(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة المائدة 105].
قال الزَّمَخْشري في الكشاف: (كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو العناد من الكفرة يتمنون من دخولهم في الإسلام، فقيل لهم (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) … (لاَ يَضُرُّكُمْ) الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)… وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتدٍ وإنما هو بعض الضُلاّل… فهي (أي الآية) على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلم يُقْبل منه).
وقال القرطبي في تفسيره: (وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية؛ قولوا الحق ما قُبل منكم، فإذا رُدَّ عليكم فعليكم أنفسكم) وقال: (وقال سعيد بن المسيّب: معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقال: (وقال ابن المبارك قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) خطاب لجميع المؤمنين أي عليكم أهل دينكم: كقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضاً، ولْينه بعضكم بعضاً. فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقال: (وقيل: الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهن الوعظ، فإذا علمت من قومٍ أنهم لا يقبلون، بل يستخفّون يظهرون فاسكت عنهم).
وقال ابن كثير في تفسيره: (ليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً. وقد قام الإمام أحمد رحمه الله… قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمّهم بعقابه»… وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم).
وأضاف ابن كثير: (وقال أبو عيسى الترمذي… عن أبي أميّة الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال: أما والله ولقد سألت عنها خبيراًن سألتُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شُحاً مطاعاً وهوىً متّبعاً ودنيا مؤْثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهنّ مثل القابض على الجمر. للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم» قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منّا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وكذا رواه أبو داود ورواه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم).
وأضاف ابن كثير نقلاً عن ابن جرير أن رجلاً سال ابن عمر: (يا أبا عبد الرحمن نَفَرٌ ستة كلهم قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلّهم مجتهد لا يألوا، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ فقال الرجل: إني لستُ إياك أسأل إنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث. فقال عبد الله: لعلك ترى لا أبالك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظهم وانههم وإن عصوْك فعليك بنفسك فإن الله عز وجل يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) الآية).
نخلص من ذلك أن الآية الكريمة ليست رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هي تسلية لنفوس المؤمنين عندما يفشلون في إزالة المنكر وإحقاق الحق. رغم عملهم بأقصى طاقة عندهم. وإلا كيف يكون أجر العامل مثل أجر خمسين من الصحابة؟ وحديث الخشني: «بل ائتمروا… حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً» الحديث يطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يصطدم العامل بالشح والهوى والمطامع وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فإذا اصطدم بذلك ولم ينجح في مهمته فليصبر ولا تذهبْ نفسه حسرات وله أجر خمسين من الصحابة الكرام عملوا مثل عمله .