السفير أي الرسول
2002/06/19م
المقالات
2,215 زيارة
السفير أي الرسول
عن أنس «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم.
كونه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هؤلاء يعني أنه أرسل إليهم رسلاً أي سفراء، هذه الكتب فيها دعوة إلى الله كما في حديث الباب أي دعوة إلى الإسلام كما في رواية ابن سعد. وفي رواية ابن سعد تفصيل هذا المجمل الوارد في حديث أنس عند مسلم. قال ابن سعد: «أخبرنا… عن ابن عباس قال وحدثنا… عن المسور بن رفاعة قال وحدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال وحدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة عن جدته الشفاء قال وحدثنا… عن العلاء بن الحضرمي قال وحدثنا… عن عمرو بن أمية الضمري دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتباً… فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرم سنة سبع… وكان أول رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي… قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي وهو أحد الستة إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً… قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي وهو أحد الستة إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً… قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو أحد الستة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً… قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي وهو أحد الستة إلى الحارث بن ابي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً… قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري وهو أحد الستة إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً…».
هؤلاء الرسل أو السفراء الستة أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ومع كل واحد منهم كتاب إلى عظيم أو ملك يدعوه صلى الله عليه وسلم فيه إلى الإسلام. ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الستة بل أرسل غيرهم، روى ابن سعد بالإسناد السابق أي عن ابن عباس والمسور وجعفر والشفاء والعلاء وعمرو دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابني الجلندي وهما من الأزد والملك منهما جيفر يدعوهما إلى الإسلام وكتب معه إليهما كتاباً…» قالوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرانة العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام وكتب إليه كتاباً…» وهناك غير هؤلاء يمكن تتبعهم في كتب السّير. ويستفاد من هذه الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل رجالاً دائماً، ولم يرو انه أرسل امرأة رسولاً بكتاب إلى ملك أو عظيم لدعوته إلى الإسلام. فالرسول ينبغي أن يكون رجلاً، أي السفير لا يكون امرأة بل ينبغي أن يكون رجلاً، ويمكن القول إنه يشترط في السفير أن يكون رجلاً قادراً بالغاً عاقلاً مسلماً ذا كفاية، ولا حاجة لاشتراط الحرية لانتهاء العبودية في أيامنا، فإن وجدت مستقبلاً اشترط في السفير أن يكون حراً.
وشرط الذكورة مأخوذ من مداومة الرسول صلى الله عليه وسلم على إرسال الرجال دون النساء سواء كان الرسول عسكرياً أو داعياً إلى الإسلام أو معلماً أو لأي غرض آخر كزواج أو رد مسلمين من دار الكفر إلى دار الإسلام. أما شرط القدرة فالمقصود به سلامة الحواس ليستطيع الأداء والمناظرة والنقاش، فلا يجوز أن يكون السفير أعمى أو أطرش أو أبكم أو كسيحاً ويجوز أن يكون أعور كالمغيرة أو أسود كعبادة. وأما البلوغ والعقل فهما شرطا تكليف ولا يتم الواجب إلا بوجودهما، فالتبليغ أو الأداء عن الخليفة واجب ولا يتم إلا بكون السفير بالغاً عاقلاً. وأما الإسلام والعدالة فالرسول أمين والكافر ليس محلاً لها، كما أنه لا يتأتى منه الدفاع عن الإسلام والدعوة له، هذا بالإضافة إلى أنه صلى الله عليه وسلم أرسل دائماً مسلمين مع إمكانية إرسال أهل الكتاب لأهل الكتاب، أو أهل الكتاب للمجوس، أو مشركاً للمشركين، ولا يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بديل بن ورقاء الخزاعي سفيراً إلى قريش وكان كافراً مما يدل على جواز إرسال السفير الكافر المعاهد أو الذمي إلى الكفار، لا يقال هذا لأن الحديث وإن صح إلا أنه ليس فيه دلالة على ذلك، روى البخاري من حديث طويل عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة وفيه: «… فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره. فقال بديل سأبلغهم ما تقول، قال فانطلق حتى أتى قريشاً قال إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم…»، قوله عيبة نصح رسول الله أي موضع سرّه، والعوذ جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل التي معها أطفالها، وجموا استراحوا. وقوله جئناكم من هذا الرجل وردت عند أحمد من عند هذا الرجل. ونفي دلالة الحديث على جواز سفارة الكافر آت من قول بديل: “سأبلغهم ما تقول” وواضح فيه انه متبرع بالتبليغ غير مأمور، فهو المبادر إلى اقتراح التبليغ، ثم إنه كان كافراً بدليل قوله “إنا قد جئناكم من هذا الرجل” ولم يقل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فإنه قال: “وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا” ولو كان سفيراً مكلفاً بالتبليغ لما ربط التبليغ بمشيئتهم. وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه دلالة على ما نحن فيه، أي ليس فيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم أرسله سفيراً إلى قريش، وكل ما فيه أنه سكت على قول بديل “سأبلغهم ما تقول” وسكوته هذا ليس تقريراً لأن بديلاً ليس تحت سلطانه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه سكوت عن جواز تبليغ بديل ما سمع لا على تعيينه رسولاً أي سفيراً. وأما الكفاية فالمقصود بها غير سلامة الحواس أي غير القدرة، إذ القدرة صفات ملموسة، وأما الكفاية فتتعلق بالصفات المعنوية غير الملموسة كأن يكون مهيباً وقوراً جريئاً قوي الحجة سريع البديهة ذا دين وفقه. ومن الأمثلة على هذه الصفات ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر إلى أربعة وجوه، رجلاً إلى كسرى ورجلاً إلى قيصر ورجلاً إلى المقوقس، وبعث عمرو بن أمية إلى النجاشي إلى أن قال: فلما أتى عمرو بن أمية النجاشي وجد لهم باباً صغيراً يدخلون منه مكفرين، فلما رأى عمرو ذلك ولى ظهره القهقرى قال فشق ذلك على الحبشة في مجلسهم عند النجاشي حتى هموا به، حتى قالوا للنجاشي إن هذا لم يدخل كما دخلنا، قال ما منعك أن تدخل كما دخلوا؟ قال: إنا لا نصنع هذا بنبينا، ولو صنعناه بأحد صنعناه به، قال صدق قال دعوه…» وفي هذا الحديث يظهر تقيد عمرو بن أمية بالإسلام وذلك من عدم تكفيره أي ركوعه وانحنائه أمام النجاشي، كما تظهر سرعة بديهته عندما فوجئ بالباب الصغير الذي يدخلون منه مكفرين. ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي ورواه الطبراني بإسناد قال الهيثمي في المجمع رجاله رجال الصحيح عن قرة بن إياس المزني قال: [لما كان أيام القادسية بُعث المغيرة بن شعبة إلى صاحب فارس فقال: ابعثوا معي عشرة. قال: فشد عليه ثيابه وأخذ معه جحفة ثم انطلق حتى أتوه، فقال للقوم ألقوا إلي ترساً فجلس عليه. فقال العلج: إنكم معاشر العرب قد عرفت الذي حملكم على الجيئة إلينا، أنتم قوم لا تجدون في بلادكم من الطعام ما تشبعون منه، فخذوا نعطكم من الطعام حاجتكم، فإنا قوم مجوس، وإنا نكره قتلكم، وإنكم تنجسون علينا أرضنا. فقال المغيرة: والله ما ذاك ما جاء بنا، ولكنا كنا قوماً نعبد الحجارة والأوثان، فإذا رأينا حجراً أحسن من حجر ألقيناه وأخذنا غيره، ولا نعرف رباً حتى بعث الله إلينا رسولاً من أنفسنا، فدعانا إلى الإسلام فاتبعناه، وأمرنا بقتال عدونا ممن ترك الإسلام، ولم نجئ للطعام، ولكن جئنا نقتل مقاتلتكم ونسبي ذراريكم، فأما ما ذكرت من الطعام فإنا كنا لعمري لا نجد من الطعام ما نشبع به، وربما لم نجد ريّاً من الماء أحياناً فجئنا إلى أرضكم هذه فوجدنا فيها طعاماً كثيراً، فلا والله لا نبرحها حتى تكون لنا أو لكم]. وفي هذا الحديث أظهر المغيرة لهم الصلابة عندما طلب ترساً ليجلس عليه، وكان صادقاً في وصف العرب قبل أن يبعث إليهم الله سبحانه رسولاً من أنفسهم، وكان جريئاً في الرد على العلج عندما تنقص العرب فأجابه بما يصلح للمقام قائلاً ولكن جئنا نقتل مقاتلتكم ونسبي ذراريكم، وفي آخر حديثه حسم الأمر معه قائلاً فلا والله لا نبرحها حتى تكون لنا أو لكم. وينبغي التنبه إلى أن المغيرة دعاه إلى الإسلام بقوله [وأمرنا بقتال عدونا ممن ترك الإسلام] أي ممن رفض الدخول فيه. وفي سفارة ربعي عند الطبري أنه قال لرستم: [… إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا أن لا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، قال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن… قال: ما جاء بكم؟! قال: إن الله عزّ وجل منّ علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة. فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم ثلاثاً من أمس]. وذكر الطبري عن السري أن النعمان بن مقرن t قال ليزدجرد: [فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمرٌ من الشر هو أهون من آخر شرٌ منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة]. ومن هذه السفارات يظهر أن المسلمين كانوا يخيرون عدوهم بين إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو السيف، وهو تقيد بطريقته صلى الله عليه وسلم التي أمرنا بها في حديث بريدة. وحديث المغيرة وحديث ربعي بن عامر وحديث حذيفة بن محصن وحديث النعمان بن مقرن. ومن هذه السفارات التي يفهم منها شرط الكفاية في السفير ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن زياد بن جبير بن حية عن أبيه قال: […فلما اجتمعوا بنهاوند جميعاً أرسل إليهم بنذاذقان العلج أن أرسلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلمه فاختار الناس المغيرة بن شعبة قال أبي فكأني أنظر إليه رجل طويل أشعر أعور، فأتاه فلما رجع إلينا سألناه فقال لنا إني وجدت العلج قد استشار أصحابه في أي شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبِشارتنا وبهجتنا وملكنا أو نتقشف له فنـزهده عما في أيدينا، فقالوا بل نأذن له بأفضل ما يكون من الشارة والعدة. فلما أتيتهم رأيت تلك الحراب والدرق يلتمع منه البصر، ورأيتهم قياماً على رأسه، وإذا هو على سرير من ذهب وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا ونكست رأسي لأقعد معه على السرير. قال: فدُفعت ونُهرت، فقلت إن الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا لي: إنما أنت كلب أتقعد مع الملك؟ فقلت لأنا أشرف في قومي من هذا فيكم، قال فانتهرني وقال: اجلس فجلست، فترجم لي قوله فقال: يا معشر العرب إنكم كنتم أطول الناس جوعاً وأعظم الناس شقاءً وأقذر الناس قذراً وأبعد الناس داراً، وأبعده من كل خير، وما كان منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجساً بجيفكم لأنكم أرجاس، فإن تذهبوا نخلي عنكم، وإن تأبوْا نُرِكم مصارعكم. قال المغيرة فحمدتُ الله وأثنيتُ عليه وقلتُ والله ما أخطأت من صفتنا ونعتنا شيئاً إن كنا لأبعد الناس داراً وأشد الناس جوعاً وأعظم الناس شقاءً وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله إلينا رسولاً فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربنا مذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفتح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله نرى لكم ملكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم أو نُقتل في أرضكم. فقال: أما الأعور فقد صدقكم الذي في نفسه. فقمت من عنده وقد والله أرعبت العلج جهدي…] وهذه السفارة للمغيرة كانت بعد القادسية إذ نهاوند كانت بعدها، وكان أعور أصيبت عينه قبل نهاوند في القادسية وفيه دلالة على جواز سفارة الأعور. ويستفاد من هذا الأثر أن المغيرة لم يعظم العلج أمام قومه، بل حاول الجلوس معه على سريره، واستعمل كلام العلج الفاحش الوقح دافعاً للقتال حتى الغلبة أو الموت في أرض العدو، وقد كان غرض المغيرة إرعاب العلج ومن حوله، وتحقق له ذلك، بالإضافة إلى ما ظهر من رباطة جأشه وقوة حجته. وحيثما أمكن السفير أن يرعب قادة العدو فعل، روى الموفق بن قدامة في الاستبصار [أن المقوقس صاحب مصر بعث إلى عمرو أن ابعث لي رسلاً أكلمهم فبعث إليه نفراً منهم عبادة بن الصامت وأمره أن يكون هو المتكلم، وكان عبادة أسود شديد السواد، فلما دخلوا على الملك تقدم عبادة فقال الملك ما فيكم من يتكلم غير هذا؟ فقال القوم هو أفضلنا وأقدمنا صحبة لنبينا، ومع هذا فقد أمّره أميرنا، هو المتكلم، قال فليتقدم إذاً فإنما هبته لسواده فقال عبادة: فإن كنت هبتني لسوادي وقد ولى شبابي وذهبت قوتي فكيف بك لو رأيت عسكرنا وفيه أكثر من ألف أشد مني سواداً واقوى أبداناً وأعظم أجساداً، فطلب منه الملك الصلح فقال عبادة: إنا لا نقبل منكم إلا إحدى خلال ثلاث إما أن تسلموا فتكونوا إخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا وإما أن تؤدوا الجزية إلينا وتعتقدوا منا الذمة فنقبل منكم ونكف عنكم وإما أن تبرزوا لنا حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال الملك: لا تقبلوا غير هذه الخلال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا ورب السماء لا ورب هذه الأرض لا نقبل منكم غيرها. فقال الملك لأصحابه: ما ترون فيما قال فأبوا. فقال الملك: والله لئن لم تقبلوا منهم إحدى هذه الخلال قبل قتل الرجال وسبي الحريم لتقبلنه منهم بعد ذلك وأنتم راغمون، فصالحهم، ووجه عمر عبادة إلى الشام قاضياً ومعلماً]. وقد روى هذه السفارة مطوّلة سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي في كتابه الاكتفاء. ويلاحظ أن الملك حاول أن يتدخل في تعيين من يتكلم أو يفاوض، وهو تدخل في السيادة وانتقاص لها، فرفض سائر الوفد أن يتكلم غير عبادة. ونحن في هذه الأيام السود من تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم يتدخل الكفار في تعيين الأمراء والسفراء والممثلين والمفكرين والقادة ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن الأمثلة في قوة الحجة ما اخرجه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ابن الباقلاني عندما أرسله عضد الدولة سفيراً إلى قيصر ليناظر المطارنة بناءً على طلب قيصر، قال ابن عساكر: [وقيل إنه دخل يوماً فرأى عنده بعض مطارنته ورهبانيته فقال له مستهزئاً: كيف أنت وكيف الأهل والأولاد؟ فقال له الملك وقد عجب من قوله: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء الأمة! أما علمت أننا ننـزه هؤلاء عن الأهل والولد؟ فقال الباقلاني: أنتم لا تنـزهون الله سبحانه وتعالى عن الأهل والأولاد وتنـزهونهم؟ فكأن هؤلاء عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله سبحانه وتعالى؟! فوقعت الهيبة في نفس الرومي. وقال بلغني أن طاغية الروم قال له وقصد توبيخه: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها، فقال له القاضي أبو بكر: هما اثنتان قيل فيهما ما قيل زوج نبينا ومريم ابنة عمران، فأما زوج نبينا فلم تلد وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها، وكل قد برّأها الله مما رميت به فانقطع الطاغية ولم يُحِرْ جواباً].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يتولى إرسال الرسل أي السفراء كما مر، وهو الذي كان يستقبل رسل الملوك ووفود القبائل، ففي مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم «بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة وحمله على جمل يقال له الثعلب فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعته الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر ليبعثه إلى مكة فقال يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان قال فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته…» واستقبل صلى الله عليه وسلم وفد مزينة وتميم وأسد وعبس وكنانة وسليم وثقيف وعبد القيس وبكر بن وائل وشيبان وكندة وهمدان وخولان والداريين والأشعريين ودوس وجذام ونجران وغيرهم. وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم كان الخلفاء هم الذين يستقبلون السفراء ويعينونهم، ولما اتسعت رقعة الدولة كان يتولى ذلك من يفوضه الخليفة كأمراء الجيوش.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف الوفود ويكرمهم ويجيزهم وأوصى صلى الله عليه وسلم عند موته بإجازتهم ففي حديث ابن عباس المتفق عليه قال: «وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة». أما مقدار الجائزة فكان في حدود الخمسمائة درهم أو أقل قليلاً وكانت آنذاك أي في زمانه صلى الله عليه وسلم حوالي خمسين ديناراً أي حوالي مئتي غرام ذهباً. وقوله صلى الله عليه وسلم «بنحو» أي قريباً منه فلا بأس بأن يزيد أو ينقص عن هذا المقدار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميز بين أعضاء الوفد الواحد وذلك حسب مكانتهم في قومهم ووفور عقولهم وتأثيرهم في الناس، والأصل في كل هذه التصرفات أن الدولة الإسلامية عملها الأصلي هو حمل الدعوة إلى الناس، وإجازة الوفد تحببهم في الإسلام لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، والدليل على مقدار الجائزة ما رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والمسور بن رفاعة وجعفر والشفاء والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن أمية الضمري دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: «وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملاً لقيصر على عمّان من أرض البلقاء فلم يكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فروة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأهدى له وبعث من عنده رسولاً من قومه يقال له مسعود بن سعد فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه وقبل هديته وكتب إليه جواب كتابه، وأجاز مسعوداً باثنتي عشرة أوقية ونش وذلك خمسمائة درهم» الأوقية أربعون درهماً والنش نصف أوقية. وفي كتب السير أنه صلى الله عليه وسلم أجاز وفود تميم ومُرّة وثعلبة ومحارب وبني البكاء وعبد القيس وتغلب وحنيفة وطيء وتجيب وخولان ومراد وزبيد وكندة وهذيم وبلي وبهراء وغدرة وسلامان والحارث بن كعب والرهاويين وغامد وبجيلة وأكثر الجائزة اثنتا عشرة أوقية ونش وأقلها خمسة أواقي. وقد زاد صلى الله عليه وسلم عن هذه الجائزة لوفد تجيب الذين جاءوا بصدقات أموالهم فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقال: مرحباً بكم وأكرم منـزلهم وحباهم وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم وأعطاهم أكثر مما كان يجيز به الوفد. والذين كان يجيزهم صلى الله عليه وسلم هم المسلمون فقط أما غير المسلمين من الوفود فلم يكن يجيزهم، روى ابن سعد عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تغلب ستة عشر رجلاً مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب فنـزلوا دار رملة بنت الحارث فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم النصارى على أن يقرهم على دينهم على أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم». فأجاز صلى الله عليه وسلم المسلمين دون النصارى. والذي ورد في الطبقات «على أن يصبغوا أولادهم في النصرانية» والصحيح الوارد في الأم وسنن البيهقي «أن لا يصبغوا» فالعبارة فيها تحريف واضح إذ تم حذف لفظ “لا” فأرجو أن يتنبه المسلمون إلى هذا. ولم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم أجاز وفد نجران وهم نصارى. فالجائزة خاصة بوفود من جاؤوا مسلمين.
أما النـزول أي السكنى فهي عامة للمسلمين والكفار فقد أنزل صلى الله عليه وسلم وفد تغلب دار رملة بنت الحارث وفيهم نصارى ظلوا على نصرانيتهم كما مر في حديث يعقوب بن زيد بن طلحة عند ابن سعد، كما أنزل صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف قبل أن يسلموا المسجد وضرب لهم فيه قبة روى ابن ماجة عن وفد ثقيف «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا ما بقي من الشهر» وروى البيهقي عن عثمان بن أبي العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم في قبة في المسجد ليكون أرق لقلوبهم». وقوله فلما أسلموا وقوله ليكون أرق لقلوبهم تدل على أنهم كانوا مشركين قبل.
وأكثر الوفود كانت تنـزل دار رملة بنت الحارث وممن نزلها وفود محارب وعبد القيس وحنيفة وخولان وغسان والرهاويين من مذحج، والنخع وكانوا مئتين، والظاهر أنها كانت واسعة ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينـزلهم فيها، ومما يدل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس القرظيين قبل أن يقتلهم فيها. ولا يمنع هذا من أن ينـزل الوفد في غيرها. فقد أنزل صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وأنزل خالد بن الوليد وفد الحارث بن كعب عنده، وأنزل سعد بن عبادة وفدي زبيد ومراد، ونزل وفد بهراء على المقداد بن عمرو، ووفد بلي على رويفع بن ثابت البلوي ونزل وفد أشجع وكانوا مئة شعب سلع.
وكان صلى الله عليه وسلم يضيفهم ويقدم لهم الطعام بالإضافة إلى المنـزل، فقد كان بلال يأتي وفد محارب بغداء وعشاء فأسلموا والفاء هنا ليست سببية وأمر صلى الله عليه وسلم بمنـزل وضيافة لبني البكاء، وخرج صلى الله عليه وسلم إلى وفد أشجع في شعب سلع وأمر لهم بأحمال تمر، وأجرى على وفد عبد القيس ضيافة وأقاموا عشرة أيام، وأجريت على بني حنيفة ضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء، وأكرم منـزل تجيب وحباهم وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم، وأمر بضيافة فأجريت على وفد خولان، وأمر بوفد سعد هذيم فأنزلهم وضيفهم وأتى رويفعاً البلوي بحمل تمر لوفد بلي وقال استعن بهذا التمر لأنهم نزلوا على رويفع. والضيافة تشمل الكفار وليست مقصورة على المسلمين بدليل أن وفد أشجع الذين نزلوا سلع أمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر وخرج إليهم فوادعهم ثم أسلموا بعد ذلك. وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم وفد ثقيف الذين ضرب عليهم قبة في المسجد قبل أن يسلموا وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم، وبعد أن أسلموا كان بلال يأتيهم بفطرهم وسحورهم كما في مسند الروياني وسيرة ابن هشام عن عيسى الثقفي عن بعض وفدهم وهم صحابة أي الوفد.
ولا يجوز قتل الرسول الكافر ولا المرتد لما رواه أبو داود والبيهقي وصححه الحاكم عن نعيم بن مسعود الأشجعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتاب مسيلمة ما تقولان أنتما؟ قالا نقول كما قال، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. وعدم جواز القتل لا يمنع التأديب إن أساء الرسول الأدب، أخرج البخاري في صحيحه: «… فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر الصديق امصص ببظر اللات أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غُدر ألست أسعى في غدرتك؟» فأبو بكر أدبه بالقول والمغيرة أدبه بالفعل، وأقرهما صلى الله عليه وسلم .
ع.ع.
2002-06-19