التفكير الجماعي عند الأمة
1987/09/23م
المقالات
3,422 زيارة
بقلم: هيثم بكر
قليلة هي الأمم الناهضة التي يجمعها فكر واحد، والتي تفكر بشكل جماعي. والأمة الإسلامية خير الأمم، ويجمعها فكر واحد وعقيدة واحدة، لذلك لا بد لوحدة العقيدة أن تتجلى فكراً جماعياً: يتصدى للمؤتمرات، وتشريعياً يتصدى للمستجدات.
سلاح الأمم:
لا شك أن التفكير سلاح الأمم، تنهض به حين يزدهر وينشط، وتتخلف حين يخبو ويضمحل. وإنما بقاء الأمم بدوام شعلة الفكر فيها، وإنما اضمحلالها بانطفاء هذه الشعلة.
وهذا التفكير ليس هو البحث في الأمور غير المحسوسة، أو البحث في الماورائيات، أو إقامة الفرضيات والاستناد إليها. وإنما هو التفكير المنتج في الوقائع التي تحصل للإنسان في كل يوم وفي كل ساعة. هذا هو التفكير الذي يوجد لدى الأمة القدرة على الحياة الناهضة، ومثله يؤدي إلى الحكم على الأشياء وتعيين المواقف منها، ويؤدي بالتالي إلى ترجمة هذه المواقف إلى أعمال مادية. فالفكر هو الذي يترتب عليه عمل مادي، وهو الذي يؤدي حتماً إلى نتيجة ملموسة، وذلك بالسرعة الكافية. فإذا لم يكن للأمة مثل هكذا تفكير ومقدرة على تعيين المواقف وإقامة الأعمال المادية، لم تكن هذه الأمة جديرة بالحياة، فغلبتها الأمم وتكالب عليها الأعداء، دون أن تستطيع رد ذلك.
ومثل هذا التفكير يبرز في شكلين: التفكير التشريعي والتفكير السياسي. فالأول تفكير لمعالجة مشاكل الحياة، والثاني تفكير لرعاية شؤون الناس. وكل منهما ضروري للأمة حتى تستمر في الحياة.
موقف الأمة والمجتمع:
فالتفكير التشريعي هو ذلك الهادف إلى استنباط التشريعات لمعالجة ما قد يحصل في كل يوم من الحوادث. وهنا، لا بد من تحديد موقف الأمة والمجتمع من مثل هذه الحوادث، وتبيان خطئها إذا كانت تخالف عقيدة الأمة ومنهاجها في الحياة، أو صحتها إذا كانت كذلك. فعجلة الحياة تدور، ومعها تنشأ مستجدات كثيرة لا بد من تحديد الموقف تجاهها، وإلا كانت الحيرة والجهل، ودبّت الفوضى في جسم المجتمع. ومن هنا ضرورة الحيوية في أي نظام تشريعي، فإنه يجب أن يكون شاملاً لكل مستجد إذا كان يصلح لكل زمان ومكان.
وفي الأمة الإسلامية، يبرز الاجتهاد تفكيراً تشريعياً يهدف إلى استنباط حكم الشرع من النصوص الشرعية، وبالتالي تحديد موقف المجتمع الإسلامي والدولة والناس من كل جديد. وقد كان هذا النوع من التفكير مزدهراً لدى الأمة الإسلامية. وكان شغلها الشاغل حتى القرن الرابع الهجري. وكان سبب ذلك حرص الأمة الشديد على أحكام الإسلام وشرع الله، وبيان ما يرضيه وما يسخطه. وفي أواخر القرن الرابع الهجري، ظهر بين الناس من ينادي بتعطيل الاجتهاد، ويعمل على إقناعهم بـ “خطئه” حتى تم له ما أراد، وأقفل باب الاجتهاد.
مضحكاتٌ مبكيات:
وعندما كان للأمة الإسلامية أعظم مدنية، ولم تكن ثمة مدنية تضاهيها، حافظت على موقعها بين الأمم. ولكن لما ظهرت الثورة الصناعية في الغرب، كان الفكر التشريعي عند الأمة معطلاً. فنادى البعض بضرورة رفض كل ما عند الغرب جملة وتفصيلاً. ومن المضحكات المبكيات في هذا المجال، أنه لما ظهرت قهوة البن أفتى العلماء بتحريمها، وعندما ظهر الهاتف أفتوا كذلك بأنه حرام. كما ظهر من العلماء من ينادي بتحريم الصناعة، الخ… وكانت فترة ظهر فيها بون شاسع بين ما وصل إليه الغرب الناهض صناعياً، وبين ما عند الأمة الإسلامية. وظن كثير من المسلمين أن الإسلام، على لسان علمائه، هو الذي يحول دون النهضة الصناعية ودون التقدم العلمي. فكان أن حصلت البلبلة في المجتمع الإسلامي، وظهر من ينادي بأخذ كل ما عند الغرب كردة فعل لتحريم الصناعة. وكان من جراء ذلك أن فقد الناس الثقة بالإسلام وأحكامه، لأنهم ظنوا كما عمل الغرب على أن يظنوا ـ أن الإسلام لا يماشي العصر.
من هنا أهمية وجود التفكير التشريعي حياً عند الأمم. فلا بد للأمة الإسلامية من مجتهدين يبينون للناس أحكام الإسلام في كل صغير وكبيرة. وقد فرض الله الاجتهاد على المسلمين، فكان فرض كفاية على الأمة الإسلامية. إذ لو جاز أن يخلو عصر من المجتهدين، لزم منه اتفاق أهل العصر على ترك أحكام الله، وهذا لا يجوز، عدا أن الاجتهاد، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، هو الطريق الذي تتم به معرفة أحكام الشرع. ولو خلا عصر من مجتهد يمكن الاستناد إليه في معرفة أحكام الشرع، لاندرست الشريعة ولتعطلت هذه الأحكام.
رعاية شؤون:
وأما الفكر السياسي، فهو تفكير بالأخبار والوقائع وربطها بالحوادث، وهو أعلى أنواع التفكير. ولا نعني بالسياسة ما عليه اليوم من دجل وخداع ومواربة ومتاجرة بقضايا الناس، وإنّما هي عمل جاد لرعاية شؤون المجتمع، وفق أحكام الإسلام، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النوع من التفكير لا يلزم الحكام فقط، وإنما هو ضروري للأمة قبل الحكام. فإذا كانت الأمة على وعي وفهم للأمور، لما أمكن تضليلها أو خداعها أو مواربتها. وإذا كانت الأمة تدرك بمجموعها أن السلطان لها، لما استطاع أحد أن يغتصبه منها. فهذا التفكير ضروري لاستقامة الحكم، وتصويبه، وللمشورة عليه. والحاكم الذي يجد في أمته مشورة في الرأي، وتقويماً عند الخطأ لا استكانة أو رضوخاً، مثل هذا الحاكم لا بد أن يسير حسب أحكام الإسلام دون أي انحراف.
وقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى على وعي وبيّنة من أمرها فما أمكن خداعها. أما اليوم فقلما نجد بين المسلمين من يهتم بمعرفة الوقائع السياسية ومتابعتها، خصوصاً تلك التي تحاك ضد الأمة، ويندر وجود من يعمل بالسياسية حسب أحكام الشرع الإسلامي وحسب ما أنزل الله. ولذلك استطاع الغرب تضليلها حتى قضى على دولة الخلافة بيد المسلمين، وحتى جعل من العمل السياسي العدو الأكبر الذي ينفر منه المسلمين مع أنهم أجدر الناس به. وإذا كانت السياسة رعاية لشؤون الناس، فإن الإسلام ـ وهو خير نظام لرعاية الشؤون ـ أجدر أن يطبق على الناس من سائر الأنظمة الوضعية. والإسلام يأمر المسلمين بالتفكير السياسي وبالاهتمام به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».
تيار جارف:
“وهذا التفكير السياسي لا بد أن يكون عند مجموع الأمة لا عند أفراد فقط وإن كثروا. فإن التضليل السياسي إذا تمكن من الشعب أو الأمة، جرف تياره كلَّ شيء، ووقعت الأمة فريسة سهلة له. فسوء التفكير السياسي هو الذي يدمر الشعوب والأمم، وهو الذي يهدم الدول أو يضعفها، وهو الذي يحول بين الشعوب المستضعفة وبين الانعتاق من ربقة الاستعمار” وإذا لم تكن الأمة الإسلامية على وعي وبينة، سهل تضليلها وتسخيرها لأي شيء.
وبعد، فقد عانت الأمة الإسلامية في القرنين الأخيرين الكثير من جراء التضليل السياسي، فمررت عليها المخططات، وسخرت لخدمة مصالح الغرب عوضاً عن مصالحها. وكانت النتيجة أن صرنا نجهل ما يدور حولنا ونرقب بحيرةٍ حكام الغرب يتدخلون في أمور أمتنا، بل ويسيرونها وفق ما يريدون، وحسب ما تقتضيه مصالحهم، ولو على رقابنا. ولقد عارضنا في السابق أن تتجزأ بلادنا، وها نحن اليوم أحرص ما نكون على إبقائها مجزأة إلى دويلات كرتونية. وأبينا الصلح والاعتراف والمفاوضة مع محتلي أرضنا، وها نحن اليوم متهافتون على المفاوضة والصلح والاعتراف.
لن يضللنا أحد بعد البوم، ولن تفلح دول الغرب في إخضاعنا لمشيئتها، وتسييرنا وفق مصالحها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يلدغ المؤمن من حجر واحد مرتين»، ولن نلدغ ثانية إن شاء الله.
1987-09-23