بقلم: محمود عبد الكريم حسن
البحث عن طريق النهوض بالأمة الإسلامية، من واقع الانحطاط، واقع التخلف والتبعية والخضوع والتجزئة، حطي بالكثير من الأبحاث النظرية، التي غالباً ما كانت مراهقة وسطحية، وفي كثير من الأحيان كاذبة مضللة وتنفيذاً لمخططات الكفار وعملائهم. وفي أحيان قليلة جداً كانت جادة وعملية.
ومهما كان شأن تلك البحوث والتنظيرات، فإن العالم الإسلامي اليوم يشهد صحوة إسلامية تنيئ بأن الأمة تسير في طريق النهوض، فالأمة – بشكل عام – تتطلع إلى إزالة أنظمتها الكافرة وإيجاد النظام الذي يحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.
وإذ كان العمل لإزالة الكفر وسلطانه وإيجاد النظام الإسلامي في موقع الحكم بدستور إسلامي صرف وقوانين إسلامية بحتة تقاومهُ بضراوة وشراسة أنظمة الكفر القائمة في العالم الإسلامي وغيره، فتمنع ظهوره وتُقَتِّلُ روَّاده، الدعاة إلى الله، وتعتدي على كل حق من حقوقهم، فإن هذا يجب أن لا يثني الدعاة عن صدق العهد مع الله سبحانه وتعالى، وأن لا يجرفهم عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، التي تتلخص غايتها في الدنيا بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتتلخص العزيمة فيها وتحمل الأذى والثبات على الموقف الحق بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «والله يا عم ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه». ومن لم يوطد العزم على الصبر والثبات وتحمل الشدة والعذاب والضيق والأذى لتحقيق الغاية في سبيل الله، فليس مؤهلاً للاستمرار في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بصدق وإخلاص.
ولا نستغرب – اليوم – أن نجد في الأمة الإسلامية من يرى في نفسه أو يرى فيه غيرها قائداً ورائداً للعمل الإسلامي – في سبيل رفع شأن هذا الدين وإعلاء رايته – مع أنه ليس كذلك، إما لأنه لم يوطن النفس على الثبات على مبدأ الإسلام، وإما لأنه واحد من الملايين أو عشراتها الذين غزت الحضارة الغربية عقولهم، فأضحوا غير قادرين على التفكير إلا على أساس مبدئها النفعي، الذي يجعل أساس السلوك هو المنفعة أو بتعبير آخر المصلحة، وصاروا لا يطمئنون إلا لما يوافق حضارة هذا المبدأ النفعي.
أضف إلى ذلك ضعفاً في فهم الإسلام، يرافقه تخلف مدني كبير في مقابلة التطور المدني الهائل والمثير في المجتمعات الغربية، مما يدفع بالبعض إلى القيام بمحاولات توفيق بين الكثير من أفكار الإسلام وأفكار الحضارة الغربية. فترى هذا البعض المضبوع بتلك الحضارة والمبهور بالنتاج الصناعي والمدني عند أصحابها، يدَّعي في الإسلام مرونة وتلوي أحكامه الشرعية وتعبث بها، فتشكلها بحسب القوالب العصرية التي صاغتها حضارة الكفر. فتصبح أسس تلك الحضارة أفكاراً أساسية ومهمة، أو أصولاً ومقاصد للحضارة أو الأحكام الإسلامية. وعلى ذلك تصبح الديمقراطية – التي هي فكرة كفر ونهج الكفار أصحاب الشرائع الوضعية – من الإسلام، وكذلك حرية العقيدة والرأي. وتثار للبحث مواضيع محسومة في الإسلام، مثل وصول المرأة إلى سدة الحكم أو الأمام العظمى، ومثل كفالة الإسلام لحرية الارتداد، وتصبح عقوبة القتل للمرتد موضع تأويل وجدل.
نعم تحت تأثير أو ضغط هذا الواقع: أنظمة وأجهزةً طاغوتية ظالمة ومُتَجَبِّرة، وحضارةً غربية كافرة يُسوَّقُ لها لتكون ديناً للعالم – الدين العالمي الجديد – وضعفاً في فهم الإسلام يدفع بالبعض إلى التوفيق بين الإسلام والكفر عن طريق إغفال أصول تمس قطيعاتٍ ومسلّماتٍ في الإسلام، تحت ضغط هذا الواقع يتم التنازل عن كثير من قواعد الإسلام بحجج واهية أبرزها المصلحة.
ولما كان محسوماً في الإسلام أن لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى، فليس لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر عن حكم الله إلا بدليل شرعي. ويجد المولعون بالحضارة الغربية صعوبة في طرح أفكارهم على المسلمين، فترى – بوضوح – أصحاب هذا المنهج الانبطاحي يكثرون من الاستدلال بالحالات الاستثنائية في غير موضعها. فيصورون أن تغيير الواقع دونه عقبات تمنعه، ويعممون الرخص. وتصبح الأدلة عندهم هي: الضرورات تبيح المحظورات، وأخف الضررين، ومقاصد الشريعة، ومرونة الشريعة، ومراعاة المصلحة. بل وتنشأ عند هؤلاء عناوين جديدة وأبحاث جديدة لتبرير انحرافهم، وإغواء المسلمين، مثل الحاجة إلى تجديد أصول الدين، أو الحاجة إلى فقه الموازنات أو فقه المصالح والضرورات. وكأن عندنا إسلامَيْن إسلاماً أصلياً غير مناسب للظروف، وإسلاماً جديداً مصدره الموازنات العقلية أو تقديرات العقل للمصالح.
وهذا منهج مبتدع في الإسلام، لا أصل له ولا تنهض له أدلة، ولم نلحظ عند أيٍّ من رواد هذا المنهج التبريري استدلالاً صحيحاً بحسب قواعد الشرع، وإنما وجدنا إغفالاً وإهمالاً لما يصح إهماله، وتعميماً لما لا يجوز تعميمه. ولم نقف عند أي من علماء السلف رحمهم الله. العلماء الذين تلقت الأمة أبحاثهم واجتهاداتهم بالقبول، رغم الاختلاف الفقهي فيها، لم نقف عند أيٍّ منهم على منهج يستسيغ الحرام بحجة المصلحة المطلقة، أو يحلل الحرام بدلالة الموازنة العقلية بين المصالح أو المفاسد.
أقرأ يا أخي إن شئت مثلاً قولاً للشيح راشد الغنوشي يقلب الإسلام رأساً على عقب ليصل إلى نتيجة يريدها، ولعله – وهو الراجح – يريد موافقة نظرة الغرب حول الحرية وحول المرأة. يقول في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية): «ولقد استند المجيزون إمامة المرأة الولاية العظمى إلى أن عمومات الإسلام تؤكد المساواة بين الذكر والأنثى، وإن الحديث المذكور (وهو يقصد هنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة») لا يمثل أساساً صالحاً لتخصيص عموم المساواة، ذلك أن الحديث المذكور ورد بخصوص حادثة معينة، صورتها أنه لما ورد على النبي أن كسرى فارس مات وأن قومه ولَّوْا ابنته مكانه، قال عليه السلام ذلك القول تعبيراً عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم، فالحديث لا يتعدى التعليق على الواقعة المذكورة حتى يكون مرجعاً في مادة القانون الدستوري، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فما كان لفظه عاماً لا يعني أن حكمه عام أيضاً، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلاً عن ظنيَّته من جهة السند لمنع المرأة من الأمام العظمى». انظر صفحة 129 من كتابه المذكور أعلاه. ثم يضيف راشد الغنوشي ما يؤدي إلى نفي وجود نظام حكم في الإسلام، بل وإلى إلغاء الأحكام الشريعة جملةً، يقول في هامش نفس الصفحة: «إلا أن الأحكام الشرعية وخاصة ما تعلق منها بنظام الدولة الإسلامية ما ينبغي أن تبنى على سند ظني مهما كانت درجة الظنية ضئيلة» ويصل إلى مبتغاه في الصفحة 130 فيقول: «والنتيجة أنه ليس هناك ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة… ».
ولن أرد هنا على مثل هذه الأقوال المخالفة للدين، وما أتيت بها إلا للدلالة على وجود هذا المنهج الغريب في عصرنا. إلا أني ألفت نظر هذا الكاتب إلى أن اشتراط القطع لثبوت الأحكام الشريعة يؤدي إلى التحلل من الإسلام، وإن قوله: «فيما كان لفظه عاماً لا يعني أن حكمه عام أيضاً» يؤدي إلى إلغاء كثير من القطعيات، وإلى رد الاستدلال بالنصوص القطعية الدالة عليها، وعلى سبيل المثال فإنه يلغي كل العقوبات الإسلامية، كقطع السارق وجلد الزاني أو رجه،وقتل المرتد، وجلد شارب الخمر وغيرها، والقاعدة الأصولية المعلومة عند الفقهاء بالضرورة تقول: «يبقى العام على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص». ولا تمنعنا موضوعية البحث ولا تحرجنا من دعوى الجهل أو التجاهل لبعض الثوابث في الإسلام. هذا أقل ما نقوله، والبينة عليه قائمة فيما أوردناه عنه.
أعود إلى ما ذكرت سابقاً من أن أحداً من العلماء المعتبرين عند الأمة – بل أحداً من العلماء مطلقاً والله أعلم – لا يقول بهذا المنهج أو مثله، ولا يقرر شيئاً منه. ولم يأتيِ أحد ممن يقول به حالياً أو من يتبعونه باستدلال شرعي صحيح عليه. وجُلّ ما يأتون به هو ادعاء وجود هذا المنهج عند بعض العلماء الأفذاذ، والإتيان بنصوص من أقوالهم مع المحافظة على غموضها. ومن هؤلاء العلماء الكبار الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله.
ولقد عجبت بعد مطالعتي لكتاب (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) لراشد الغنوشي، من كثير من طروحاته والتي يعتبرها إسلامية. ولقد صور في كتابه منهجاً خطيراً على المسلمين، يتخلص بالتشريع بالمصلحة مجردةً من أي قيد. والأخطر أن يُنْسَبَ ذلك النهج المبتدع والخطير إلى الإمام الشاطبي رحمه الله. وأن يُدّعى أن هذا هو منهج المفكرين الأصوليين المعاصرين، فكان لا بد من بيان أقوال الإمام الشاطبي رحمه الله وإبراز المعاني الصحيحة التي قصدها، تبرئةً له ليظل إماماً معتبراً، وقطعاً لأي سبيل للانحراف بالمسلمين وقد بدأوا يتلمسون ويتحسسون طريق النهضة، وسداً لأي ذريعة لجعل الكفر ديناً.
فلنناقش راشد الغنوشي في بعض ما جاء في كتابه، وهو البعض الذي نعتبره عماد هذا المنهج المناقض للإسلام. ولا يتسع المجال هنا لمناقشة كل ما جاء في كتابه، فذلك يحتاج إلى كتاب ليس صغيراً.
يقول الغنوشي في الصفحة 38: «وإذا تقدما صوب المعاني التشريعية من أجل وضع إطار قانوني لحريات الإنسان أو لواجباته، وجدنا مفكري الإسلام المعاصرين يكادون يجمعون على تزكية الإطار الأصولي الذي وضعه العلامة الشاطبي في الموافقات والمتلخص في اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية، والتي صنفها إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، وقد حدد الصنف الأول في جملة من المقاصد: حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، على اعتبار أن الدين إنما جاء لتحقيق هذا المقاصد، فهي الإطار العام لحقوق الإنسان في الاعتقاد وفي حفظ الحياة وما تتحقق به من وسائل، وحفظ العقل وما يتعلق به من تعليم وحرية تفكير وتعبير، وفي حفظ النسب وما يقتضيه من حق في إقامة أسرة… وفي حفظ المال وما يترتب عليه من حقوق اقتصادية واجتماعية…».
ويقول الغنوشي أيضاً في الصفحة 43 من كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية): «وكان مبحث المقاصد الشرعية الذي اختطه بتوفيق العلامة المغربي أبو اسحق الشاطبي في رائعته الموافقات قد حَظِيَ كما تقدم بقبول عام لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين كأساس وإطار لنظرية الحقوق والحريات العامة والخاصة في التصور الإسلامي، ومعلوم أن أبا اسحق الشاطبي في تتبعه كليات الشريعة وجزئياتها قد كشف عن نظرية المصلحة العامة فوجدها مرتبة في ثلاثة مستويات: سمى المستوى الأول المصالح الضرورية التي يدخل الفساد والشقاء على حياة الناس باختلالها، وهي خمس: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب، وقد فرضت الشريعة لكل منها شرائَع تَنشئها وتحفظها، واسنّت شرائع أخرى لدرء الاختلال عنها. الثاني المصالح الحاجية وقد قصد منها إلى رفع الضيق عن حياة الناس المؤدي إلى الحرج والمشقة. الثالث وهو المصالح التحسينية وهي جملة من العادات الحسنة ومكارم الأخلاق كأخذ الزينة والنوافل. وترتيب تلك المصالح مهم إذ يجعل بينها تفاضلاً يفرض التضحية بالأدنى في سبيل رعاية الأعلى كلما وقع تناقض. فستر العورة من الشرائع التحسينية ولكن إذا اقتضى حفظ الدين أو النفس الكشف في حالة التعرض للمرض لإجراء عملية جراحية أو مغالطة العدو في حالة الخطر على الدين كان الكشف هو المقصد الشرعي المقدم، وحفظ المال أو الملكية من مقاصد الشريعة، ولكن حفظ النفوس مقدم عنه. فيضحى بها من أجلها عند الاقتضاء».
ويقول أيضاً في الصفحة 368: «ولقد حظي هذا العلم (علم أصول الفقه) بعقول عظيمة تتابعت على تأصيل قواعده وتطويرها وإثرائها وصقلها، حتى بلغت مع العلامة الأندلس الشاطبي أوجاً عظيماً متقدماً امتداداً للنهج الذي سنه الإمام الشافعي، فلقد انصبت نخبة من العقول العظيمة التي امتلأت يقيناً بعظمة الإسلام، وغاصت في نصوص أوحي كتاباً وسنة، وفي تراث الفقه والتطبيق الأساسي وسائر علوم الإسلام خلال القرون، كما استوعبت جملة المعرفة البشرية المعروفة في العصر، وصاغت من خلال كل ذلك قواعد للتشريع على ضوء ما استخلصته من مقاصد الدين. وجملة مقاصد الدين تدور حول مصالح العباد. فإنما لأجل ذلك جاء الدين. يقول الشاطبي: «إنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً ولا ينازع فيه الرازي ولا غيره» يقول: «أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً…».
ويقول الغنوشي في صفحة 359: «والاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر إلى قبول أصول الشاطبي إطاراً عاماً لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين انطلاقاً من هذا الأصل العظيم: أن الدين إنما أنزل للتحصيل وللمحافظة على مصالح الناس في الدنيا والآخرة. وفي هذا المنظور العام والمقصد العام للشريعة أمكن لجزئيات الدين أن تجد مكانها اللائق بها كفرع من أصل، وفي هذا المنظور نفسه يمكن أن تجد المشكلات المستجدة في حياة المسلمين حلولها المناسبة…».
ثم يقول: «فما غلب ما فيه من صلاح عما فيه من فساد فهو مشروع… ».
واضح من كلام الغنوشي أنه يقرر منهجاً جديداً للتفكير أو للتشريع عند المسلمين، منهجاً يقوم على المصلحة. وواضح أيضاً أنه يريد الاستناد إلى الإمام الشاطبي – رحمه الله – من أجل إضفاء شرعية ما على مواقف أو طروحات غير شرعية، فَيَفْهَمُ من كلام الإمام، ويريد من قارئه أن يفهم، أن الواقع يُدْرَس دراسة عقلية، وتدرس جوانب المصلحة وجوانب المفسدة فيه، ثم يكون حكم الشرع في ذلك الواقع بحسب المصلحة كما يراها العقل. فإذا غَلَّبَ العقلُ جانب المصلحة كان ذلك الشيء أو الأمر أو الواقع مشروعاً. وإذا غلب جانب المفسدة كان العكس. وهكذا يتحقق مراده مراد أصحاب هذا المنهج معه في استبعاد أحكام الشريعة التي لا توافق أهواءهم أو نظرتهم العقلية. ولكن الغنوشي لا ينسى التبرير لهذا الموقف، فيُفهم قارئَة أن المجتمعات تتغير وتتبدل، ما يستدعي تطور الأحكام لتجاري تطور المجتمعات. فالمنهج الإسلامي الذي يصلح لجماعة ما أو زمان ما، لا يصلح لكل جماعة وكل زمان، فإذا لم تتطور الشريعة تصبح جامدة وغير صالحة. فلا بد أن تكون قابلة للتطور، ولهذا لا بد أن تكون مرنة، ولا بد أن تتوافق مع الواقع لتعطيه من الأحكام ما يناسبه. يقول في الصفحة 358: «ولأن ما سمات المنهج الإسلامي الواقعية والمرونة بما يحقق خلوده وصلاحه لكل زمان ومكان، ولأن حياة الجماعات البشرية عامة، ومنهم جماعة المسلمين، في حركية دائمة مثل حياة الأفراد تتوارد عليها حالات الصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والضعف والقوة، فلا مناص لدين جاء ليغطي حياة البشرية في كل أصقاعها على امتداد الزمان أن يتسع لتغطية كل أوضاع التطور التي يمكن أن تمر بها جماعة أو جماعات المسلمين دائماً… ». ويقول أيضاً في الصفحة 120: «إن الشريعة ليست نصوصاً جامدة، ولا هي مصوغة في صيغ نهائية، وليست أيضاً مدونة قانونية بحيث وضعت لكل فعل وحالة حكماً، وإنما المجال لا يزال فسيحاً للتفسير والتحديد والإضافة والتجديد عن طريق استخدام العقل الفردي والجماعي «الاجتهاد».
هذه النصوص المطولة التي أوردناها أعلاه عن الغنوشي كافية لبيان منهجه (العصري) في فهم الإسلام والذي يتخلص في أن الأفراد والجماعات – ومنهم المسلمون – في تطور وتغير دائم، وتعتريهم حالات الصحة والمرض، والقوة والضعف. والإسلام يجب أن يكون بناء على ذلك قابلاً للتطور والتغير، ويجب أن يكون مرناً، وإلا لم يكن صالحاً. فالأحكام يجب أن تتغير بحسب الواقع، فما كان حراماً قد يصير حلالاً، والقاعدة التي تُتَّبَعُ في ذلك هي المصلحة ودارئاً للمفسدة فهو مشروع، وإن خالفت مصوغة في صيغ نهائية، ولم تعطِ حكماً لكل فعل وحالة، والمجال فسيح أمام العقل. فالنصوص عنده إذن فقط حددت المقاصد، والمقاصد هي المصالح، وإذا لم تتبع قواعد المصلحة في التشريع، جمدت الشريعة وفقد الإسلام صلاحيته. وهو يرى في كل ذلك أنه يستند إلى أصول الشاطبي رحمه الله، وفي ذلك مغالطة كبيرة وجريئة. وإن أهم ما نقصده هنا هو بيان أن الشاطبي رحمه الله بعيد كل البعد عن هذا المنهج، ولو قال به لَرُدَّ قولُه لتناقضه الصارخ مع شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً.
فما هي حقيقة رأي أو موقف الإمام الشاطبي؟
إن قول الشاطبي إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معاً، لا يستفاد منه ولا بأي وجه من الوجوه أن ما يراه العقل مصلحة فهو مشروع، ولا أنه يجوز ترك حكم النص إلى حكم فيه مصلحة بحجة أو بشرط المحافظة على المقصد، ولا أن ما تغلب فيه المصلحة على المفسدة فهو مشروع. والذي يفهم من كلام الشاطبي هو أن وجود الشريعة الإسلامية هو وجود لشريعة صالحة لرعاية البشر، فتحقق لهم إشباع حاجاتهم وطمأنينة نفوسهم لأنها تعالج البشر بأحكام من عند خالق البشر الذي يشرع لهم ما يصلح لهم على الحقيقة، فيؤدي إلى رفاهيتهم وطمأنينتهم في الدنيا، أي في العاجل، ويؤدي إلى ثوابهم ونجاتهم من العقاب في الآخرة، أي في الآجل، وهذا كله مصلحة للعباد، مصلحة في الدنيا ومصلحة في الآخرة، وكلتاهما تنتجان عن التزام ما أمر به الله سبحانه وتعالى. وليس معنى هذا أن الإنسان يجوز أن يسير في هذه الدنيا بحسب ما يراه محققاً للمصلحة، لأن هذا يؤدي لأن يشرع الإنسان لنفسه بنفسه، وهذا لو سلّمنا أنه يؤدي إلى مصلحة العباد في العاجل، فإنه لا يؤدي إلى المصلحة في الآجل، لأنه عدول عما أمر به الله سبحانه وتعالى، والمصالح في العاجل لا تتحقق إلا بما تتحقق به المصالح في الآجل. علاوة على أن قصد المصلحة في التشريع لا يؤدي إلى حصول المصلحة، وإنما يؤدي إلى الشقاء في العاجل. وقد بين الإمام الشاطبي قصده هذا في مقدمة الجزء الأول من كتابه الموافقات، عندما بيّن أن الإنسان كان يشرع لنفسه قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على ما يراه مصلحة، فأدى ذلك إلى شقائه حتى جاءت الشريعة الحنيفية، وبيّنت للعباد ما يؤدي إلى المصلحة الحقيقية، التي يعلم الله وحده السبيل إليها، ويجهل سبيلها الإنسان الذي قد يسلك إلى شقائه وهلاكه ظاناً، لضعفه وقصور إدراكه، أنه يسلك إلى المصلحة والطمأنينة. قال الشاطبي في الجزء الأول صفحة 2: «الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى علم وأوضح دلالة. وكان ذلك أفضل ما مَنَّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله. فقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء، تجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء. فنضع السموم على الأدواء موضع الدواء طالبين للشفاء، كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي أكباباً على الوجوه ونظن أنا نمشى على الصراط المستقيم.
ومما يؤكد هذا المقصد عند الشاطبي إضافة إلى النص السابق، الآياتُ التي استدل بها لتدعيم كلامه. فقد استدل بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وبقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، وبقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، وبقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) وبغيرها من الآيات الكريمة، وكلها ليس في أيٍّ منها ما يدل على أن المصلحة شرع أو أن ما أدى إلى المصلحة أو درأ المفسدة فهو مشروع، بل ما يفيده المعنى المشترك في هذه الآيات وفي كثير غيرها هو أن الشرع مصلحة، أو الشرع رحمة. فالآية الأولى مثلاً ليس فيها معنى أن ما يُرْتأى رحمة فهو مشروع، ولكن المعنى أن الشرع الذي أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الرحمة بغض النظر عن رأي العباد فيه. فنقول: الشرع مصلحة، ولا نقول المصلحة الشرع، والشرع هو الشرع الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- وليس شرع العقول والأهواء. وقد حسم القرآن لنا ذلك بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). وهذه النصوص من القرآن، من دراسة دلالتها نفهم ما تدل عليه، ونفهم بعد ذلك على ماذا يستدل بها الشاطبي، فهو يستدل بها على ما تدل عليه وليس على أمر ليس فيها دلالة عليه. وإذا كان هكذا فهذا يؤكد النص الذي أوردناه عنه أعلاه. بل وتؤكد هذا المعنى آيات القرآن الواضحة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). أي أن من اتبع القرآن هُدي ومن لم يتبعه ضل. والذي يشذ عن الأحكام التي دلت عليها النصوص بحجة المصلحة، فهو غنما ينصب نفسه إلهاً يشرع لنفسه بما يراه مصلحة، وهذا شأن الشرائع الوضعية التي قال فيها جل شأنه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). فالتشريع بالمصلحة مفسدة في العاجل والآجل معاً.
ومما يفسر ويؤكد المعنى الذي ذكرناه آنفاً عند الشاطبي، قوله في الجزء الثاني صفحة 25 من الموافقات: «المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية. والدليل على ذلك أمور. أحدها ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عباداً لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت. وقد قال ربنا سبحانه: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)». ويستطرد الشاطبي في بيان هذا الأمر بما بنا غنية فيما أوردناه عنه من هذا الموضع عما لم نورده.
إذاً، المصلحة عند الشاطبي تنتج عن تطبيق الشريعة ذاتها، وليس عن تطبيق ما يراه العقل موصلاً إليها، فليس المشروع هو ما يؤدي إلى المصلحة، كيفما كان، وإنما المصلحة عند الشاطبي مقصد من التشريع لا يسلك إليها إلا ما قد شرعه الله. قال الشاطبي في الجزء الثاني صفحة 25: «… أن الشريعة إنما جاءت لتخرج العباد من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عباداً لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت».
وكلما تقدمنا في دراسة الموافقات تأكد هذا المعنى الذي نذكره. فالعجب العُجاب ممن يستدل بالموافقات على عكس هذا المعنى. ولا نستطيع أن نستقصي كل ما قاله هذا الإمام الفذ حول هذه المسألة ولكنا نركز على ما ينقض دعوى أصحاب هذا المنهج – البدعة.
يقول في الموافقات صفحة 114 من الجزء الثاني: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً والدليل على ذلك عدة أمور». ويذكر من هذه الأمور قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). ويسترسل الشاطبي في بيان هذا الأمر ثم يقول في الصفحة 116: «… لم يصح لأحد أن يدّعى على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم. إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة: أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، إذ يُقال: إفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا، ولا تفعل كذا، كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل. وأما سائر الأحكام، وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعه إلى إخراجها عن اختياره». وهذا القول من الشاطبي هنا يصادمه بشدة قول الغنوشي وبعض من يعتبرون من المفكرين (الإسلاميين) المعاصرين، أن الإسلام يقرر الحريات العامة، لأن الإسلام يريد من الإنسان أن يكون عبداً لله وأن يقرر بنفسه أنه عبد لله، فلا حرية مع الالتزام بأحكام الشرع، فالوجوب والتحريم يخرجان الإنسان عن حريته وكذلك الاستحباب والكراهة، وأكثر من ذلك يذهب الشاطبي، وهو الحق، أن حكم الإباحة ليس إعطاء حرية للإنسان وإنما هو حكم شرعي هو كما يقول الشاطبي، وإن كان تخييراً للعبد، فهو كذلك لأن الشارع جعله كذلك هو إذاً راجع إلى إخراجه عن اختياره. وهذا نقيض مذهب المعاصرين المتأثرين بالحضارة الغربية وينادون بفكرة الحريات المنبثقة عن الكفر.
ويقول الشاطبي أيضاً في الصفحة 117: «إن وضع الشريعة إذا سلِّم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس. والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك. فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض». فهذا جلي في بيان رأي الشاطبي أنه لا عدول عن حكم شرعي لمصلحة، لأن هذا هو عينه ترك الشرع إلى الهوى. وهو مخالف للمنهج الجديد المبتدع في عصرنا، وهو منهج ترك الحكم الشرعي بحجة المصلحة، أو جعل ما تغلب فيه المصلحة على المفسدة مشروعاً.
ولعل قارئاً من المطلعين على النصوص المقتطعة من الموافقات، كتلك التي أوردناها في هذا البحث، نقلاً من كتاب (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) لراشد الغنوشي، والمشروحة بسطحية أو بشكل خاطئ من قبل أصحاب المنهج – البدعة، لعله يقول: كيف يقول الشاطبي إن الشريعة وضعت لأجل مصالح العباد في العاجل والآجل، ثم يلزمهم بالالتزام بالنصوص وعدم الخروج إلى المصالح التي يقدرها العقل؟ وهنا يجيب الإمام الشاطبي نفسه رحمه الله فيقول في الصفحة 117 من الجزء الثاني: «أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجاً عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولاً لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهو ظاهر. وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظرٌ في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة».
ومما ينسف هذا المنهج – البدعة من جذوره، ويبين أن افتراءهم على الإمام الشاطبي واهٍ ومتهافت، هو تعريفه للمصلحة والمفسدة اللتين قصدهما بقوله: إن الشريعة وضعت لأجل مصالح العباد. يقول في الصفحة 219 من الجزء الثاني من الموافقات: «إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدةً كذلك، مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحةً، وإلا فكان يمكن عقلاً أن لا تكون كذلك. إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذاً كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح (والكلام ما زال للشاطبي) قد آل فيها النظر إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبدياً» وكأن الشاطبي في قوله الأخير هذا يجهز على الدعوة الباطلة في هذا المنهج المبتدع التي تجعل منه إماماً لهم في التشريع بالهوى. بل هو يسميهم مبتدعين فعلاً كما سنبين بعد قليل.
إن النقول التي أوردناها عن الغنوشي فيما سبق من هذا البحث تبين أنه والذين يعتبرهم الأصوليين المعاصرين أو مفكري الإسلام المعاصرين يتخذون من أصول الشاطبي إطاراً عاماً لأجل التشريعات الجديدة المطلوبة لهذا العصر، والتي تتطلب مرونة في الشريعة تدفع إلى العدول عن أحكام النصوص إلى أحكام أخرى تقتضيها الضرورة أو المصلحة بحجة المحافظة على المقاصد. وما أوردناه آنفاً عن الموافقات للشاطبي يدحض هذه المزاعم التي لا أصل لها عنده، ويؤكد أنها فرية. فالشاطبي رحمه الله أبداً لم يتحدث عن فقه مصالح وضرورات ولا عن فقه موازنات.
أما ما يذكر الغنوشي عن تقسيم الشاطبي للمقاصد الشرعية إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات، فهذا صحيح. ولكن ليس صحيحاً ما يبنيه الغنوشي على ما يستنبطه الإمام. فما أشار إليه الغنوشي من إدخال الحريات العامة كحرية العقيدة وحرية الرأي وحرية الملكية في هذه المقاصد إنما هو من أوهامه. والشاطبي قسم المقاصد إلى هذه الثلاثة الأقسام ولكنه لم يتحدث أبداً عن أي نوع من هذه الحريات، بل إنه نقضها كما أسلفنا، عندما بيّن رأيه أن الأحكام الخمسة ومنها الإباحة راجعة إلى إخراج المكلف عن التخيير.
فالإمام الشاطبي تحدث في الضروريات عن حفظ الدين وليس عن حرية العقيدة. وحفظ الدين الذي اعتبره الأصوليون من مقاصد الشريعة استدلوا عليه بأن الشارع قد شرع حداً للمرتد وهو القتل، فبهذا يحفظ الدين في شريعة الإسلام. بينما الغنوشي، في كتابه، يدعي أن مقصد حفظ الدين هو حرية العقيدة. أي بهتان هذا؟، ثم إنه بعد ذلك يجادل عبثاً في هذه المسألة، فيحاول أن يثبت أن عقوبة المرتد عقوبة تعزيرية وليست حداً، استدعتها الظروف السياسية آنذاك – زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- – وأن ما صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الردة وقوله: «من بدل دينه فاقتلوه»، كان باعتبار ولايته السياسية ولم يكن تشريعاً، وأن قتل المرتد كان يعدَّه خروجاً بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وكل هذه الدعاوى منه ليست مبنية على أي دليل، وظاهر فيها ريح الحضارة الغربية النتنة. فكل هذه المحاولة اليائسة هي ليثبت أن الإسلام يقرر حرية العقيدة، وأن حق الإنسان محترم ومحفوظ في تغيير عقيدته. ومن أراد أقوال الغنوشي فليراجع صفحة 48 و49 و50 من كتابه.
وكذلك ما قاله الغنوشي عن مقصد حفظ العقل، فالأصوليون يجعلون حفظ العقل مقصداً ويستدلون على ذلك بتحريم المسكر وبالعقوبة الشرعية عليه. بينما يذكر الشيخ راشد أن حفظ العقل يتعلق به حق الإنسان في التعليم وحرية التفكير وحرية التعبير. وأنا هنا أعرض القضية على كل عاقل منصف: ما العلاقة بين حفظ العقل المستنبط من وضع عقوبة لشارب الخمر، وبين حرية التعبير؟؟ ما هذا؟ أهو عمق في التفكير والاستنباط؟ أم هو استنتاجٌ جارٍ على مقتضى الأهواء وليس جارياً على حسب مقتضى العقول؟. إنه الاحتمال الأخير بلا شك، والدافع إليه هو موافقة الحضارة الغربية، وهذا النوع من الموافقات مختلف تمام الاختلاف عن موافقات الشاطبي. دعوكم من هذا أيها (المفكرون المعاصرون) فإنه ضلال، وهو يسقطكم ولا يرفعكم.
وعلى كل حال فالشاطبي بريء من كل هذا كما بيّنا سابقاً.
وقطعاً لكل المحاولات المريبة في تفسير مقصد الشاطبي من تقسيمه المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، لا بد من بيان مقصده منها كما بينه هو. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الشاطبي لم يكن أول من تناول هذا التقسيم، فقد سبقه كثير من الأصوليين كالغزالي والآمدي رحمهما الله تعالى.
والشاطبي لم يورد هذا التقسيم ليرد أحكاماً شرعية ويستبدل بها أحكاماً أخرى من تقديرات العقل بحجة أن الأولى تحسينية والثانية حاجية، أو أن الأولى حاجية والثانية ضرورية. بل هذا عين ما يسميه الشهوة والهوى، فكما أن المصلحة هي ما جعله الشرع مصلحة والمفسدة كذلك، كما بيّنا عنه سابقاً، فكذلك مرتبة المصلحة، أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية هو بجعل الشارع لها كذلك.
إن حديث الشاطبي ومن سبقه في هذا التقسيم للمصالح ينطوي على فهم عميق لواقع الإنسان، فهماً لا تجده في كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أبحاث، هذه الحضارة التي ينطلق منها أحياناً، من يطلق عليهم أحياناً، (مفكرو الإسلام المعاصرون).
فالإنسان مخلوق عاجز محتاج إلى شريعة تنظم له شؤونه وحياته أثناء اندفاعه لتحصيل اشباعاته وسد حاجاته. وحاجاته منها ما هو ضروري كالأكل والشرب والسكن، والكرامة والعرض والأمن وما شاكلها، فهذه لا غناء للإنسان عنها. فهي ضرورية. وعدم إشباعها يؤدي إلى الفساد والهلاك. وهناك حاجات دونها في الضرورة وعدم إشباعها يؤدي إلى القلق والاضطراب ويرفع الطمأنينة من بين الناس، وذلك ما يطلق عليه الغرائز، ويمكن تسميته مصالح حاجية. وهناك حاجات وإن كانت دون هذه الثانية في الضرورة، إلا أن وجودها أفضل للإنسان من عدمه، وذلك كالنظافة والطهارة، وأخذ الزينة وما شاكلها في الرتبة. فهذه تسمى التحسينات. وإذا لاحظ الشاطبي وغيره في الإنسان هذه الحاجات وهذه المراتب لها. فقد وجد بعد معرفة شريعة الله من مصادرها، أنها قد عالجت كل حاجات الإنسان، بما يضمن إشباع جميع حاجاته من ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وقد عبر عن هذا بقوله: «والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره» أنظر الجزء الثاني، صفحة 2 من الموافقات. فهو قرر هذه الحاجات أو المصالح نتيجة الاستقراء، أي إنه نظر في أحكام الشريعة فوجدها مؤدية إلى إشباع حاجات الإنسان، وإشباع حاجاته مصلحة له، فقال ما قاله من أن الشريعة وضعت لأجل مصالح العباد، وهذا لا يعني بحال أنه حيث تكون المصلحة فَثَمّ الشرع، ولكنه يعني أنه حيث يكون الشرع فثَمّ المصلحة.
ثم إن الشاطبي رحمه الله قد بين كما نقلنا عنه سابقاً، أن المصلحة ليست في مجرد سد هذه الحاجات، فالشرائع الوضعية تسعى إلى سدها وإشباعها، وإنما المصلحة في سدها كما أمر الشرع. يقول الشاطبي في الجزء الثاني صفحة 25: «المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية… ». ويقول في الصفحة 31: «فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه». فإذا ربطنا هذا الكلام بما ذكرناه عنه سابقاً أن المصلحة هي بجعل الشرع لها كذلك، وكذلك المفسدة. علمنا رأيه، وهو أن العقول تدرك بالتجارب أي بعد تطبيق الشرع أن هذا المأمور به يودي إلى مصلحة، وأن هذا المنهي عنه يؤدي إلى مفسدة. وقول الشاطبي «بعد وضع الشرع أصولها» أي بعد أن نصب الشرع الأدلة الدالة على طلب الفعل أو تركه.
وعليه فالشاطبي يرى أن اللازم اتباع الشرع في الأمر والنهي كي تتحصل المصلحة في الدنيا والآخرة، وألا سوف نقع في المفسدة حيث نتوقع المصلحة. أما ما يراه بعض المهزومين أمام الحضارة الغربية وأمام ضغط الواقع، فهو قلب الأمور رأساً على عقب، أنه استبدال لشريعة اسمها المصلحة بشريعة الإسلام.
وهؤلاء الذين يريدون تحميل أوزارهم للشاطبي، فيقولون أنهم ينتهجون نهجه، ويدعون أن الاتجاه العام في الفكر الإسلامي المعاصر يجعل من أصول الشاطبي إطاراً عاماً وأساساً لمعالجة المشكلات المستجدة في حياة المسلمين، وأن الشرع قد تضمن أصولاً عامة يمكن أن يتأسس عليها اجتهاد جديد كلما حصل تطور في الحياة،… (راجع في هذا كتاب الحريات العامة للشيخ الغنوشي صفحة 359، وقد أوردنا عنه نصاً كاملاً في هذا الموضوع فيما سبق من هذا البحث)، هؤلاء يعدهم الشاطبي أهل بدع. ولله دَرُّ هذا الشاطبي المستنير. فلنقرأ بتأنٍّ قوله في الصفحة 234 من الجزء الثاني: «فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فِعْلُهُ موافقاً أو مخالفاً» أي لصورة الفعل المأمور به أو المنهي عنه بالنص. ثم يتابع: «وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته. فالجميع أربعة أقسام». فيتحدث رحمه الله عن الأقسام الثلاثة الأولى بما يلزم، ثم يتحدث عن القسم الرابع وهو ما يلزمنا هنا فيقول في الصفحة 236: «والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفاً والقصد موافقاً، فهو أيضاً ضربان: أحدهما أن يكون مع العلم بالمخالفة، والآخر أن يكون مع الجهل بذلك، فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع، كإنشاء العبادات المستأنفة، والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع من تأويل، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة» ثم يسترسل الشاطبي رحمه الله في إثبات بدعية هذا الطرح وهو مخالفة الشارع فيما أمر أو نهى بحجة المحافظة على المقصد. وهذا هو عين ما طرحه الغنوشي في كتابه. وهو عين ما يطرحه الذين جعلهم الغنوشي مفكري الإسلام المعاصرين. وجميعهم يقصدون إلى تغيير شرع الله فيثيرون مسألة مقاصد الشريعة كمقدمة وغطاء للانحراف، ثم يخادعون فَيُغَشُّون على العقول والقلوب بإثارة مسألة مرونة الشريعة، ويَتَتَرَّسون بالإمام الشاطبي، والشاطبي بريء منهم ويَعُدُّهم أهل أهواء وبدع. فمن لي بأصحاب هذه المفاهيم الغربية السقيمة، يغرفونها من مستنقعات الكفر، ثم يزينونها بالبسملة والحمدلة ويدَّعون أنها الإسلام! أيظنون أن الأمة قد خلت من المفكرين الحقيقيين، المفكرين على أساس الإسلام؟ إن الشاطبي يرد هذا المنهج ويعده مذموماً شرعاً، ويقول أن مخالفة الشرع بالفعل أو الترك مع قصد المحافظة على مقصد الشريعة هو بمثابة روحٍ بلا جسد، ثم يقول في الصفحة 239 من الجزء الثاني: «وكما لا يُنْتَفَعُ بجسدٍ بلا روح، فكذلك لا ينتفع بروح بلا جسد».
وجرياً على المنهج الذي ابتعته هنا في الرد على الغنوشي، بكلام الشاطبي نفسه، لأن الأول ادعى أنه يتخذ من أصول الثاني إطاراً عاماً لمنهجه، فلننظر ما هو رأي الشاطبي في مسألة التطور في الواقع والمرونة في الشريعة، والتغير في أحوال الأفراد والجماعات، وقد أوردنا دعوى الغنوشي فيما سبق من هذا البحث فليراجع. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الصفحة 195 من الجزء الثاني: «إن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة، كالإخبار عن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال. وأن سنة الله لا تبديل لها وأن لا تبديل لخلق الله، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضاً، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف غيره بحال، فإن الخلاف بينهما محال». وقال أيضاً في نفس الصفحة: «لولا أن اطراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلاً عن تعرف فروعه».
وقال أيضاً الصفحة 196: «العوائد المستمرة ضربان: أحدهما العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها. ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهةً أو تحريماً، أو أذن فيها فعلاً وتركاً. والضرب الثاني هي العوائد الجارية بين الخلق مما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. أما الأول فثابت أبداً كسائر الأمور الشرعية. كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، والتأهب للمناجاة وستر العورات، والنهي عن الطواف بالبيت على العري وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت حكم الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحاً ولا القبيح حسناً حتى يًقالَ مثلاً إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادان الآن فليجزه، أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فليجزه، أو غير ذلك، إذ لو صح مثل هذا لكان نسخاً للأحكام المستقرة المستمرة. والنسخ بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل»ز ثم تحدث الشاطبي عن الضرب الثاني فأطال قليلاً ثم لَخَّص فقال: «إن ما جرى ذكره هنا عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يَحْتَجْ في الشرع إلى مزيد… » أنظر صفحة 199 من الجزء الثاني من الموافقات.
هذا هو الشاطبي، وهذه أفكاره ومفاهيمه وأصوله، فكيف يجعلها من يسمون أنفسهم مفكري الإسلام المعاصرين إطاراً عاماً لمنهجهم القائم على الحاجة إلى فقه جديد اسمه فقه المصالح أو فقه الموازنات أو فقه المصالح والضرورات. إن أردتم الصواب فسموه الفقه التبريري، تبرير ترك حكم الشرع إلى حكم العقل، أي إلى الهوى، إلى الطاغوت. واسمع لقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا). ولننظر الآن في شيء من التفاصيل المنبثقة عن هذا المنهج الفاسد.
ذكرنا سابقاً ما قاله الغنوشي في كتابه في الصفحة 129 بشأن تنصيب المرأة للإمامة، وما قاله بشأن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة». قال: «إن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما كان لفظه عاماً لا يعني أن حكمه عام أيضاً، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة، فضلاً عن ظنيته من جهة السند لمنع المرأة من الإمامة العامة». وقال في هامش الصفحة نفسها: «إلا أن الأحكام الشرعية وخاصة ما تعلق منها بنظام الدولة الإسلامية ما ينبغي أن تبنى على سند ظني مهما كانت درجة الظنية ضئيلة». وهذا القول غريب عجيب.
يا شيخ راشد من ذا الذي علمك هذا؟ هلاّ عرفتنا على منهجك في الأصول؟ أو الأصول التي تصدر عنها. إن كنت تدعي أنها أصول الشاطبي فقد بيّنا أن أصول الشاطبي مما تقول براء. ونفيدك بما عند الأصوليين وما عند الشاطبي بالذات حول العموم والخصوص، والشاطبي واحد من مفكري الإسلام وعلمائه الأفذاذ، ولكن ولحسن الحظ لم ينل اللقب الأخير الذي نلتموه وهو (المعاصرين). يقول في الصفحة 169 من الجزء الثاني: «الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ولا يحاش من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة». ثم يأتي رحمه الله بالأدلة الشرعية على ذلك. ومما يقوله عن الشريعة في الصفحة 170: «فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص، وإنما يُستثنى من هذا ما كان اختصاصاً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم يقول: «إجماع العلماء المتقدمين على ذلك الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذلك صَيَّروا أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم. فهذه الأقوال تعرّفنا على رأي الشاطبي في العموم والخصوص. ومن أراد المزيد فليرجع للفصل الرابع من الجزء الثالث من كتابه الموافقات.
هذا بشأن العموم. أما ما قاله الغنوشي من أنه لا ينبغي أن تبنى الأحكام الشرعية على سند ظني. فهو قول مراهقين في الأصول، ولا تستحق الرد. ولكن فقد نتعرف على قول الشاطبي الذي يقول الغنوشي أنه يتخذ أصوله إطاراً عاماً لمنهجه. يقول الشاطبي صفحة 10 من الجزء الأول: «لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات» والأحكام الشرعية من الجزئيات. ويقول في الجزء الثالث صفحة 7: «كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً» وقوله هذا هو ما عليه الأمة. ثم يقول: «وإن كان ظنياً (أي الدليل) فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي معين» ثم يقول: «وأما الثاني وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي، فأعماله أيضاً ظاهر وعليه عامة أخبار الآحاد».
إن الحديث الذي يرد الغنوشي حجيته وهو: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» هو حديث صحيح رواه البخاري وغيره. وهو وإن كان ظنياً أو خبر آحاد، فوجوب العمل به متفق عليه إذ هو من السنة وهي قطعية، أي وجوب العمل بها قطعي ويستند إلى القرآن.
إن الواضح الأكيد من قراءة راشد الغنوشي أنه يحمل مفاهيم غربية غريبة عن الإسلام، يراها – هو – شرعية إسلامية، وحديثه الطويل عن الديمقراطية وعن كفالة الإسلام للحريات العامة. وعن بعض الأحكام التي يسعى إلى تبديلها، فهي تتناقض مع فكرة الحريات العامة، وفكرة مساواة الرجل بالمرأة كما في الحضارة الغربية، كحكم قتل المرتد وحكم تنصيب المرأة للإمارة يؤكد هذا.
هذه هي منطلقات من يسمون بالمفكرين العصريين: الحضارة الغربية، وعلى أساسها تتغير أو تتطور أحكام الإسلام، فهي مرنة نغير الحكم متى شئنا حسب صالحنا أو عقولنا!!
إذا كانت بعض هذه الأفكار موجودة عند بعض العوام فهي مشكلة يجب علاجها، أما أن تكون عند علماء، فهي مشكلة طاقة وبلاء عظيم. ولا بد من حل هذه المشكلة ولا بد من إزالة هذا البلاء، لا بد من وقف هذا الانحدار والانحطاط، لا بد من السير صعداً والنهضة. فلا بد إذاً من مواجهة هذا التوجه العقيم، الذي يزيد الطين بلة ويزيد الخرق اتساعاً. ولهذا السبب – ليس لغيره – كتبت ما أكتب، وعلى الله قصد السبيل.
إن التأثر بالحضارة الغربية ومفاهيمها عن الحياة هو من دلائل الانحطاط عند المسلمين. وهو من العقبات التي يجب تحطيمها – بلا هوادة ولا تردد – أثناء العمل لنهضة الأمة الإسلامية. والنهضة الإسلامية يستحيل الوصول إليها بغير إحياء العقيدة الإسلامية وما ينبني عليها من أفكار ومفاهيم عن الحياة. وما نلاحظه من محاولات للتوفيق بين حضارة الإسلام وأي حضارة أخرى، لا مصلحة فيه للإسلام أبداً، بل فيه كل الضرر. ومن سماته دائماً تحليل الحرام وتبرير المنكر، وإظهار الانبهار بالغرب ومفاهيمه ونظرياته عن الحياة، وحول الإنسان والقانون. ومن سماته الخجل من بعض أحكام الشريعة الإسلامية، فسبتها إلى التخلف أو الجهل أو الجمود، فترى المدبوغ بثقافة الغرب يصعد جبالاً ويهبط ودياناً ليجد تبريراً لزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-ن ولنا أنه نبي الله ورسوله، وكل ما فعله فهو حق وعدل وصواب. وأمره ونهيه وفعله وتركه مقياس للأوامر والنواهي وللأفعال والتروك. ولا يقاس هو على شيء. ومثل ذلك نفعل في كافة أحكام الإسلام. فهي شريعتنا سواء في الأحكام المتعلقة بالمرأة أو بالعقوبات أو بالجهاد أو غيرها. نأخذهما كما وردت لا نغير ولا نطور ولا نبرر أو نبدل. عن أمر الشرع بخروج المرأة فلتخرج وإن أمر بستر عورتها فلتستر. وإن أمر بقطع والرجم والجلد فهو الحق والعدل، وإن أمر بالقتل وبالسيف وأخذ الجزية فهو الحق، وإن أمر بغير ذلك فالحق ما أمر به الشرع. والشرع هو الشرع الذي جاءنا قبل أكثر أربعة عشر قرناً، ثابت لا يتغير، ومن عاب علينا من ذلك شيئاً فليس منها ومن خجل في ذلك من شيء، فليتعلم معنى العبودية لله بصمت ولا يَجْلِسَنَّ في أمتنا مواضع التنظير والفتوى.
قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .