غاية المسلم في الحياة
2002/04/19م
المقالات
6,871 زيارة
إن من أهم الحقائق بعد الإيمان أن يدرك الإنسان الغاية من خلقه، أي ما يجب أن يكون غاية له يسعى إلى تحقيقها. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات). وعبادة الله هي الإيمان به وطاعتُه. وطاعته هي الالتزام بجميع أحكامه، وهي لا تقتصر على أعمال العبادات والأخلاق والمعاملات، بل إنها تتناول كل ما أمر الله به أو نهى عنه، وتتضمن أن لا معبود بحق إلا الله، ولا أمر ولا نهي لأحد سواه. روى أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة) فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم».
==============================================
وعلى ذلك فإن إعطاء حق التحليل والتحريم أو حق التشريع وحق الطاعة لأحد ما، هو عبادة له. قال تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف).
أما ما كان للحاكم أو الأمير أو الوالدين أو الزوج من حق الطاعة فذلك بجعل الله لهم هذا الحق. وعبادة الله تتضمن طاعته في تعبيد الناس له سبحانه، أي إخضاعهم لشرعه ومحاربة أن يكون هناك حاكمية لغير لله، أو غير شريعة الإسلام. ومحاربة الخروج على ما حكم به الله سبحانه وتعالى. وهي دلالة النصوص التي جاءت تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالجدال والبيان والإقناع والدعوة، وبالجلد والقطع والقتال والجهاد لإقامة حكم الله في الأرض وإعلاء كلمته.
ولذلك رأينا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ووطد أركانها، يرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ورأيناه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده يرسلون حَمَلَة الدعوة والمجاهدين والجيوش يدعون الناس إلى الإيمان لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويقاتلون من أجل إخضاع البلاد والعباد لسلطان الإسلام. وهي دعوة لأن لا يكون معبود إلا الله، ولا حاكمية إلا لله. وهذه الغاية هي الفكرة الإسلامية التي يحيا المسلم لأجلها، وقد عبَّر عنها ببراعة الصحابي الكريم ربعي بن عامر عندما استغرب رستم قائدُ جيش الفرس دعوته وسأله: ما الذي جاء بكم؟ فقال رضي الله عنه: «إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».
وتتبيَّن هذه الفكرة جلية في القرآن والسنة وفي أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في نصوص تفوق الحصر سنقتصر على ذكر بعضها:
قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (الأعراف/158). وقال: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيراً) (سبأ/28). وقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة/33، والصف/9). وقال: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) (التوبة). وقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (التوبة). وقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه).
وهكذا يُكرَه الكافرون على الخضوع لسلطان الإسلام ولسيادة شريعته وإن كانوا لا يكرهون على دخول الإسلام لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) (البقرة/256). فالغاية أن لا قانون يطاع ولا تشريع يؤخذ إلا ما أمر به الله ولا حاكم إلا الله. وما يترك عليه بعض الكفار من اعتقاد وعبادة فبأمر من الله تركوا عليه.
وقد بين الله تعالى هذه الغاية من خلق الناس في قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة/143) وهذا خطاب للأمة الإسلامية وتكليف لها لتحمل الرسالة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائر الناس، وقد حَمَّلها إياها النبي بعد أن بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق الجهاد. وقف صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يخاطب الأمة قائلاً: «... وإني قد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله. وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغتَ وأديتَ ونصحت. ثم قال بأُصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهدْ، اللهم اشهدْ، اللهم اشهدْ…» (رواه أبو داود). وهكذا شهد علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ وتحميل الأمانة وأشهد الله علينا، وعلينا بعد ذلك أن نشهد على الناس بالطريقة نفسها كما فعل الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه. وقد بَيَّن الله تعالى أن هذه هي الغاية من الخلق قبل خلق آدم عليه السلام. قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة) فالملائكة عباد لله لا يعصونه (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم) وعندما قال الله لهم: (إني جاعل في الأرض خليفة ) الآية أدركوا أنه تعالى سيجعل فيها من يعصي وذلك من لفظ (خليفة)، لأن لفظ خليفة هنا بمعنى من يستخلفه الله أي من يوكله ليقوم بأعمال التقويم والرعاية وغير ذلك مما يقوم به المستخلَف على أمر ما، فإذا كان ثَمَّ دور لأحد ما بالتقويم والرعاية، فهذا يعني أن ثَمَّ من يحتاج إلى هذا التقويم وهذه الرعاية، وهذا يعني أنه سيحصل خروج على أمر الله، وهذا ما يؤدي إلى الشقاء والضنك والهرج، ولذلك قالوا: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وبتعبير آخر، إذا كان الكون ليس فيه مَن أو ما يعصي فكل شيء يسير بأمر الله. فإذا أراد الله خلق من يقوم بعمل التقويم والهداية، فهذا يعني أنه سيكون هناك من يختار الضلال ويعصي الله.
ولذلك فإن الغاية في الحياة والتي بينها تعالى قبل خلق آدم هي أن يكون الإنسان عبداً لله وأن يقوم بتعبيد الآخرين لله، ممن يضِل عن هذه العبادة أو يرفضها.
وعلى ذلك فالحياة هي صراع فكري عَقَدي وسياسي بين الإيمان والكفر، عَقَدي لإعلاء كلمة الله وليكون الدين كله لله، ولا يكون حكم إلا لله، فلا يكون له شريك ولا يعبد أحد سواه ويتم الخضوع لشرع الله، وبهذا المعنى فهو صراع سياسي إذ يفرض أن لا تكون ثمة رعاية لشؤون البشر بأي تشريع إلا بشريعة الإسلام.
طريقة تحقيق الغاية الإسلامية
حين بين الإسلام أن رسالته هي رسالة إلى الناس كافة ونهى عن الاحتكام إلى غير شريعته فإنه لم يجعل الأمر مجرّد بيان لمن شاء أن يطيع، وكذلك لم يجعله عفواً لمن أراد تحقيق هذه الغاية يختار الأسلوب الذي يرتئيه. وإنما جعل الطريقة التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم هي البيان الواجب الاتباع لوضع هذه الفكرة موضع التطبيق. ونحن مأمورون باتباعها. قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر/7).
فأحكام الإسلام لا تقتصر على بيان المعالجات لواقع الإنسان وعلاقاته ومشاكله، وإنما تتضمن أيضاً الأحكام التي تجعل هذه الأحكام مطبقة عملياً. فمثلاً نهى الإسلام عن السرقة وعن القتل وعن الزنا وأمر بالإيمان وبالعبادات وغيرها. ولم يكتف بمجرد الأوامر والنواهي يلتزم بها من شاء وينتهكها من شاء، ولكنه تضمن أحكاماً تحمل الناس على الخضوع لهذه الأحكام، فأمر بقطع السارق وجلد الزاني أو رجمه وقتل القاتل… وقتل المرتد. قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (المائدة/38). وقال تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (النور/2). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» (متفق عليه). ومن شأن هذه الأحكام أن تجعل المعالجات الإسلامية مطبقة في المجتمع. فمن ضعف فيه وازع الإيمان ردعته أو أجبرته عقوبة السلطان. وهذه من أحكام إخضاع الناس لسيادة الشرع وحاكمية الله. وهذه الأحكام التي تجعل الإسلام مطبقاً وليس مجرد أوامرَ ونواهيَ يلتزم أو لا يلتزم بها المرء بحسب دوافعه وميوله، هي ما يسمى بالطريقة، أي الطريقة الشرعية التي يجب الالتزام بها ولا يجوز العدول عنها إلى غيرها لتحقيق الأمر. فمثلاً لا يصح لأجل منع السرقة استبدال عقوبة السجن أو القتل بعقوبة القطع، ولا يجوز ترك عقوبة المرتد أو الزاني أو تبديلهما، وهكذا.
وقد جعل الإسلام طريقة تحقيق الفكرة الإسلامية هي الحكم أو الدولة. فالمجتمع يظل فيه من يخرج على الإسلام وينتهك أحكامه ويسعى إلى تدميره. ويظل تحوطه الأخطار. والناس لا بد لهم من نظام يسوسهم ويتحاكمون إليه. فكان لا بد من حكم ومن نظام حكم، ولا بد مع ذلك من سلطة أو قوة أو سند لذلك النظام ليقوم بتطبيق الإسلام والمحافظة على الرعية وسياستهم سياسة شرعية. لذلك كانت الدولة الإسلامية، دولة الخـلافة، هي الطريقة للحياة الإسلامية.
ولأجل حمل الدعوة الإسلامية إلى الجماعات والمجتمعات الأخرى وإخضاعها لسلطان الإسلام كان لا بد لهذا الأمر من سياسة وتنظيم، ولا بد من الجهاد، فكان لا بد أيضاً من الدولة، وقد تبين ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يدعو إلى الإسلام في مكة ويعمل لتكثير المسلمين، ولجعل الحاكمية لله وحده في المجتمع.
فعندما تجمد المجتمع ورفض الدعوة تحوّل النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوة قبائل ومجتمعات أخرى يعرض عليهم أمر الدعوة وتطبيق الإسلام إلى أن حقق ذلك في المدينة المنورة وأقام الدولة الإسلامية. وعندما صارت له صلى الله عليه وسلم دولة ومَنَعَة بدأ الجهاد لإزالة العوائق المادية التي تعترض طريق الدعوة وبسط سلطان الإسلام وسيادة شرعه، ثم أخذ يرسل الرسل والكتب إلى القياصرة والملوك يدعوهم إلى الإسلام.
وعلى ذلك فإن طريقة تحقيق الفكرة أو الغاية الإسلامية هي الدولة الإسلامية: دولة الخـلافة. فالخـلافة هي الفرض الذي به توجد الفروض الأخرى، فتطبق الأمة الإسلام وتعلي كلمة الله وتحمل الدعوة إلى العالم وتشهد على الناس وتحيي فريضة الجهاد: ذروةِ سنام الإسلام. والخـلافة هي تاج الفروض، والواجب الذي لا تتم هذه الواجبات إلا به، ولقد عبرت الأحاديث النبوية الشريفة عن أهمية وجود الخـلافة ومبايعة خليفة على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من خلع يداً من طاعةٍ لقيَ الله يوم القيامة لا حُجَّةَ له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتَةً جاهلية» (رواه مسلم). وقال: «إنما الإمام جُنة يقاتل من ورائه ويُتّقى به» (رواه مسلم). وفرض أن تكون الدولة الإسلامية دولة واحدة والأمة الإسلامية أمة واحدة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (رواه مسلم). وقال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه» وقال: «إنه ستكون هَنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (رواهما مسلم وأبو داود والنسائي).
وبما أن طريقة تحقيق الفكرة الإسلامية أو الوصول إلى الغاية، التي هي تطبيق الإسلام وحمل دعوته إلى العالم، هي دولة الخـلافة، وهي الفريضة الغائبة، فإن هذه الطريقة تصبح غاية للأمة الإسلامية ويجب العمل لوضعها موضع التطبيق، ويجب اتباع الطريقة الشرعية لجعل هذه الغاية واقعاً محققاً. وهي الطريقة التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا الناس إلى الإيمان والخضوع لدين الله ولم يستجب له الناس وحاربته السلطات والقوى المتحكمة. فما الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى غايته وأقام الدولة الإسلامية وأعز دين الله؟
إن فعله صلى الله عليه وسلم لإقامة الدولة الإسلامية ليس فعلاً مجرداً من الدلالة الشرعية ـ كما يحلو لبعض علماء السلاطين أن يصوروا ـ، إنه منهج دلت عليه نصوص القرآن الكريم ومواقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله وهو بيان لكيفية العمل الشرعي للوصول إلى هذه الغاية. وسنعرضها بإيجاز.
1 ـ كان يضم المؤمنين به إلى حلقات سرية، يعلمهم الدين الجديد. وينشئهم تنشئة جديدة حتى أصبحوا شخصيات إسلامية بعقلياتهم ونفسياتهم، مفاهيمهم إسلامية يؤمنون بما خلقوا لأجله، فكانوا كتلة جديدة في المجتمع متميزة بعقيدتها وأفكارها ومشاعرها وسلوكها وغايتها.
2 ـ دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكتلته في صراع عَقَدي وفكري مع المجتمع وفي كفاح سياسي مع حكامه وسادته تحمل فيها أشق الصعاب، فبيّن الحق ودعا إليه، وبيّن مناقضة عقائد الكفر وأفكاره للحق والواقع، وكان يصحح المفاهيم عن الأشياء وعن الحياة، وكان يجادل زعماء الكفر ويكشف حقيقتهم وحقيقة ما هم عليه. ودعا إلى التفكر والتدبر، ونعى على تعطيل العقول والتمسك بالباطل. وهذه بضعة أمثلة على طبيعة خطاب القرآن الكريم الذي كان نهجاً للرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) (الإسراء)، (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) (الأنبياء)، (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم @ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) (يس) (أفرأيتم اللات والعزى @ ومناة الثالثة الأخرى @ ألكم الذكر وله الأنثى @ تلك إذا قسمة ضيزى @ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (النجم)، (ذرني ومن خلقت وحيداً @ وجعلت له مالاً ممدوداً @ وبنين شهوداً @ ومهدت له تمهيداً @ ثم يطمع أن أزيد @ كلا إنه كان لآياتنا عنيداً @ سأرهقه صعوداً @ إنه فكر وقدر @ فقتل كيف قدر @ ثم قتل كيف قدر @ ثم نظر @ ثم عبس وبسر @ ثم أدبر واستكبر @ فقال إن هذا إلا سحر يؤثر @ إن هذا إلا قول البشر @ سأصليه سقر) (المدثر)، (وإذا الموؤودة سئلت @ بأي ذنب قتلت) (التكوير)، (ويل للمطففين @ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون @ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون @ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) (المطففين)، (تبت يدا أبي لهب وتب @ ما أغنى عنه ماله وما كسب) (المسد)، وغيرها من نصوص كثيرة تشكل منهجاً وطريقة ثابتة في طبيعة علاقة الحق ودعوته مع الباطل ودولته.
3 ـ مورِست على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته أشق أنواع التعذيب والافتراء والتخويف فلم يَثنهم ذلك عن الإسلام وتحملوا وصبروا واستمروا، ولم يتنازل النبي عن شيء من الإسلام، ورفض المساومة رفضاً قاطعاً، ورفض المغريات أو أخذ جزء من السلطة أو تحقيق الغاية جزئياً، فرفض أخذ المال حتى يصير أغناهم، ورفض أن يعبدوا إلهه سنة ويعبد إلههم سنة. قال تعالى: (قل يا أيها الكافرون @ لا أعبد ما تعبدون @ ولا أنتم عابدون ما أعبد @ ولا أنا عابد ما عبدتم @ ولا أنتم عابدون ما أعبد @ لكم دينكم ولي دين) (الكافرون) وقال صلى الله عليه وسلم: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِكَ فيه ما تركته» (سيرة ابن هشام). وقال صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: «فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة» أي تقطع هذه العنق. (رواه أحمد والطبراني، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية). واستمر في بيان دعوته وتسفيه الكفر وأفكاره وتوعد الكافرين بالعذاب والنعي على عقائدهم.
4 ـ ولما ازدادت مساءات الكفر وزعمائه، ورأوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا ييأس ولا يتنازل ولا يساوم، وَثَبَتْ كل قبيلة على من فيها من المسلمين يقتلونهم ويعذبونهم. فكان موقفه ثابتاً مستنداً إلى ركن الإيمان المكين متمسكاً بحبل الله المتين. واستمر في دعوته بالصراع الفكري والكفاح السياسي، وندب صحابته بالهجرة إلى الحبشة فراراً بالدين، وتخفى البعض في مكة، ولكن لا تنازل ولا مساومة، ولا وقوف للدعوة. ولما تجمد المجتمع في وجه الدعوة تحت قوة البطش، لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبائل أخرى يدعوهم إلى الإسلام ويستنصرهم حتى يبلّغ رسالة الله، وحتى يكونوا سنداً له لنصرة تطبيق الإسلام.
5 ـ استمرت أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في طلب النصرة وتكررت ولم يحد عنها رغم رده بردود سيئة، ورفضِ عرضه من زعماء قبائل كثيرة. إلى أن قيض الله له مجتمع المدينة، حيث أسلم كثيرون، ولم تحارَب الدعوة كما حوربت في مكة، وكان بين الداخلين في الإسلام زعماء وأسياد لقبائلهم وعشائرهم. فطلب منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم النصرة لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة. ولما وافقوا على ذلك، عقد معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية وهي بيعة الحرب، بيعة إقامة الدولة الإسلامية. ثم هاجر إلى المدينة وقامت بوصوله الدولة الإسلامية.
وهكذا باشر تطبيق الإسلام وتوطيد دعائم الدولة، وبدأ أعمال الجهاد لإعلاء كلمة الله وحمل الدعوة إلى الناس .
محمود عبد الكريم
2002-04-19