الشيخ تقي الدين المسؤولية عن الحزب في الأردن كمعتمد مدة عشر سنوات كاملة إلى أن توفاه الله سبحانه في عام 1977م ، غير أنني لم ألتق به رحمه الله أو أجلس معه بسبب ظروف معينة حالت ون ذلك”.
ولما سئل ماذا يعرف عن الشيخ أبي إبراهيم رحمه الله، قال:
” إنني أكن للشيخ تقي احتراما وتقديرا متميزين رغم أن علاقتي به كانت مقتصرة على المراسلات بيننا، إضافة طبعا إلى قراءتي وتبني ما ورد في كتب الحزب التي ألفها هو، وما ورد في نشرات الحزب الفكرية والسياسية والإدارية. فمن خلال مراسلاتي معه وما عرفته من الشباب الذين التقوا به وعاشوا معه تكونت لدي فكرة جيدة عنه، لقد كان رحمه الله ، قمة في الفهم السياسي والفكري، وقد كان ذكيا جدا إلى درجة العبقرية، وكان حازما جدا يقطع الرأي بدون تردد ويمضي فيه بثقة عالية، وإن أردت اختصار العبارة قلت: إنه كان يتحلى بصفات قيادية نادرة، وقد حصلت في إمارته هزات كانت ستعصف بالحزب لولا ما يتحلى به من حزم وقوة عزيمة وثقة عالية استطاع بها أن يتدارك بها تلك الهزات ويخرج منها هو الحزب سالمين”.
وسئل صاحبنا الأخ الكريم عن بعض الأحداث الحزبية المؤثرة التي مرت عليه، فقال :” إني سأذكر حدثين منها:
الأول: وصل إلى الشيخ تقي عني وشاية اني أطلب من الشباب عند اعتقالهم أن يستنكروا ويكذبوا، فأرسل إلي يستوضح عن هذه المسألة، فانفعلت مما وصله عني من خبر غير صحيح، فأرسلت إليه برسالة قلت له فيها: ” أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا دفعت الشباب إلى الحرام” فما كان منه إلا أن ارسل لي يقول ” حاشاك أن تقول كذلك” وقد علم رحمه الله أن ما وصله عني كان غير صحيح”
” الثاني: كنت أدير جلسة لجنة الولاية في عام 1977م، فجاءني في تلك الجلسة رسول من الحزب وسلمني رسالة، ففتحتها وذهلت مما قرأت، إذ جاءني فيها نعي الشيخ تقي أبي إبراهيم، ولكنني تمالكت نفسي ولم أخبر أعضاء الولاية بمضمونها، واستمرت الجلسة كالمعتاد إلا أنني كنت متعجلا فيها وانهيت الجلسة، ثم أطلعت الأعضاء على الخبر الأليم،فما كان من البعض إلا أن بكى فعلا، واستغربوا كيف استطعت الاستمرار في الجلسة والتجلد،وخشي بعضهم أن يتأثر الحزب بعد وفاته رحمه الله”
حقا لقد كان وقع وفات أبي إبراهمي رحمه الله كبيرا مؤلما، فقد كان رحمه الله علامة عصره، ومع أن عضوي القيادة من بعده كانا على درجة من العلم والتقوى، إلا أنهما كانا يرجوان الله سبحانه أن تقام الدولة في عهد أبي إبراهيم ويكون خليفة المسلمين لما كان يتمتع به رحمه الله من صفات قيادية متميزة.
لقد كانت القيادة آنذاك تتكون من الشيخ عبد القديم والشيخ أحمد الداعور، وبحسب القانون الإداري حينها فإن أحد أعضاء القيادة يتولى الإمارة عند وفاة الأمير أو عزله، وقد تدافع الشيخان الإمارة، كل منهما لا يرغب فيها ويدفعها للآخر، وفي النهاية اتفق الشيخان على أن يكون الشيخ عبد القديم هو الأمير؛ وذلك لأن الشيخ أحمد كان كبيرا في السن نسبيا، وكان الشيخ عبد القديم أكثر شبابا وصحة وكان في سن 52 سنة، فضلا عن أن الشيخ عبد القديم قام بعدة أعمال حزبية في الأردن وفي العراق وفي تركيا فتكونت لديه ملكة أو قدرة على الأعمال الإدارية والقيادية”.
ولما سئل أخونا جزاه الله خيرا عن إمارة الشيخ عبد القديم : ما أحدثه في إداريات الحزب وعن أسلوبه في قيادة الحزب ثم في مواجهته لموضوع النكث، قال:
” تجدون ما أحدثه الشيخ عبدالقديم في القانون الإداري واضحا، أبرزه أنه حول قيادة الحزب إلى مكتب الأمير مع اختلاف في الصلاحيات، وأنه أوجد ديوان المظالم، وأنه ذكر تفصيلات عن انتخاب الأخير من قبل مكتب الأمير وهيئة انتخاب الأمير، وغير ذلك مما تجدونه واضحا.
أما عن أسلوبه في القيادة فالشيخ عبد القديم كان عكس الشيخ تقي الدين تماما، فأبو يوسف ليست عنده الشدة والحزم اللذان عند الشيخ تقي الدين، وإنما كان ودودا لطيفا، وكان حليما واسع الصدر جدا، أقرا أنا الرسائل الواردة إليه فأغضب من بعض ما ورد فيها، ويقرؤها هو ويبقى هادئا تماما رغم وجود اتهامات جارحة فيها إليه، فلم أره منفعلا قط في حياته أبدا إلا ما أصابه في فترة النكث، وهذه من باب ثورة الحليم.
أما مسألة النكث فكانت من أبرز وأخطر الاحداث التي وقعت في إمارة الشيخ عبد القديم رحمه الله. وقد وفق الله سبحانه أبا يوسف لوأد تلك الفتنة، ومن ثم انطلاق الحزب أقوى مما كان، حيث سقط من ليس من أهله، الذين لو بقوا مع الحزب ما زادوه إلا خبالا. وهكذا استمر الحزب قويا بفضل الله، يرتفع من شاهق إلى شاهق ، ليعيد الخلافة الراشدة الثانية بإذن الله ،ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله”.
وأخيرا لقد عرفته عن قرب … فقد اعتقله الظالمون أكثر من مرة، ولقد مكث في إحداها نحو ست سنوات، وكان الشباب يحكمون أقل من ذلك ، فيدخلون السجن ويخرجون ،وهو يستقبل الداخل ويودع الخارج بهدوء واطمئنان بقضاء الله، فتراه كأنه يثبتهم هو لا هم، ويصبرهم هو لا هم ، مع أنهم خارجون وهو باق خلفهم في السجن….
جزى الله خيرا أخانا أبا إياس ، وبارك الله فيه وبه.
***
خامسا:
لما سألنا الأخ الكريم كيف تعرف على الحزب، قال:
كنا في صلاة الظهر في مسجد الحاووز في مخيم البارد ” لبنان” ، وكان ذلك سنة 1953م، وكنت في الثامنة عشرة من عمري ، بعد الصلاة تقدم رجل من الإمام وكلمه قليلا وانصرف. وبعدها قال لي الإمام، وكنت من مريديه: ” يوجد درس دين يوم الأحد في طرابلس، فهل ترغب في الحضور؟” قلت : ” نعم”. كان ذلك الدرس هو الحلقة الأولى التي أحضرها من حلقات ” حزب التحرير” . وأعطونا كتاب ” نظام الإسلام” الطبعة الأولى، ولم تكن منقحة ومزيدة كالطبعات التي لحقتها. وأعطونا أيضا كتيب ” أسس النهضة” . ولم يذكر لنا المشرف في حينها اسم ” حزب التحرير” ، بل عرفنا ذلك في وقت لاحق.
كان مؤسس الحزب الشيخ تقي الدين النبهاني ” ابو ابراهيم” رحمهالله ، يحضر أحيانا طرابلس ” لبنان” ويكون هو مشرف حلقتنا. وبعد مضي حوالي ثلاثة أشهر على بدء دراستنا (وكنا ما زلنا ندرس في موضوع ” القيادة الفكرية في الإسلام” في كتاب النظام) حضر أبو إبراهيم وأشرف على حلقتنا، وفي آخرها شرح لنا معنى التحزيب والقسم، ودعانا واحدا واحدا لأداء القسم، وكنا نقرأ الفاتحة بعد كل قسم، وكان يدعو لكل واحد بالتثيت . وقال لنا : يمكنكم أن تبدأوا بإعطاء الحلقات.
ولما سألناه عن علاقته بأبي إبراهم، رحمه الله، قال :
أبو إبراهيم ” النبهاني” كان ينتقل من القدس إلى عمان إلى دمشق إلى بيروت، حيث يعطي حلقات في الذهاب والإياب ويدير أمور الدعوة . وكان يرسل من شباب الحزب البارزين، حينذاك ، من يقيم فترة في لبنان من أجل تنشيط الدعوة.
ومن الأمور التي أكرمني الله بها أني كنت قريبا من مؤسس الحزب أبي إبراهيم رحمه الله. بعد سنة 1958م صار مطلوبا في لبنان حيث كان يسكن مع أسرته في بيروت. فترك بيته وأسرته وسكن وحده كنت أحد الأشخاص الذين يترددون عليه لإيصال الرسائل منه وإليه، ومرافقته حين كان يمارس رياضة المشي قريبا من مسكنه أو بعيدا عنه. وكنت أناقشه في ما يكتبه من تعليقات سياسية وأجوبة أسئلة فكرية أو فقهية أو إدارية. وكنت أسأله عن كل الأمور التي كانت تصادفني في كتب الحزب والتي كنت أحس بحاجة إلى زيادة الوضوح فيها.
وهذا ما ساعدني على كيفية التحليل السياسي والفهم السياسي، وعلى كيفية الاستدلال في الفقه، وعلى كيفية الحكم على الأفكار وفهم العقائد.
قد شاء الله أن يكرمني أيضا بقربي من أمير الحزب الثاني: الشيخ عبد القديم زلوم (أبو يوسف) رحمه الله، فقد كان خير خلف لخير سلف. وقد عشت بقربه فترة غير قصيرة، وكنت سفيرا متجولا له في أماكن نشاط الحزب،وقد أوفدني فترة للإقامة في سوريا، ثم أوفدني فترة للإقامة في الأردن.
ولما سألناه عن الضيق والشدة على الحزب في عهد عبد الناصر قال:
بعد بروز جمال عبد الناصر في مصر على أثر العدوان الثلاثي (الإنجليزي-الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر سنة 1956م صارت لعبد الناصر شعبية كبيرة في البلاد العرية ، ثم بعد إقامة الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958م ارتفعت شعبية عبد الناصر إلى عنان السماء. وكان ” حزب التحرير” يبين في منشوراته التي يوزعها بكثافة على الناس، كان يبين أن عبدالناصر عميل لأميركا، ما آثار حملة عنيفة عند الناس ضد ” حزب التحرير” ، لأنهم كانوا يأخذون الأمور بقشورها على السطح دون البحث في أعماقها ومن ورائها. وهكذا أبطأ اندفاع الناس نحو ” حزب التحرير” عما كانوا عليه في السنوات الأولى، حتى إن بعض أهل شباب الحزب في بعض المناطق صاروا يضغطون عليهم لترك الحزب ، واغتنمت الحكومات ، حيث ينشط الحزب، هذه الأجواء لملاحقة شباب الحزب واعتقالهم. فصار شباب الحزب يجدون الناس ضدهم، ويجدون أهلهم ضدهم، ويجدون السلطات الحاكمة ضدهم، وكانت هذه محنة كبيرة لشباب الحزب ، دخلت السجون على أثرها أعداد ليست قليلة من الشباب.
وعن تأثير السجن على الشباب ، ودخوله هو السجن بسبب الدعوة قال:
أنا دخلت السجن في لبنان ست مرات بسبب حمل الدعوة ، نحو 45شهرا ، ودخلت السجن في الأردن مرة نحو 26 شهرا، وقد كنت أرى الشباب ثابتين على الحق، صابرين مصابرين، شوكة في حلق الظالمين، ومع أن في السجن ضيقا وشدة وبطش الظالمين… إلا أننا نرجو أن يكون لنا ولأمثالنا فيه خير: إذا كانت النية خالصة لله فأجره عظيم ولو خالطه تعذيب ومشقات للشخص ولأسرته. وهو خير لأن حمل الدعوة داخل السجن ميسور أيضا. وهو خير لأنه يتيح للمرء أن يطالع ويدرس الفكر والفقه والسياسة، ويناقش الأفكار مع العقلاء داخل السجن.
لقد استمرت عقدة عبد الناصر هذه في وجه الحزب ما يزيد عن ثماني سنوات ، أي إلى ما بعد حرب 1967م التي هزم فيها عبد الناصر وسوريا والأردن وسائر العرب أمام يهود. وحينها أدركت الأمة، ولكن بعد فوات الأوان، صدق ما كان يقوله الحزب عن عبد الناصر وعن غيره من الحكام، وفقدت الأمة الثقة بهؤلاء الحكام في هذه المنطقة، وصارت تبحث عن شيء آخر، فبرز أمامها بالقرب من فلسطين العمل الفدائي. وهاهم الذين قادوا العمل الفدائي والذين تاجروا بالعمل الفدائي يوصلون الأمة إلى الاستسلام لدولة يهود وبقية دول الكفر.
وقبل أن ننهي الحديث معه، طلبنا منه كلمة للشباب فقال:
أنا اطلعت على معظم الأحزاب والحركات الأخرى في البلاد العربية والإسلامية، على مختلف عقائدها ومناهجها. وبطبيعة الحال أنا مطلع على ” حزب التحرير” بكل دقائقه ومن الموقع أقدم شهادتي، بين الله ، للناس كافة وللمسلمين خاصة أن ” حزب التحرير”هذا هو نقي طاهر صادق، وأنه ليس له باطن مخالف لظاهره، بل باطنه هو مثل ظاهره،وأشهد أيضا أني حين كنت أحاكم الأحزاب والحركات الأخرى وأقارنها مع ” حزب التحرير” ، كنت أجتهد أن أكون منصفا، وبخاصة الحركات الإسلامية. وبناء على ذلك أقول بأن كل منصف ويتمتع بنسبة مقبولة من المعرفة بأمور هذه الأحكام ستوصل إلى أن ما عليه ” حزب التحرير” هو المنهج الصحيح لإنقاذ العالم، ولإعادة المسلمين كما أرادهم الله ( خير أمة أخرجت للناس) آل عمران 110.
بارك الله في أخينا أبي محمود عبد الهادي وجزاه الله خيرا.
****
سادسا:
سألنا أستاذنا كيف كانت بدايتك مع الحزب فقال:
سمعت بالحزب في أواسط الخمسينات حين كنت طالبا ثانويا، وقرأت بعض نشراته، واستمعت إلى بعض آرائه، ولكنني لم أنضم إلى حلقات الحزب إلا حين أصبحت طالبا جامعيا ومنذ بداية العام الدراسي، وكنا شبابا كثيرين تحس بنا إدارة الجامعة ويحترموننا، كما أن طلاب الجامعة وبعض أساتذتها كانت لنا معهم جولات من النقاش، وكنا نعطيهم إصداراتنا من النشرات ومن الكتيبات وحتى الجريدة التي كان ينشر الحزب فيها أفكاره، وكان التيار الناصري كاسحا، ومع ذلك أثبتنا وجودنا باقتدار.
ورغم قيامنا بالأعمال الحزبية على أكمل وجه، إلا أننا كنا نقضي كثيرا من الوقت مع بعضنا البعض، وكان ذلك يفيدنا في أن تعصم جماعتنا أفرادها، وكنا ننمي ثقافتنا الفكرية والسياسية بالمناقشات التي تمتد لساعات طوال وبخاصة في الليل، هذا بالإضافة إلى عيشنا في أوساط الناس عيش حامل الدعوة.
أصبحت عضوا في الحزب عام 1962م، وأصبحت أحس تبعات الحزب بعد أن صرت أتدرج في المراكز الإدارية من الإشراف على حلقة، إلى عضو لجنة محلية، إلى نقيب لجنة محلية، ثم إلى عضو في الولاية، وإلى معتمد الحزب في الولاية، وفوق ذلك من مهمات أسأل الله أن أكون أحسنت أداءها.
وبحكم تنقلي في البلدان، وبحكم مكان سكناي، تعرفت على الكثيرين من شباب الحزب، منهم من استشهد على أيدي طاغية ليبيا، ومنهم من استشهد على أيدي طاغية العراق السابق، ومنهم من انتقل إلى جوار ربه رحمهم الله جميعا، وجمعنا بهم في مستقر رحمته، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة عاملا لنصرة دين الله، مترقبا وعد الله وبشارة رسوله بإقامة الخلافة الراشدة، تقبل الله من الجميع ، وأطال في أعمار الأحياء ليروا رايات الإسلام خفاقة.
ونسأله عن بعض الوقائع في حياته الحزبية اللافتة للنظر، فيقول:
جاءني أحد الشباب التاركين، وقال لي: إن عصمت إينونو قد مات، فقلت له : سمعت ذلك في الأخبار، فما تعليقك ؟ قال : كنت أرجو أن تقام الخالفة أثناء حياته، حتى يخبر معلمه حامل وزر إلغاء دولة الخلافة، أن الخلافة قد أعيد بناؤها!! وهذا مجرد مثل من الشباب الذين يتشوقون لرؤية الخلافة منذ الخمسينات ، وبلغني أن شقيقين كانا يدرسان مع الحزب، وصباح كل يوم كان الشقيق الأصغر يسأل شقيقه: هل قامت الدولة الإسلامية؟ وكان ذلك في أوائل نشأة الحزب، ما يؤكد صحة التوجه الحزبي نحو استلام الحكم وتطبيق الإسلام.
ثم يضيف:
ولقد عملت في أوساط المنظمات الفلسطينية، وكم أحسست بضياع الكوادر والعناصر، وكان لنا منهم أنصار من الصف الثاني ، وكانت لي لقاءات مطولة وعديدة مع بعضهم، وأذكر أنني تقريبا لم أجد بين من التقيتهم من يعادي غايتنا، أو من يدافع عن أيديولوجية منظمته، أو من ليس جاهزا لمساعدتنا في تحقيق غايتنا، وأذكر أن أحد قياديي الجبهة الشعبية قال لي : حين تقوم الدولة الإسلامية، سأقول لجورج حبش: يا جورج هذه دولة الإسلام ويجب أن نساندها. وكانوا جميعا يعترفون بأن أعمالهم العسكرية لا تحرر فلسطين، وأنه لتحرير فلسطين لا بد من تحرير ما يسمى بدول الطوق: مصر والأردن وسوريا…
وقد تأكد لي خلال اتصالاتي مع الكثيرين، وفي كثير من بلاد المسلمين، أن الحزب له حضور واحترام في كل الأوساط، وأن أي مفهوم نتحدث به يترك أثرا في نفس السامع، فيؤثر في موقفه منا ولو بعد حين.
في أحد اتصالاتي قال لي أحدهم: إن لي تجربتين مع حزب التحرير: إحداهما أن وزير دفاع دولته أرسله ليلا إلى الأردن ليستكشف أخبار محاولة أخذ الحكم في الأردن عام 1969م، وكلفه الاتصال بياسر عرفات ليتبادل المعلومات معه ضد حزب التحرير، وأخذ ما عنده من معلومات جديدة حول الحزب ونقلها إليه فورا. وهكذا كان، فلفت نظره هذا الاهتمام من وزير الدفاع ، والتعاون بينه وبين عرفات ضد حزب التحرير ، والأخرى أنه جاءه أحد شباب الحزب، وقد سماه لي وأنا اعرفه، وقال الشاب له : أنا فلان ، فاستغرب الرجل من جرأته، كيف يأتيه إلى مكتبه، وهو يعرف أنه مطلوب لدى الأجهزة الأمنية، وهو قادر على توقيفه فورا. وقد أثرت هذه المواقف في هذا الرجل ، وكان يكبر الحزب وشبابه، وكان متجاوبا معي بشكل كامل منذ الجلسة الأولى.
ثم نسأله كلمة أخيرة يوجهها فيقول:
كم هناك من أناس ينتظروننا لنتصل بهم ، وليؤكدوا لنا أنهم جاهزون للعمل معنا أو لتأييدنا أو للقيام معنا ببعض أعمالنا، المهم أ، نكون موجودين وبقوة حيث يجب أن نكون ، فلا يفتقدنا أهلنا، وأن نحرص أن نكون في كل مكان؛ لأن الناس في حاجة لما نحمل من أفكار إسلامية، ولما نعمل له من إقامة دولة الخلافة، التقيت أحد الضباط ، فأخبرني بأنه التحق بالكلية العسكرية من أجل خدمة الإسلام، وحين عمل ضابطا في القوات المسلحة أحس أنه غير قادر على خدمة الإسلام، ففكر جديا في طلب التسريح، وكان له مدرب في الكلية العسكرية نشأت بينهما مودة وصداقةن وهو أكبر منه سنا وأعلى رتبة، فعرض عليه ما يفكر به من طلب التسريح، فكان جواب الضابط المسن لا تفعل فهذا خطأ، فلتبق في الجيش كما تبقى الكمأة تحت الرمل إلى أن يأتي من ينبش عليها ويخرجها من الأرض، فكم هناك من كمأة في مواقع التأثير في بلاد المسلمين، ينتظرون الأنامل الماهرة للكشف عنهم، والعمل معهم لتحقيق غاية الحزب في نصرة الإسلام ورفع راية الإسلام وتحرير بلاد المسلمين وتوحيد بلادهم في دولة الخلافة القادمة.
بارك الله في أستاذنا أبي هادي، وأكرمه الله بالفوز في الدارين ، وبشر الصابرين ن فلقد خاض صاحبنا غمار الابتلاء ، فصبر بحمدالله ونجا وفاز. لقد كان يمكث في سجون الظالمين السنوات السبع والعشر ، ويخرج منها أشد مضاء وأقوى عزيمة… وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أشد الناس بلاء فقال:” الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل…” أخرجه أحمد.
****
سابعا:
ولد صاحبنا في بلدة سير الضنية عام 1954 م شمال لبنان، ودرس المرحلة الابتدائية والتكميلية –المتوسطة- والجامعية في طرابلس.
لقد كان يصلي منذ ما قبل السادسة من عمره في مسجد القرية القريب من بيتهم معظم الصلوات في صف قد لا يتجاوز العجائز فيه العشرة… واستمر منذ نعومة أظفاره يحب الإسلام والالتزام به والدعوة الفردية له بشكل عام.
يقول من يعرفه : إنه كان يتناول موضوع القضاء والقدر مع زميل له في دار المعلمين، وكان رأيه مثل رأي الحزب، وكان ذلك قبل أن يتعرف عليه، وكان هذا سببا في الإعجاب بالحزب لما عرضت عليه فكرته. وكانت لديه في البداية تساؤلات حول ما يجب أن يكون عليه المسلم، حتى هداه الله سبحانه وتعالى إلى أن انتظم في الحزب انتظاما جعل حياته كلها تتغير، وتساؤلاته تتبخر، يقول صاحبنا :” فحمدت الله سبحانه وتعالى وشعرت بقربه مني حيث قد سمع شكواي ونجواي، فالحمد لله، ثم الحمد لله، ثم الحمد لله وحده، لا أشبع منها… لقد وجدت ما كنت أبحث عنه”.
وبدأ رحلة العمل مع الحزب عام 1975م، هو ابن الواحد والعشرين عاما، ورحل معها رحلته المضنية الوعرة … يقول في مقابلة معه: ” وصرت معه أرى الأمور وأفهمها على حقيقتها من غير مؤثرات سحرة الغرب وأعوانهم المارقين من المفكرين والسياسيين، وجدت نفسي أسير مع شباب صادقين مخلصين واعين، رجال أتقياء صابرين، يهتمون بمعالي الأمور لا يفت من عضدهم مكر الماكرين من حكام ” جثمانهم جثمان إنس وقلوبهم قلوب شياطين” ومن مفكرين هم ” دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها” ومن علماء سوء يردون على الحزب عمله في استئناف الحياة الإسلامية ، ولا يردون على الحكام الظالمين الفاسقين الكافرين حكمهم بغير الإسلام”.
ويضيف:
“سرت مع الحزب أعيش معه همه ، يحزنني ما يصيبه، وما أكثر ما كان يصيبه، سرت معه في مرحلة كان التجاوب فيها لأفكاره ضعيفا، كنا نضرب الموعد مع المسلم لكي نبلغه فلا يأتي ، وإن أتى بعد أكثر من مراجعة فلا يستجيب، وإن إستجاب فحياء ثم لا يلبث أن يترك، حتى إن بعض من كان يستجيب لنا للدارسة لا نلبث أن نكتشف أنه ” يقطع” في صلاته، فكنا نتابعه ونصبر عليه حتى ندرسه طريق الإيمان، وأذكر أن أحدهم راح يشكرني بشدة فيما بعد لأنني صبرت عليه ولم أتركه بسبب هذه المعصية… كانت فترة قل فيها المجيب وفقد النصير”.
يقول بعض من يعرفه: كانت تلك الفترة من الدعوة تتميز بالوجود السوري العسكري والمخابراتي في لبنان، وكانت المخابرات السورية تعتمد على الشبهة والشدة في التحقيق، وحدث مرة أن اكتشفت المخابرات اسمه فحضروا وحضرت معهم شاحنتان مليئتان بالجنود وداهموا بيته فلم يجدوه! وبثوا مخابراتهم وأكثروا من السؤال عنه … يقول صاحبنا :” هذه كانت أول مرة، ودائما أول مرة لها شعور خاص، شعرت يومها أنني بحاجة إلى ركن ثابت أستند إليه وأحتمي به، فقلت في نفسي: سبحان الله، ما مشكلتي هذه أمام مشكلة اولئك الأوائل الذين لوحقوا من أول أيام الدعوة حيث لم يكن للحزب قاعدة شعبية ولا حماية ولا أنصار … حقا لا سند إلا الله ، وكفى بالله سندا. فعندما يكل المسلم أمره إلى الله يرتاح”.
ويستمر صاحبنا في الدعوة ويستلم المسؤولية في بلده، وتستمر الزبانية السورية في طلبه وينجيه الله منهم، ويذكر صاحبنا حادثة لها دلالة كيف ينجي الله عباده المتقين، يقول صاحبنا: ” في إحدى المرات تمكنت الخابرات السورية من معرفة عنوان عملي في إحدى الدوائر الرسمية، فدخل معاون في المخابرات السورية إلى الغرفة حيث أعمل، دخل وكأنه مواطن يراجع في معاملة، وسأل عن أسمي الأول ، فتوجست منه: وكان معي موظفان آخران ، فخشيت أن يكشف أحدهما عن اسمي من غير ما انتباه ، فبادرت إلى الكلام معه بصوت مرتفع حتى يسمعا فلا يتدخلا وهذا كان. فقلت له : من أحمد؟ فذكر الاسم كاملا، فقلت له : قد يكون ذهب عند رئيس الدائرة ، فخرج فظهر المسدس على جانبه الآخر فتأكدت من كونه مخابرات، فاختفيت في إحدى الغرف المهجورة… وهكذا نجاني الله منهم”.
وهكذا تسير الدعوة في لبنان، وينتقل صاحبنا من مسؤولية محلية فيه إلى الإشراف العام عليه، فمندوب ثم فوق ذلك، وهو ثابت على الحق كالطود الشامخ لا يهتز لنازلة، ولا يضعف أمام واقعة، يؤدي ما يكلف به قويا تقيا، كلما اشتد التكليف ازداد شوقا إليه ، ورغبة فيه، رجاء الأجر والنصر.
يقول صاحبنا: ” إنني ألمس، والغبطة تملأ نفسي، مدى قوة التزام الحزب بطريقة الإسلام في أخذ العقيدة، ومدى صحة طريقة استنباط الأحكام الشرعية، ومدى قوة التأسي بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة… فتأخذني الثقة بنصر الله مأخذا بعيدا… وإني لأنصح الشباب الاعتناء بأنفسهم من الناحيتين الفكرية والنفسية، وأن تنتزع نفوسهم نحو الكمال، حتى يستطيعوا أن يتقلدوا المهمة بجدارة ويتحملوا تكاليفها القادمة ، بإذن الله تعالى، بقوة: فإن ذلك من أقوى مقومات الحزب لتحقيق ما ندب نفسه إليه.
قال تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) النور55 ، نسأل الله أن يحقق فينا هذه الآية، ونكون نحن من يقيم الخلافة الراشدة الموعودة، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير” .
بارك الله في صاحبنا أحمد المحمود وجزاه الله خيرا.
***
ثامنا:
ولد الأخ الكريم في بلدة الظاهرية جنوبي مدينة الخليل عام 1964م، لأسرة ملتزمة، محبة للإسلام، وكان أبوه رحمه الله من المحافظين على الجماعة، فكان يصطحبه إلى المسجد ويشجعه على حضور الجماعات ويرغبه في العلم وأهله، تلقى التعليم الأساسي في مدرسة الظاهرية حتى منتصف المرحلة الثانوية حيث انتقل إلى مدينة الخليل ليكمل دراسته الثانوية فيها. ثم التحق بجامعة القدس وحصل على البكالوريوس في التكنلولوجيا الإلكترونية ن وبعد فترة طويلة التحق بالجامعة نفسها في برنامج الدراسات العليا قسم الدراسات الإسلامية المعاصرة، ولا يزال.
انضم إلى صفوف حزب التحرير مبكرا في بداية دراسته الثانوية سنة 1983م على يد الأستاذ رسمي أبو ريدة، وكان مدرسه في اللغة العربية في الصف الأول الثانوي، فأعطاه كتاب مقدمة الدستور لتعرف من خلاله على نمط فريد لم يعهده سابقا، فقرأه بإقبال ليتصور أن الإسلام ليس مجرد صلاة وعبادات بل هو نظام متميز فريد ينظم كل جوانب الحياة ويصوغها ضمن نظام رباني شامل، وقد كان يسافر إلى الخليل يتلقى فيها الحلقات حتى نهاية المرحلة الثانوية، وفي السنة الثانية من دراسته الجامعية سنة 1985م بدأت نشاطاته العامة من خطب ودروس في المساجد وفي جامعة القدس خاصة، التي كان منتظما بها آنذاك وكان أميركا لكتلة الوعي فيها ، وفي السنة نفسها بدأ يخطب في الناس في الحلقة التي يقيمها شباب الدعوة في المسجد الأقصى، ثم امتد نشاطه ليخطب ويدرس حيثما تيسر في العديد من المدن والقرى في فلسطين مثل القدس والخليل وغزة ونابلس، وكانت القدس مركزا لنشاطاته بحكم إقامته فيها.
وفي سنة 1988م سجن في سجن النقب الصحراوي بتهمة العضوية والفعالية في حزب التحرير بالإضافة إلى التحريض ضد الاحتلال، ومكث في السجن ستة شهور، يحمل فيها الدعوة كما يحملها في الخارج، يخطب ويدرس حيثما تيسر رغم تعرضه فيها للأذى ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد كتب في السجن مجموعة شعرية بعنوان هجير الصحراء، ثم أتبعها بعد ذلك بمجموعتين هما ” ورثة السادات” و ” أحفاد أبي رغال” . كانت تدور حول قضايا المسلمين وخاصة القضية الفلسطينية والحلول الإجرامية التي تصاغ من قبل الكافر وأدواته للتنازل عن بين المقدس وما حولها. وكتب لاحقا مجموعة أخرى لم تنشر بعد.
ثم خرج من السجن ليستأنف نشاطه في الدعوة وتبعاتها بالإضافة إلى التدريس والخطابة والتأليف أحيانا، وقد كان مقلا في التأليف لأن تبعات حمل الدعوة تصرف ذهنه إلى ما هو أولى وأنفع، فلم يكتب إلا عدة كتيبات كانت في الأساس محاضرات ألقاها في بعض الجامعات مثل القدس والنجاح وبيرزيت وغيرها. منها” الحل السلمي بواعثه وآثاره” وكان بعد اتفاقية أوسلو، وضع فيه الحل السلمي في فلسطين ضمن سياقه ، مبينا ان ما يجري هو إعادة صياغة لنفوذ الكفار المستعمرين في بلاد المسلمين، وأن من يتولون لتنفيذ ذلك ما هم إلا أدوات لهذا الكافر ينفذون مخططاته بأمانة. وكتيبا آخر بعنوان ” انتخابات الحكم الذاتي في فلسطين نظرة سياسية وشرعية” بين فيه حرمة المشاركة في انتخابات سلطة نشأت تحت الاحتلال بموجب اتفاقية أوسلو التي ترعى مصالح اعداء المسلمين، وزع منه ما يزيد على عشرين ألف نسخة حينها. وكتيبا بعنوان ” الواقعية ومخاطرها على الأمة” . تعرض فيه لخطورة جعل الواقع مصدرا للتفكير على الأمة وسياسييها ومفكريها. وسبق ذلك كله كتبيا كان كتبه هو وصديقه المرحوم الأستاذ عمر حمدان بعنوان ” أعياد شرعية أم سلطانية” وكان حول وحدة المسلمين في أعيادهم، وبيان أن الاختلاف يكون متعمدا من حكام الضرار، تمزيقا للأمة وإظهارا لفرقتها. وهناك عدة كتيبات أخرى لم تنشر بعد.
لقد كان له نصيب في انتشار الدعوة في فلسطين من خلال نشاطاته ومهماته في الدعوة التي حملها فأحسن حملها بإذن الله، وكذلك كان له جهد كبير، هو وإخوانه الذين قدموا من فلسطين إلى الأردن في أحداث النكث، فقد كان قويا في رد أباطيل أولئك الذين تفرقت بهم السبل عن سبيل الحق…
بارك الله في يوسف ” أبو همام” وجزاه الله خيرا.
*****
تاسعا:
ولد الشاب القوي التقي بإذن الله في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1389 للهجرة في ذكرى مولد خير البرية صلى الله عليه وسلم 1969م. وترعرع في عائلة متدينة في قرية جت المثلث قرب مدينة طولكرم وكان أبوه محمد الشيخ رضا حافظا لكتاب الله فصيح اللسان ينظم الشعر، وكان معلما على نمط شبيه بالكتاب، وقد أخذ العلم عن والده الشيخ رضا الذي كان بدوره صاحب علم وفقه، وكأن من المشهورين بالزهد والخير، وما زال لسمعته الطيبة وحسن تدينه وجمال سيرته أثر كبير جعل الناس تنظر بعين التقدير والاحترام إلى أبنائه وأحفاده وإن كانوا دونه في الخير. وكان الطفل أسامة أصغر أبناء الشيخ محمد من الذكور وأقربهم إليه، وابتلي الوالد بعد عام من مولد الطفل بفقد بصره فاحتاج إلى الرعاية والمعونة، وما كاد الطفل يصل سن التمييز حتى وجد نفسه ملزما بقضاء حوائج والده بناء على رغبته فقضى في رفقته زمنا، الأمر الذي انعكس على الغلام بشكل إيجابي ، فقد كان يستمع إليه وهو يتلو كتاب الله بصوته الندي الحنون يذرف الدموع، وخصوصا عند صلاة الفجر، ويحفظ ما يلقيه عليه من الشعر ونوادر العرب وسائر الحكم والمعارف. فواظب على الصلاة وهو دون السابعة.
يقول بعض من يعرفه: ( كان صاحبنا وهو في الثامنة من عمره يؤم بعض زملائه من طلاب الابتدائية في صلاة الظهر في ساحة المدرسة. ولما بلغ الثانية عشرة من عمره بدأ يطلع على كتب الحزب ويستمع إلى نقاشات بعض أقاربه ومعارفهم في آراء الحزب . وفي هذه الفترة وصلت أفكار الحزب إلى قريته، وأصبح لها جو عام أن يوجد للحزب شكل تنظيمي وقام أبن عمه الشيخ أحمد وهو صاحب فقه بترتيب دروس علم في الفقه والأصول والسيرة وغيرها فحضر الشاب هذه الدروس وأفاد منها، غير أن ذلك لم يشف غليله فيما يتعلق بثقافة الحزب، فجعل يسافر إلى طولكرم أو قلقيلية أو القدس كلما تيسر له ذلك مفتشا عن شباب الحزب طارحا عليهم كثيرا من الأسئلة حول ثقافة الحزب، وكان أحد أعمامه مقيما في مدينة طولكرم ومن الرعيل الأول من شباب الحزب فأفاد منه أسامة كثيرا . وهكذا بدأ خطواته الأولى في معرفة الحزب. ولما أنهى دراسته الثانوية في الفرع العلمي عمل على الذهاب إلى الأزهر لدراسة الشريعة ليستعين بذلك على حمل الدعوة غير أنه لم يتيسر له ذلك. فقرر الذهاب إلى أوروبا لمتابعة دراسته الجامعية طامعا قبل كل شيء في أن يحقق أمنيته بحمل الدعوة في صفوف الحزب. ولما وصل ألمانيا واستقر في إحدى مدنها وجد من سبقه بالخير فيها، فتابع ما بدأه غيره حاملا الدعوة مطالعا الكتب والثقافة الإسلامية مركزا عمل الحزب حتى أصبح للحزب ثقل يذكر في تلكم المدينة . ثم شار الله أن تتحقق أمنيته فيقطع تلك الخطوات الأولى اللازمة لعضوية الحزب فأدى القسم وكانت تلك أسعد لحظات حياته.
لقد شرع صاحبنا في دراسته الجامعية في مادة الهندسة الكيماوية، غير أنه بعد فترة وجيزة اندلعت حرب الخليج الثانية سنة 1991م، فحاول مرة أخرى الدراسة في الأزهر حتى يقوم بحمل الدعوة بشكل أقوى لما رآه من حاجة الأمة إلى الخلافة وعودة الإسلام، إلا أنه لم يوفق في دخول الأزهر هذه المرة أيضا، فأشار عليه بعض معارفه أن يدرس الدراسات الإسلامية في ألمانيا، فأخذ بهذا الاقتراح حتى تكون دراسته قريبة من مادة الإسلام فلا ينشغل بها عن الدعوة، فدرس الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية ومادة الاقتصاد الدولي حتى حاز على شهادة الماجستير بامتياز ثم تابع الدكتوراه غير أنه لم يتمها، حيث كان يصرف كثيرا من وقته مسافرا متنقلا بين البلدان الأوروبية محاضرا وخطيبا في مساجدها وحاملا الدعوة ومركزا على عمل الحزب، ففتح الله على يديه وأيدي إخوته بعض ما كان من قبل مغلقا، وكان له موقف الرجال الرجال في وجه أولئك الذين حاولوا التشويش على الحزب تلك الأيام في الغرب، وتضاعف عمل الحزب وعدد شبابه والفضل لله من قبل ومن بعد.
وعن أزمة الحزب مع الحكومة الألمانية في السنوات الأخيرة يقول: ” بعد أحداث الحادي عشر من أيلول تغير الوضع في الغرب بجملته، وطال هذا شباب الحزب بشكل خاص، فقامت السلطات الألمانية بمداهمة بيوت عدد من شباب الحزب، ومن بينهم بيتي، بدعوى أنهم أعضاء في جماعة إرهابية! فقاموا بكسر أبواب البيوت وتفتيشها عن طريق الكلاب المدربة بحثا عن أسلحة وعتاد، غير أنهم لم يجدوا شيئا. ولم يمض على هذه المداهمات سوى شهرين حتى قامت السلطات بمداهمة هؤلاء الأشخاص مرة أخرى، مضدرة قرارا بمنع حزب التحرير من النشاط بحجة أنه يدعو المسلمين إلى قتال إسرائيل من أجل إزالتها، فأصبح أي نشاط حزبي يعتبر جريمة بمقتضى القانون يعاقب مرتكبها، ولم تمض فترة طويلة حتى سحبت الإقامة مني ، وتم طردي من عملي في الجامعة بعد أن كنت أعمل كباحث متخصص، وصدر قرار الطرد من ألمانيا بدعوى أنني عضو في جماعة تدعم الإرهاب وتدعو لإزالة إسرائيل، وأنني أشكل خطرا على الأمن القومي! والقضية ما زالت أمام القضاء الذي لم يبت فيها بعد مضي عدة أعوام، وفرض علي تبعا لذلك الإقامة الجبرية في الولاية التي أنا فيها ومنعت من التنقل والسفر إلى غيرها “.
فرج الله كرب أخينا أسامة أبي زيد وفك أسره ، ومتع ناظريه برؤية راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تظل بلاد المسلمين بالخلافة، وأن يكون أخونا أبو زيد أحد رجالها الصادقين الصالحين ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) الأعراف 196.