شيءٌ من فقه اللغة
(المفهوم)
المفهوم: ما فهم من اللفظ في غير محل النطق – المعنى الذهني هو المنفذ الوحيد إلى دلالته، أي أن دلالته ليست بصريح صيغته ووضعه.
وذلك لا يخلو إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم أو غير مقصود فإن كان مقصوداً فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه أو لا يتوقف فإن توقف فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة اقتضاء، وإن لم يتوقف فلا يخلو إما أن يكون لازماً من مدلول اللفظ وضعاً أو مستفاداً من تركيب الجملة لازماً لتركيب الكلام، فان كان الأول فتسمى دلالته دلالة التنبيه والإيماء. وإن كان الثاني فتسمى دلالة المفهوم، أما إن كان مدلوله غير مقصود المتكلم فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة.
ـــــــــــــــــــــ
1 – دلالة الاقتضاء:
وهي ما كان المدلول فيه مضمراً أي غير منطوق به بل هو لازم لمعاني الألفاظ (إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به) فان كان الأول فمثاله:
“رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”(1).
“لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل”(2).
فإن رفع كل هذا مع تحققه ممتنع فلا بد من إضمار نفي حكم يمكن نفيه كنفي المؤاخذة والعقاب في الأول، ونفي الصحة في الثاني، وذلك لضرورة صدق الخبر.
وأما إن كان لصحة الملفوظ:
فإما أن تتوقف صحته عليه (عقلاً أو لغةً) أو (شرعاً).
مثال على الأولى:
( واسأل القرية) [يوسف/82] فإنه لا بد من إضمار أهل القرية لصحة الملفوظ عقلاً.
( وقاتلوا في سبيل الله ) [البقرة/190،244] فلا بد من إضمار الأمر بتحصيل أدوات القتال لأن العقل يقتضيه، وذلك حتى يصح وقوع الملفوظ به (وقاتلوا) عقلاً.
مثال على الثانية:
كقول القائل لغيره (اعتق عبدك عني على ألف) فإنه يستدعي تقدم سابقه انتقال الملك إليه لضرورة توقف العتق الشرعي عليه. فهذا من باب صحة وقوع الملفوظ به شرعاً.
2 – دلالة التنبيه والإيماء:
وهي الدلالة المأخوذة من لازم مدلول اللفظ وضعاً أي مأخوذة من مفهوم اللفظ وليس من منطوقه، وذلك باستعمال وصف مفهم مناسب مفيد للعلية، أو باستعمال أدوات تفيد التعليل من لازم اللفظ وليس من منطوقه في الأصل مثل: (فاء التعقيب، حتى) فهما في الأصل للسببية والغاية على الترتيب وليستا للتعليل منطوقاً بل تفيدان ذلك من المفهوم.
أمثلة توضح دلالة التنبيه والإيماء:
-
قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [الأنفال/60]، في هذه الآية دلالة تنبه على أنّ إرهاب العدو هو علّة إعداد القوة، والإرهاب وصف مفهم فهو علّة دلالة.
وهي تومئ إلى أنّ الدولة الإسلامية يجب أن تصل في التسليح والصناعة الحربية إلى أقوى ما في عصرها لإرهاب عدوها.
كذلك إلى عدم تمكين العدو من الاطّلاع على عناصر قوتها ليبقى متوجّساً من الدّرجة التي وصلت إليها.
وأنّ توهم عدوها أنّ لديها صناعة أسلحة سريّة فتّاكة لتملأ قلوب أعدائها رهبةً منها.
-
قال تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) [التوبة/6].
في هذه الآية دلالة تنبيه على: أنّ إسماع الكافر كلامَ الله هو علّة إجارته – حتّى يسمع كلام الله – علّة دلالة من استعمال (حتّى) بمعنى التّعليل (من أجل).
وهي تومئ إلى: وجوب الوعي على الإسلام حتّى يمكن تبليغه مأمنه.
وعلى الدّولة أن تثقّف المسلمين بالإسلام في مدارسها ومراكزها بشكل كافٍ، وأن توفر التعليم لبعض اللغات الأجنبية في مراحل معينة للتمكين من تبليغ الإسلام لغير الناطقين بالعربية.
-
قال صلى الله عليه وسلم: “في الغنم السائمة زكاة”(3).
في هذا الحديث دلالة تنبه على: أن السوم – وصف مفهم – هو علة وجوب الزكاة في الغنم – علة دلالة.
وتومئ إلى: أنه يجب على الدولة توفير المراعي بشكل كافٍ لتخفيف العبء المالي على الناس في تربية ماشيتهم دون علفها، وبالتالي تشجيعهم على أداء الزكاة وزيادة واردات الزكاة في بيت المال، لأن الغنم السائمة تزكى والمعلوفة لا تزكى، فتوفير المراعي يشجع على تربية الماشية على الرعي وبالتالي الزكاة.
-
في حديث شاة ميمونة: “لو أخذتم إهابها! فقالوا: إنما هي ميتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما إهاب دبغ فقد طهر فإن دبغه ذكاته”(4).
في هذا الحديث دلالة تنبه على: أنّ دبغ جلد ما يؤكل لحمه علة الانتفاع به، وتومئ إلى: عدم التفريط في جلود الحيوانات التي يؤكل لحمها وإن نفقت بل يجوز دبغها.
وكذلك إقامة مشاغل لدباغة الجلود.
3 – دلالة الإشارة:
وهو ما يؤخذ من إشارة اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه مثل: “النساء ناقصات عقل ودين” فقيل ما نقصان دينهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم”(5)، فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع النطق إلا قصداً به ولكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر وأنه لا يكون فوق شطر الدهر – وهو خمسة عشر يوما من الشهر – إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم عند قصد المبالغة في نقصان دينها.
وكذلك تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر أخذاً من قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) [الأحقاف/15]، ( وفصاله في عامين ) [لقمان/14].
وكذلك جواز أن يصبح الجنب صائماً: ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) إلى قوله تعالى: ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) [البقرة/187].
وكذلك (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) [البقرة/233] فهم منه بدلالة الإشارة أن النسب يلحق بالوالد.
أمثلة أخرى على دلالة الإشارة:
-
قال تعالى: ( لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ) [الحجرات/11].
يؤخذ منها أنّ مجتمع الرجال منفصل عن مجتمع النساء.
4 – دلالة المفهوم:
المفهوم: هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق وكان مدلوله مقصوداً للمتكلم ولا يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه ولم يكن لازماً من مدلول اللفظ وضعاً، وهو قسمان:
أ. مفهوم الموافقة.
ب. مفهوم المخالفة.
أ. مفهوم الموافقة:
يسمى كذلك إذا كان مدلول اللفظ في محل السكوت موافقاً لمدلوله في محل النطق، ويسمى أيضاً فحوى الخطاب ولحن الخطاب والمراد به معنى الخطاب: ( ولتعرفنهم في لحن القول ) [محمد/30]… أي في معناه، وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة.
لحن فلان بلحنه: إذا تكلم بلغته، وقد يطلق ويراد به الفطنة.
ومثاله: تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة ( فلا تقل لهما أف) [الإسراء/23] فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق.
وكذلك دلالة قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ) [النساء/10] دلالة على تحريم إتلاف أموالهم.
وقوله تعالى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [الزلزلة] في الدلالة على المقابلة فيما زاد على ذلك.
( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ) [آل عمران/75] تدل على تأدية ما دون القنطار وعدم تأدية ما فوق الدينار إلى غير ذلك من النظائر.
ومفهوم الموافقة هو كل ما كان مدلول لفظه في محل السكوت موافقاً لمدلوله في محل النطق، وقد يكون من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالأعلى على الأدنى أو بغير ذلك.
أما التنبيه بالأولى (الأدنى على الأعلى أو الأعلى على الأدنى) فهو الغالب، لكن غير ذلك موجود أيضاً في مفهوم الموافقة كالتنبيه بأمر آخر له علاقة:
في اللقطة: “احفظ عفاصها ووكاءها”(6) للدلالة على حفظ ما التقط من الدنانير.
في الغنيمة: “أدوا الخيط والمخيط”(7) أداء الرحال والنقود وغيرها.
(لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمة ولا يشرب من مائه جرعة كان ذلك موجباً لامتناعه عن أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة).
وفي استعمال مفهوم الموافقة بلاغة لا تجدها في استعمال المنطوق:
(هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس أبلغ من قولهم هذا الفرس سابق لهذا الفرس).
(فلان يأسف لشم رائحة مطبخه أبلغ من فلان لا يطعم ولا يسقي).
وقد اتفق العلماء على صحة الاحتجاج بمفهوم الموافقة سوى الظاهرية.
أمثلة أخرى:
-
تنبيه من الأدنى إلى الأعلى (من باب أولى):
-
قال تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) [ق/16]. يعلم الله أعلى من الوسوسة.
-
قال تعالى: ( أم لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيراً ) [النساء]… لا يؤتون ما هو أعلى من النقير.
-
قال تعالى: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) [المائدة/49]… يشمل التحذير أن يفتنوك عن كلّ ما أنزل الله إليك.
-
قال تعالى: ( والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير ) [فاطر]… لا يملكون ما هو أعلى من قطمير.
-
تنبيه من الأعلى إلى الأدنى (من باب أولى):
-
قال تعالى: ( فلما أضاءت ما حوله ) [البقرة/17]… أي أنها أضاءت نفس المكان من باب أولى ما دام قد أضاءت ما حول المكان – تنبيه من الأبعد إلى الأقرب – أي من الأعلى إلى الأدنى.
-
قال تعالى: ( إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [الإسراء/1]… فقد بارك الله فيه من باب أولى ما دام قد بارك ما حوله – تنبيه من الأبعد إلى الأقرب – أي من الأعلى إلى الأدنى.
-
قال صلى الله عليه وسلم: “كونوا كأصحاب عيسى نُشِّروا بالمناشير وحمّلوا على الخشب…”(8).
فمن باب أولى الصبر على ما هو دون ذلك كالسجن مثلاً – تنبيه من الأعلى إلى الأدنى.
-
تنبيه بشيء له علاقة بالموضوع على الموضوع ذاته:
-
قال صلى الله عليه وسلم: “تبسمك في وجه أخيك صدقة…”(9).
تنبه بالتبسم على حسن المعاملة وحسن الخلق.
-
قال صلى الله عليه وسلم: “أدّوا الخيط والمخيط…”(10).
تنبه بذلك على وجوب أداء الغنيمة لصاحب الصلاحية (الخليفة أو القائد) لتوزيعها مهما قلّت أو كثرت وبالتالي تحريم الغلول مهما كان .
ـــــــــــــ
(1) رجاله ثقات غير أن فيه انقطاعا وخرَّجه الطبراني والدارقطني والحاكم: 2/216 بإسناد ضعيف، وصححه ابن حبان: 16/202. ـ (2) الترمذي 662، النسائي: 2291، ابن ماجه: 1690، أبو داود: 2098، وقال الترمذي: الأصح أنه موقوف على ابن عمر. ـ (3) أبو داود: 2/96، البيهقي: 4/99. ـ (4) مسند أحمد: 1/219، الدارقطني: 1/48، الطيالسي: 2761. ـ (5) البخاري: 298، 1393، مسلم: 79. ـ (6) البخاري: 91، 2243، مسلم: 1722. ـ (7) المعجم الكبير: 20/303، المعجم الأوسط: 3444. ـ (8) المعجم الكبير: 10/171، المعجم الصغير: 1/372، مسند الشاميين: 1/379، رقم 658. ـ (9) الترمذي: البر والصلة 1879. ـ (10) المعجم الكبير: 20/303، المعجم الأوسط: 3444.