عكا والقدس والرسالة… قصيرة
2009/08/21م
المقالات
1,718 زيارة
عكا والقدس والرسالة… قصيرة
هذه المقالة كتبها عضو المكتب الإعلامي في فلسطين د. مصعب أبو عرقوب، وقد نشرتها في حينه بعض وسائل الإعلام، وقد رأت الوعي أن تعيد نشرها للأهمية.
“يا مولانا لا تخضع لهؤلاء الملاعين، الذين قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا، وبالله المستعان”، كانت تلك رسالة أهل عكا للسلطان صلاح الدين وقد علموا أن شرط ملوك فرنسا وإنجلترا وألمانيا لإطلاق سراحهم بعد سقوط مدينتهم هو تسليم القدس, وفي كتابه «البداية والنهاية» يواصل ابن كثير سرد تلك الواقعة والثمن الذي دفعه أهل عكا فيقول: «أبرزت الفرنجة خيامهم إلى ظاهر البلد، واحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم».
قد تتغير معالم البلدة القديمة في القدس نتيجة خطة بتكلفة 600مليون شيكل، وقد يقام مبنى كبير في ساحة البراق ليستخدم كمركز للشرطة (الإسرائيلية)، وقد تبنى آلاف الوحدات السكنية في مستوطنة جيلو لتصاحب عمليات هدم بيوت المقدسيين وتوزيع إخطارات بترحيل سكان عشرات المنازل ونبش عظام الصحابة في مقبرة مأمن الله، وقد تصبر أم كامل في خيمتها ويهدم آخرون بيوتهم بأيديهم كما فعل شريف عطوان الذي هدم بيته بنفسه لعدم قدرته على تسديد رسوم الهدم, وقد تنصب آلاف الخيام المقدسية, وقد يضيع البعض بحثاً عن خارطة الطريق ويموت آخرون تحت الحصار، وقد تأتي حكومة وفاق أو تكنوقراط، وقد يختلفون في القاهرة أو قد يتقاسمون وقد يتحاورون وقد يريحون أو… يستريحون .
قد يحصل ذلك وأكثر، لكن الذي لن يتغير هو تلك الرسالة وذلك الصمود الذي يتجسد يومياً في حياة المقدسيين ليتسرب لأدق تفصيلات الحياة لأهل فلسطين, في وقوفهم أمام الحواجز, في صبر أمهات المعتقلين في أقبية التحقيق في سجون المسكوبية وعسقلان وبئر السبع وعوفر، وفي عيون من يتحسر ألماً على استباحة الأقصى وعكا وحيفا في “ثلاثة آلاف من المسلمين” حاصروهم، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم هذه المرة…. في غزة.
وتبرق الرسالة مرة أخرى من أزقة المخيمات, من قلوب عائلات تنتظر لمّ الشمل, من أبناء الشهداء، من بين صفوف العمال ساعات الفجر الأولى يخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش, من “أبراش” المعتقلين والعالقين بين المعابر، من تحت ركام البيوت في غزة، من جرحى القنابل الفوسفورية، من القابضين على الجمر، من القافزين عن الجدار للصلاة في الحرم القدسي ومن تحت باحات الأقصى في المسجد المرواني مكتظاً ليلة القدر بمسيرة البيارق من أهل يافا وحيفا وأم النور والجليل والنقب تخرج ذات الرسالة القصيرة لتسطر حقيقة تاريخية وثقافية لا يتجاهلها إلا من يريد أن يتعامل مع هذه القضية من باب إدارة أزمة وليس إيجاد حل جذري لها, فلن يخضع أهل فلسطين ولن يرحلوا ولن يتنازلوا ولن يبيعوا مهما بذلوا في سبيل ذلك من تضحيات، وعلى من يريد حلاً لهذه القضية أن يدرك هذه الحقيقة.
فأهل القدس وفلسطين يبعثون برسالتهم القصيرة مرة أخرى لمن يحتفلون بالقدس كعاصمة ثقافية لهم، فالأسرى لا ينتظر منهم أن يحرروا أرضاً أو يفتحوا حدوداً أمام جموع المصلين لتصلي في الأقصى أو للشعراء ليلقوا قصائدهم على شواطئ حيفا، فالقدس لها من هؤلاء أن يصمدوا ويضحوا ما داموا أسرى، ولها العيون والبيوت والقلوب لكنها ليست لهم وحدهم هي لأمة ورجال قد تصلهم تلك الرسالة القصيرة، وسورة الإسراء ليست لأهل فلسطين وحدهم, ومسرى نبيهم وقبلتهم الأولى لا تنتظر أموالاً لتدفع رسوماً لهدم البيوت ولا قرارات من مجلس الأمن أو إدانة للاستيطان من عواصم شاركت في القتل والحصار, بل تنتظر ببساطة من يحررها ويفتح أبوابها، وبالرغم من قصر تلك الرسالة الحية إلا أن صلاح الدين قد عمل بها وحافظ على القدس, وها هي ذات الرسالة تنطلق من جديد صادقة قصيرة تختصر آلاف الكتب والقصائد ومئات المبادرات والقرارات وتتجاوز في صياغتها أدق الاتفاقيات, وببساطة أيضا إذا استطاع أهل فلسطين أن يبعثوا تلك الرسالة بدمائهم وصبرهم، فان الأمة لا شك تستطيع أن ترد عليها، فأمة هكذا أسراها لن تنتظر طويلاً حتى ترد على الرسالة ولن تعدم رجالاً كصلاح الدين.
وفي زمان تبحث فيه قيادات وأنظمة عن الشرعية أمام شعوبها، وتصدُر بحق حكام مذكرات اعتقال أممية، قد تحمل تلك الرسالة عقد الشرعية بين الأمة وبين من يلبي النداء ويرتفع لمستوى تطلعات أمته وآمال شعوبها ويجدد مجدها ويحرر مقدساتها؛ فينال شرعيته ويستحق أن يقال له كما قال أهل عكا لصلاح الدين : يا مولانا.
2009-08-21