النقود الإلزامية والنقود في الإسلام
1988/05/18م
المقالات
5,628 زيارة
بقلم: محمد خالد
النقد
كلمة (النقد) في اللغة من الألفاظ المشتركة، وتطلق للدلالة على عدة معان. ورد في لسان العرب: النقد هو خلاف النسيئة وهو أيضاً تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها ويقال نقده الدراهم أي أعطاه إياها ويقال نقد الشيء أي نقره بإصبعه وغير ذلك من المعاني.
والنقد اصطلاحاً هو المعيار المتعارف عليه لتقاس به المنفعة في الأشياء. وبعبارة أخرى: هو وحدة قياس ثمن السلعة وقيمة الخدمات والأجور، بغض النظر أكان هذا النقد معدناً أم غيره، إذ يكفي أن يكون الشيء صالحاً للاستعمال عادة كوسيط للتبادل وكوحدة للحساب، بالإضافة إلى كونه مقبولاً في الوفاء بالالتزامات عند جميع الأفراد، لكي يسمى ذلك الشيء نقداً.
تطور النقد
كان الإنسان ابتداء ينتج من المصادر الطبيعية المباشرة ما يحتاج إليه لاستهلاكه المباشر، ولكن بعد أن توسعت معرفته وشكل مجموعة بشرية، احتاج إلى ما ينتجه غيره، فأصبح يستبدل الفائض عن حاجته من إنتاجه ما يحتاج من إنتاج غيره، فظهر بذلك التبادل بين أفراد المجموعة البشرية، ونظراً لاختلاف الحاجة وتعددها، واتساع رقعة التبادل، أخذت السلع الأساسية التي لا غنى للمجموعة البشرية عنها، أخذت دور الوسيط في التبادل وأصبحت الأشياء الأخرى تقوّم بإحدى هذه السلع. ولما كانت هذه السلع بحد ذاتها سلعاً استهلاكية، ومع الاتساع في رقعة التعامل بين أفراد المجموعة البشرية وبين المجموعات البشرية بعضها مع بعض، ولوجود الصعوبة في التصرف بتلك السلع الأساسية من نقل وتخزين… برزت المعادن النفيسة بروزاً طبيعياً لتفرض نفسها كسلعة وسيطة للتبادل. خاصة أن هذه المعادن وأهمها الفضة والذهب لا تهلك مع مرور الزمن وتمتاز بندرتها النسبية، فللقطع الصغيرة منها قوة شرائية عالية، ولكن لما كان الذهب والفضة ـ وقد أصبحا يشكلان الوسيطين الرئيسين للتبادل ـ لا يوجدان في الطبيعة منفصلين عن الشوائب، ضُربت القطع المعدنية من هذين المعدنين وغيرهما من المعادن بعد تنقيتها من الشوائب وسُكّت بأشكال وأوزان معينة. ومع التطور المستمر في التجارة وحاجة الإنسان إلى الاتصال والتعامل مع شتى التجمعات البشرية المتباعدة، ولتفادي ضياع هذه المسكوكات أو سرقتها أثناء نقلها ظهرت الإيصالات الورقية بين طبقة التجار خاصة، وهي تعهد خطي من شخص إلى شخص آخر بأن يرد الأول للثاني ما استودعه من مال حين المطالبة.
وكان التجار يستعملون هذه الإيصالات لتسوية حساباتهم بأن يوقع المشتري للبائع على ظهر إيصال بحوزة المشتري فيكون بذلك قد نقل ملكية ما لديه من مال محفوظ عند مصدر الإيصال إلى البائع فكانت هذه الإيصالات أوراقاً نائبة عن عين المال الأصلي. ثم تطور التعامل بهذه الإيصالات إلى أن تدخلت الحكومات للإشراف على إصدار الأوراق النائبة، ولمراقبة تلك الفئة من التجار التي بحوزتها إيداعات الناس، وذلك لحماية المودِعين من تلاعب المودَع لديهم. ولكن إصدار هذه الأوراق النائبة لم يغير النظام النقدي، إذ أنه بقي نظاماً معدنياً، وبقيت العملة المعدنية قابلة للتداول، وما الأوراق النائبة إلا ممثل للنقد المعدني لتسهيل عملية التداول.
وحيث لوحظ من المودع لديهم أن الأموال المطلوبة من المودعين في أي وقت لا تزيد عن عشر الأموال المودعة، فوجدوا أن بإمكانهم إصدار أوراق نائبة أكثر من المعدن المودع لديهم وبذلك يمكنهم إقراض هذه الأموال النائبة بنسبة من الفائدة تدر عليهم ربحاً جيداً. وبقي العالم سائراً على النظام المعدني حتى قبيل الحرب العالمية الأولى. ثم مع نشوب الحرب، ولازدياد النفقات الحربية الحكومية لجأت الحكومات إلى الاقتراض من البنوك، فأصدرت البنوك المركزية أوراقاً مالية تفوق بكثير ما لديها من مخزون معدني من ذهب وفضة. ثم صدرت قوانين تعفي البنوك المركزية من تعهدها تبديل الأوراق النقدية بذهب أو بفضة، وبذلك ألغي النظام النقدي المعدني وأصبحت الأوراق النقدية أوراقاً إلزامية تستمد صلاحيتها من القانون، ثم بعد الحرب العالية الأولى رجع العالم إلى النظام المعدني رجوعاً جزئياً ولكن ما لبث أن بدأ استعمال الذهب والفضة بالتقلص حتى ألغي إلغاء كلياً بقطع آخر علاقة للذهب بالنقد الإلزامي، وكان ذلك حين قرر الرئيس الأميركي نيكسون يوم 15/8/1971 إلغاء نظام (بريتون وودز) القاضي بتغطية الدولار بالذهب وربطه به بسعر ثابت.
وظهر نتيجة للتوسع الكبير استعمال الأوراق النقدية إصدار ما ينوب عنها في الاستعمال، وهي الشيكات. وحصل من إيداع هذه الأوراق النقدية لدى البنوك وتكدسها فيها أن أصدرت البنوك نقود الودائع أو النقود الدفترية، وكلها تنوب عن النقود القانونية. إلا أن نقود الودائع غير ملزمة في إبراء الذمة إلا إذا قبلها المستفيد.
النقد في الإسلام
عندما جاء الإسلام أقر الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل العرب بالدنانير الهرقلية الذهبية والدراهم الفارسية الفضية، كما أقر عليه الصلاة والسلام الأوزان التي كانت توزن بها الدنانير والدراهم. عن طاووس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة». وقد أورد عبد القديم زلوم في كتابه “الأموال في دولة الخلافة” في الصفحة 201 ما نصه: (وبقي المسلمون يستعملون الدنانير الهرقلية والدراهم الكسروية على شكلها وضربها وصورها طيلة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وطيلة خلافة أبي بكر الصديق وأيام خلافة عمر الأولى، وفي سنة عشرين من الهجرة، وهي السنة الثامنة من خلافة عمر، ضرب عمر دراهم جديدة على الطراز الساساني وأبقاها على شكلها وأوزانها الكسروية، وأبقى فيها الصور والكتابة البهلوية، وزاد عليها كتابة بعض الكلمات بالحروف العربية الكوفية (بسم الله) و(وبسم الله ربي). واستمر المسلمون في استعمال الدنانير على الطراز البيزنطي والدراهم على الطراز الساساني، مع كتابة بعض الكلمات الإسلامية بالحروف العربية، إلى أيام عبد الملك بن مروان. ففي سنة 75 وقيل 76 من الهجرة ضرب عبد الملك الدراهم وجعلها على طراز إسلامي خاص يحمل نصوصاً إسلامية نقشت على الدراهم بالخط الكوفي بعد أن ترك الطراز الساساني. وفي سنة 77 من الهجرة ضرب الدنانير على طراز إسلامي خاص. ونقش عليها نصوصاً إسلامية بالخط العربي الكوفي وترك الطراز البيزنطي الذي كانت الدنانير عليه. وبعد أن ضرب عبد الملك بن مروان الدراهم والدنانير على طراز إسلامي خاص، صار للمسلمين نقدهم الخاص على طراز إسلامي معين، وتخلوا عن نقد غيرهم).
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر النقد الذي كانت عليه العرب، وصرح بأن الوزن هو وزن أهل مكة، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يفرض أياً من الذهب أو الفضة أو كليهما ليكونا أداة التداول الوحيدة بين الناس، ولا المقياس الوحيد للمنفعة. بل ترك الناس أحراراً ليتبادلوا السلع كما شاءوا، ويتقاضوا الأجور كما شاءوا، فلم يلزمهم بالذهب والفضة دون غيرهما كوسيط للمبادلة بل ترك للإنسان أن يبادل السلعة بالجهد أو بالسلعة أو بالنقد. ولكنه بإقراره للنقد المعتبر عند العرب يكون قد حدد للناس النقود التي تكون المبادلة بها. وبإقراره للأوزان يكون قد حدد مقدار هذه النقود فيكون بذلك قد حدد المقياس النقدي الذي يرجع إليه في قياس السلع والجهود.
وحين ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدرهم الشرعي أبقاه على ما تعارفت عليه العرب من وزن للدرهم، وهو الوزن المتوسط للدراهم الساسانية، ويزن 14 قيراطاً (2,975 غم) وهو نفس وزن الدرهم الإسلامي الذي ضربه عبد الملك بن مروان، وكذلك الدينار الشرعي هو نفس وزن الدينار البيزنطي (السوليدوس) الذي كان متداولاً عند العرب ونفس وزن الدراخما.
والدينار الشرعي يزن مثقالاً من الذهب أي (4,25 غرام). وأيضاً فإن الشرع قد علق أحكاماً شرعية بالذهب والفضة، وبالنظر في هذه الأحكام نجد أنها تشمل الذهب والفضة بصفتهما المعدنية كسلعة لها قيمة، وبصفتهما النقدية، أي كونهما مقياساً للسلع والخدمات. فقد حرم الإسلام كنزهما ولم يحرم كنز غيرهما من الأموال والكنز لا يظهر إلا في الأموال النقدية. أما باقي الأموال فيظهر فيها الاحتكار. كما أن الإسلام عيّن في الذهب والفضة نصاب الزكاة، وعيّن مقدار الدية في الذهب والفضة، وهي عند أهل الذهب ألف دينار وعند أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم. (وفي النفس المؤمنة الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار). وكذلك حين أوجب الإسلام القطع في السرقة عيّن المقدار الذي يناط به حكم القطع وهو ربع دينار من الذهب، وجعل ذلك مقياساً لكل ما يسرق. روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» وكذلك عن ابن عمر: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم»، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن تبادل الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء ويداً بيد وأباح شراء الذهب بالفضة والفضة بالذهب كما نشاء على أن يكون يداً بيد، كما ورد في الصحيحين، علاوة على ذلك فإن أحكام الصرف التي جاء بها الإسلام جاءت بالذهب والفضة وحدهما، والصرف هو مبادلة نقد بنقد أي أنه معاملة نقدية لا غير.
وبذلك يكون الإسلام قد عيّن الأساس النقدي، وهو الذهب والفضة، وقد أباح التبادل بغيرهما إلا أنه جعلهما وحدهما أساس النقد. فكان إقراره إقراراً لهما حسب واقعهما آنذاك. ولم يأمر باتخاذ غيرهما نقداً، ولم يجعل غيرهما مقياساً نقدياً تقاس به السلع والجهود. ولكنه اعتبر الذهب والفضة هما وحدهما المقياس الأساسي لا غير. ومع أن الشارع قد ربط أحكام الدية والزكاة مثلاً بهما وبغيرهما من الأموال فأجار دفع الدية بالإبل وغيرها من الماشية، وبالثياب، وأوجب الزكاة في الماشية وفي الزروع والثمار، وأخذ الجزية من الماشية، ولكنه في اعتباره للنقد لم يتناول غير الذهب والفضة ولم يعتبر بذلك غيرهما من الأموال نقداً. من كل ذلك فهم أن الإسلام يجيز التبادل للجهود والسلع بما نشاء ويجيز اتخاذ الذهب والفضة وغيرهما من الأموال العينية والورقية وسيلة للتبادل. ولكنه يشترط أن يكون الذهب أو الفضة فقط المقياس النقدي، أي هما الأساس الذي يرجع إليه في تقييم النقود. وبعبارة أخرى فإن النقد في الإسلام إما أن يكون قطعاً معدنية من الذهب أو الفضة أو أوراقاً نائبة عن مقدار معين من الذهب أو الفضة. أما النقود الإلزامية المتداولة حالياً في شتى أقطار العالم فإن المقياس النقدي لها هو قوة وهيمنة الجهة المصدرة لهذه النقود وليس لها قيمة ذاتية في ذاتها. كما ليس لها قيمة ثابتة بالنسبة للذهب أو الفضة. فهذا الواقع هو خروج عن الأصل، حسب أحكام الشرع، وخروج عن الأصل أيضاً أساسيات الاقتصاد النقدي. وذلك أن اتخاذ نقد غير نائب عن كمية معينة ثابتة من الأموال العينية المقبولة عند الجميع قابل للاستبدال بها في أي وقت، وتعليق الصلاحية والقوة الشرائية لهذا النقد بين دولة تسيره حسب مصالحها، ما هو إلا وسيلة من أقوى وسائل بسط نفوذ هذه الدولة على بقية شعوب العالم. ولكنه مع ذلك لا يمكن إلا أن يعتبر نقداً لأنه هو مقياس المنفعة الذي اصطلح الناس عليه واعتادوا علي استعماله مقياساً.
فهو واقعاً نقد، وتنطبق عليه الأحكام الشرعية المتعلقة بالنقد، ولكن لتحديد المقدار الشرعي لهذا النقد البديل يجب الرجوع إلى ما اعتبره الشرع نقداً وتقييمه به. فمن يملك مبلغاً من الدولارات مثلاً، وحال عليه الحول يُنظر، فإن كانت لا تساوي 85 غراماً من الذهب (وهو نصاب زكاة الذهب) كما أنها لا تساوي 595 غراماً من الفضة (وهو نصاب زكاة الفضة). ولكن من يملك منها ما يساوي قيمة النصاب ولا يخرج عنها الزكاة بحجة أنها ليست نقداً حقيقياً، إذ أنها ليست ذهباً ولا فضة ولا نائبة عن الذهب أو الفضة، فهو مخطئ. نعم هي ليست نائبة عن الذهب ولا عن الفضة بشكل ثابت ومحدد، أي أنها ليست مربوطة ربطاً ثابتاً بأي منهما ولا بأي سلعة أخرى ولكنها وسيلة لتقييم السلع والمجهودات ومطلوبة من جميع الأفراد ومقبولة في إبراء الذمة لا لذاتها بل لتمتعها بقابلية الاستبدال بأي مال عيني كالذهب والفضة، فهي واقعاً نقد، واصطلاحاً نقد. وبها تقاس الثورة فهي بديلة عن النقد الذهبي والفضي، وحكمها في الزكاة حكم عروض التجارة.
وفي الصرف لا يجوز تبادلها إلا مثلاً بمثل. أما شبهة تبادل الفلوس بزيادة ونقصان فلها واقع آخر. فقد ضربت بعض الفلوس من المعادن الرخيصة كالنحاس والرصاص واستعملت في شراء محقرات الأشياء نظراً لأن الندرة النسبية المتوفرة في الذهب والفضة تجعل قطعهما الصغيرة ذات قوة شرائية عالية. فلو احتاج شخص ما رقعة لكتابة وصيته عليها أو حبلاً يربط به جمله فإن عليه إما استبدال ما يريد بسلعة أخرى قليلة القيمة، أو شراء فوق ما يحتاج، فكان لاتساع الحاجة لمحقرات الأشياء وتعدد الحرف والصناعات أن ضربت مسكوكات رخيصة ذات قوة شرائية منخفضة. وكانت عبارة عن وسيط تبادل رخيص القيمة. واعتبرت في حد ذاتها سلعة لما لها من قيمة ذاتية فيها، وهي كسلعة تتأثر بالعرض والطلب.
ولفهم آراء الفقهاء الذين أباحوا تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة، لا بد من فهم واقع الفلوس التي أباح الفقهاء تبادلها بتفاضل ونسيئة. فقد استدل الفقهاء بأن الفلوس سلعة وإن راجت، وان حديث التحريم لم يشملها، كما استدلوا بعدم تحقيق الثمنية في الفلوس، أي أنها ليست نقداً، واستدلوا بعدم اشتراك الفلوس في علة التحريم، إذ أنها لا موزون ولا مكيل. وذلك أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ـ والفضة بالفضة ـ والبر بالبر ـ والشعير بالشعير ـ والتمر بالتمر ـ والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»، «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر كيف شئنا إذا كان يداً بيد» حين تناوله الفقهاء، في رواياته المتعددة اختلفت افهامهم له، فمنهم من قال إن القمح والشعير والذهب إلخ هي أسماء جامدة غير مفهمة للعلية، فهي ليست وصفاً مفهماً كقوله صلى الله عليه وسلم: «في الغنم السائبة زكاة» وعليه لا وجه للتعليل فيقتصر التحريم على الأصناف الستة: فالنحاس والرصاص وغيرهما من المعادن مضروبة أم غير مضروبة لا يشملها التحريم، فهي سلعة كباقي السلع، كما أنها ليست نقداً فلا تأخذ حكم النقد.
وبعض الفقهاء بحث عن العلة في التحريم، فمنهم من قال إنها ـ أي العلة ـ موجودة في الوزن والكيل، فقاسوا على ذلك كل مكيل وموزون ومنهم من خصص المكيل بالطعام وهكذا نظر لتعدد الافهام للغة والنص. لذلك تناول الفقهاء موضوع إباحة تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة من زوايا متعددة كل حسب فهمه المبني على اللغة والنص. ويظهر ذلك باستعراض مختصر لبعض آراء الفقهاء، فعند الأحناف الذهب والفضة هما أثمان خلقة، أما الفلوس فليست كذلك. وعند الشافعية علة التحريم هي تمتع الذهب والفضة بالثمنية الغالبة والفلوس تنتفي فيها الثمنية الغالبة. وعند الحنابلة العلة في التحريم هي الوزن والثمنية، والفلوس لا تُتَبادل وزناً، وتنتفي فيها الثمنية الغالبة. وعند المالكية الفلوس ليست كالدنانير والدراهم ولا بمنزلتها. قال الإمام النووي في روضة الطالبين: (النقد بالنقد، أي الذهب والفضة مضروباً وغير مضروب كطعام بطعام. ولا ربا في الفلوس الرائجة)، فهنا لم يعتبر الإمام النووي الفلوس نقداً ويؤيد ذلك قوله: (الصحيح أنه لا ربا في الفلوس ولو راجت لانتفاء الثمنية الغالبة).
ومفهوم القول هذا أنه لو توفرت الثمنية الغالبة لكان تبادل الفلوس بتفاضل ربا. وفي المغني لابن قدامة: (الراجح جواز بيع الفلس بالفلسين، لأنه لا مكيل ولا موزون) وفي نيل المأرب: (لا يجري الربا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن، غير الذهب والفضة).
مما سبق من استعراض لآراء الفقهاء نجد أن الإباحة في تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة مبنية على انتفاء علة التحريم في الفلوس من كيل ووزن عند من علّل، وعلى انتفاء النقدية أيضاً عند من علّل وعند من لم يعلّل، وعلى كون الفلوس من العروض أي السلع التجارية. ولا نجد رأياً واحداً أباح تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة مع اعتبارها نقداً أو بديلاً للنقد علاوة على اعتبارها أساساً نقدياً. ونحن إذ نسترشد بآراء الفقهاء الأفاضل يجب علينا أن نتبين كيف استنبط الفقهاء آراءهم. فكانوا رضوان الله عليهم قبل أن يبدي أحدهم رأيه في المسألة، يفهم واقع المسألة، ثم يطبق النص عليه لكون النص قد عالج مسألة مماثلة أو مشابهة. وبذلك نكون قد فهمنا الواقع الذي عالجه الفقهاء وكيفية استنباطهم للرأي. ونكون قد احتطنا من أن نخلط بين واقع وواقع آخر يغايره لمجرد وجود شبهة في اللفظ، علاوة على ذلك فإن آراء الفقهاء ليست من الدلالة الشرعية رغم ما لهم من منزلة كريمة، بل هي نماذج من الآراء الفقهية التي تنير لنا الطريق لفهم الأحكام الشرعية فهماً سليماً.
نعم إن الذهب والفضة يجب أن يكونا الأساس النقدي للمسلمين خاصة، وللعالم أجمع، لأن ما يعانيه المسلمون والعالم من الاستعمار الاقتصادي، نظراً لتحكم العملات الإلزامية، لا يقل عن المعاناة تحت الاستعمار العسكري، علاوة على أن الحكم الشرعي هو أن يكون الذهب والفضة أساساً لتقييم النقود. وعدم كون النقد ذهباً أو فضة أو نائباً عن الذهب والفضة أو عن أموال عينية أخرى لها قيم ثابتة أو شبة ثابتة عند المجموعات البشرية، ليس إلا وسيلة بسط نفوذ اقتصادي وسياسي وهذا لا يخرج النقد البديل عن كونه نقداً، واقعاً وعرفاً. وعليه تنطبق على هذا النقد كل الأحكام الشرعية المحددة لكيفية التعامل بالنقد، أي الأحكام الشرعية لمتعلقة بالذهب والفضة بصفتهما النقدية. إذ أن الأحكام الشرعية تناولت الذهب والفضة، لا كسلعة فيها منفعة فحسب، بل كنقد أيضاً. وكي يحتاط المسلم لدينه، عليه حين إخراج زكاته أو دفع أي دية وجبت عليه أن يقوّم نصاب الزكاة ومقدار الدية الشرعيين بما يملك من النقد الحالي، فالدية شرعاً هي ألف دينا من الذهب أي (4250 غم) وتساوي الآن ما مقداره ستون ألف دولار تقريباً.
والله وراء القصد.
مراجع البحث ـ بعد كتاب الله وكتب الحديث:
1- كتاب الأموال في دولة الخلافة (لعبد القديم زلوم 1983).
2- كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام (لتقي الدين النبهاني 1953).
3- كتاب اقتصاديات النقود والبنوك (لعبد الهادي سويفي 1980).
1988-05-18