الرعاية الصحية في دولة الخلافة (5)
2010/06/18م
المقالات
2,321 زيارة
الرعاية الصحية في دولة الخلافة (5)
الصحة الفردية: 2- العِلاجُ
أَمَرَ الرَّسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمينَ بالتَّداوي على وجهِ النَّدْبِ، وأَعْلَمَهُمْ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ما أنزلَ داءً إلا وأنزلَ لهُ شفاءً وعلاجًا، سواءَ توصَّلَ الإنسانُ إلى هذا العلاجِ أمْ لمْ يَصِلْ بعدُ إليهِ، وإذا لاءَمَ الدواءُ الداءَ بَرِئَ المريضُ بإذْنِ اللهِ، وفي هذا حَثٌّ للإنسانِ على السَّعْيِ للتداوي وتحصيلِ البُرْءِ بإذنهِ سبحانه وتعالى الذي خلقَ في الدواءِ خاصيةَ الشفاءِ. قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ: “لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”، وفي حديثِ أسامةَ بنِ شريكٍ رَفَعَهُ: “تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ”، أخرجهُ أحمدُ والبخاريُّ في “الأدبِ المفردِ” والأربعةُ وصحَّحَهُ الترمذيُّ وابنُ خزيمةَ والحاكمُ. ولذلكَ فإنَّ في الطبِّ خيرًا وإنْ كانَ المرضُ منهُ سبحانه وتعالى، لأنَّ العلاجَ منهُ سبحانه وتعالى كذلكَ، فقدْ روى الإمامُ مالكٌ في المُوَطَإِ حديثًا مُرْسلاً عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلاً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ لَهُمَا: “أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟” فَقَالا: “أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟” فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: “أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ”.
كما أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) تَلَقَّى العلاجَ في مرضِهِ آخِرَ حياتِهِ، روى الإمامُ أحمدُ في مسندِهِ عنْ عائشةَ (رضي الله عنها) أنها قَالَتْ: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْعَتُ لَهُ الأَنْعَاتَ وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ”، وَالحَدِيثُ حَسَّنَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ.
أما لماذا كانَ أمرُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتداوي في الأحاديثِ على وجهِ النَّدْبِ وليسَ الوجوبِ، فلأنهُ لمْ تَرِدْ في الأحاديثِ قرينةٌ تَدُلُّ على الجزمِ في الأمرِ وأنهُ للوجوبِ، ومجردُ الأمرِ بالتداوي في الأحاديثِ لا يفيدُ الوجوبَ إلا بقرينةٍ، وهوَ هُنا لا يفيدُ إلا الندبَ لأنَّ هذهِ الأحاديثِ ليستْ إلا مجردَ إخبارٍ بأنَّ لكُلِ داءٍ دواءً، وإرشادٌ إلى التماسِ الدواءِ لتحصيلِ الشفاءِ. كما أنهُ وردتْ أحاديثُ أخرى دَلَّتْ على جوازِ تركِ التداوي، كقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ”، قَالُوا: “وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟”، قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”، رواهُ مسلمٌ. وَتَرْكُ الرُّقْيَةِ وَالكَيِّ هوَ تركٌ للتداوي، لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ”، رواهُ البخاريُّ. ومعَ ذلكَ أخبرَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهمْ يدخلونَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، لتركهِمْ الأمرَ لربهمْ وَتَوَّكُلِهِمْ عليهِ في كلِّ أمورِهِمْ. وفي حديثٍ آخرَ عندَ البخاريِّ أنَّ ابنَ عباسٍ (رضي الله عنه) قالَ لعطاءٍ بنِ أَبي رَبَاحٍ: “أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟”، قالَ عطاءٌ: “بَلَى”، قَالَ (رضي الله عنه): “هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي. قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا”. ويدُلُّ تخييرُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) للمرأةِ بينَ الصبرِ على الصرعِ مقابلَ الجنةِ، وأنْ يدعوَ اللهَ لها أنْ يعافِيَها منَ الصرعِ، على جوازِ تركِ التداوي. ولشدةِ حَثِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوي كانَ الأمرُ بالتداوي في الأحاديثِ السابقَةِ مُفيدًا للنَّدْبِ وليسَ مُجَرَدَ الإباحَةِ.
هذا بالنسبةِ للتداوي وطلبِ العلاجِ، أما بالنسبةِ لتوفيرِ العلاجِ للرعيةِ فهوَ فرضٌ على الدولةِ للأدلةِ التي سُقْناها سابقًا على فرضيةِ الرعايةِ الصحيةِ، حيثُ إنَّ العلاجَ جُزْءٌ منَ الرعايةِ الصحيةِ.
ويشملُ ما على الدولةِ توفيرهُ لرعيتِها منْ علاجٍ وتوابِعِهِ، الأمورَ التاليةَ:
أ) التَّطْبِيبُ وَالتَّمْرِيضُ وَالدَّوَاءُ: الطِّبُّ علاجُ الجسمِ والنفسِ، والطَّبيبُ في الأَصلِ: الحاذقُ بالأُمورِ، العارفُ بها، وبهِ سُمِّيَ الطبيبُ الذي يُعالجُ المَرْضى. جاءَ في مسندِ الإمامِ أحمدَ عنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ قالَ: “انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلامٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَقَالَ لَهُ أَبِي: إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ، فَأَرِنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي بِظَهْرِكَ (ويقصدُ خاتمَ النُبُوَّةِ)، قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): وَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟، قَالَ: أَقْطَعُهَا. قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): لَسْتَ بِطَبِيبٍ، وَلَكِنَّكَ رَفِيقٌ، طَبِيبُهَا الَّذِي وَضَعَهَا (وَقَالَ غَيْرُهُ الَّذِي خَلَقَهَا)”. والحديثُ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر، ومعنى قولهِ لستَ بطبيبٍ ولكنكَ رفيقٌ أيْ أنتَ ترفقُ بالمريضِ وتتلطفُهُ واللهُ هوَ يبرئُهُ ويعافيهِ.
وقدْ أَمَرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سعدَ بنَ أبي رَافِعٍ (رضي الله عنه) حينَ مَرِضَ أنْ يأْتِيَ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ الثقفيِّ المُلَقَّبِ بطبيبِ العربِ ليعالجَهُ. روى الطبرانيُّ في المُعْجَمِ الكَبِيرِ عنْ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي رَافِعٍ (رضي الله عنه) قالَ: “دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي، فَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْؤُودٌ، فَائْتِ الْحَارِثَ بنَ كَلَدَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ، فَلْيَأْخُذْ خَمْسَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلْيَجَأْهُنَّ بنوَاهُنَّ، ثُمَّ لِيَدْلُكَ بِهِنَّ”، وَقالَ الهَيْثَمِيُّ في مجمعِ الزوائدِ عنْ هذا الحديثِ: “فيهِ يونُسُ بنُ الحَجَّاجِ الثَّقَفِيُّ وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجالِهِ ثِقاتٌ”، وَيونسُ هذا قالَ عَنْهُ ابنُ حَجَرٍ في تَهْذيبِ التَّهْذِيبِ إِنَّهُ ثِقَةٌ، وَعَلَيْهِ فَجَميعُ رِجالِ الحَديثِ ثِقاتٌ. وَرَوَى أحمدُ في مُسْنَدِهِ وَصَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ، أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَادَ رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلانٍ”، فَدَعَوْهُ فَجَاءَ، فَقَالُوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟”، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأَرْضِ إِلا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً؟”.
ومنَ العلاجِ أيضًا الحِمْيَةُ، فعنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبِ الْكِنْدِيِّ عندَ أحمدَ والترمذيِّ مرفوعًا: “مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثُ طَعَامٍ، وَثُلُثُ شَرَابٍ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ”، صَحَّحَهُ الألبانيُّ وَالحاكِمُ ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَرَوَى أَبو داودَ وَابنُ ماجةَ وَأَحمدُ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رضي الله عنه)، وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ، وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَأْكُلُ مِنْهَا، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ (رضي الله عنه) لِيَأْكُلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): “مَهْ يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ نَاقِهٌ!”، قَالَتْ: فَصَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سِلْقًا وَشَعِيرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): “يَا عَلِيُّ، مِنْ هَذَا فَأَصِبْ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لَكَ”، والحديثُ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقدْ حَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) مَرِيضًا فَقَالَ المريضُ: “حَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَى مِنْ الْجُوعِ”، ذَكَرَهُ الإمامُ مالكٌ في الموطإِ.
وَمِنَ العلاجِ أيضًا الجراحةُ والكيُّ، روى الإمامُ مسلمٌ عنْ جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ: “رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)“، وأُبَيٌّ هذا هوَ أُبَيٌّ بنُ كعبٍ (رضي الله عنه)، والأَكْحَلُ عِرْقٌ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ.
ومنَ العلاجِ أيضًا الحجامةُ، لما روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: “الشِّفَاءُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ”. وروى البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قالَ: “دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ”. أما الجمعُ بينَ الأحاديثِ التي نهتْ عنِ الكيِّ كحديث ابنِ عباسٍ وسعيدٍ بنِ جُبَيْرٍ (رضي الله عنهما) السابقِ وحديثِ جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ عنْ كَيِّ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُبَيًّا يومَ الأحزابِ، فيكونُ بأنَّ النهيَ عنِ الكَيِّ يدلُّ على كراهَتِهِ، وأحاديثُ فعلِهِ تدُلُّ على جوازِهِ إذا احتاجَ إليهِ.
أما علاجُ الأمراضِ العقليةِ، فقدْ عَرَفَهُ العربُ قبلَ الإسلامِ، وكانَ هنالكَ منْ يمارسُ علاجَ الجنونِ، كضِمَادِ الأَزْدِيِّ. ولما جاءَ الإسلامُ أَقَرَّ علاجَ الأمراضِ العقليةِ، وأَقَرَّ منْ تقاضَى أجْرًا على ذلكَ ما لمْ يستخدمِ (الرُّقَى والعِلاجاتِ) المحتويةِ على شِرْكٍ.
وأما إقرارُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ عالجَ الجنونَ ومنْ تقاضَى أجرًا على مُداواةِ أمراضِ العقولِ، فقدْ رَوى أبو داودَ بسندٍ صَحَّحَهُ الحاكِمُ والألبانِيُّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ التَّمِيمِيِّ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ أَهْلُهُ: “إِنَّا حُدِّثْنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ، فَهَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُدَاوِيهِ؟”، فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ فَأَعْطَوْنِي مِائَةَ شَاةٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: “هَلْ إِلا هَذَا؟” وَقَالَ مُسَدَّدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: “هَلْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا؟” قُلْتُ: “لا”، قَالَ: “خُذْهَا فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ”. وروى الترمذيُّ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: “شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ”، قَالَ: “فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ السَّيْفَ فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً كُنْتُ أَرْقِي بِهَا الْمَجَانِينَ، فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا وَحَبْسِ بَعْضِهَا”. أَيْ أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمَرَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ كَلِمَاتِ الرقية الَّتِي تُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ: وَإِبْقَاءِ بَعْضِهَا الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
ولا يعني ذكرُ هذهِ الأصنافِ منْ علاجِ الأمراضِ البدنيةِ والعقليةِ في السُّنَّةِ والآثارِ حَصْرَ العلاجِ والتداوي بها، لأنَّ الأمرَ بالتداوي في الحديثِ الشريفِ جاءَ عامًّا لِكُلِّ ما ينطبقُ عليهِ لفظُ التداوي، ومنهُ العلاجُ بالأشعةِ أوِ الدُّهونِ والعقاقيرِ وغيرِها مما توصَّلَ إليهِ العلمُ الحديثُ أوْ سَيَتَوَصَّلُ إليهِ مُستقبلاً، وما ذَكَرَتْهُ السُّنةُ والآثارُ هوَ بعضُ العلاجِ الذي كانَ معروفًا في عَهْدِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعَهْدِ صحابَتِهِ (رضي الله عنهم). وليسَ بالضرورةِ أنْ يكونَ العلاجُ الذي وصفَهُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديثِ هوَ العلاجُ الأَمْثَلُ لِمَرَضٍ مُعَيَّنٍ، بلْ قَدْ لا يُصيبُ الدَّواءُ الموصوفُ في الحديثِ الشريفِ الداءَ ويصيبُهُ دواءٌ آخرُ توصَّلَ إليهِ العلمُ الحديثُ مثلاً. وذلكَ لأنَّ العلاجَ والأدويةَ هيَ منْ أمورُ الدُّنْيا التي أخبرنَا الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أننا أخْبَرُ بها، فقدْ روى الإمامُ مسلمٌ عنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: “قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ (يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ) فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟، قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ“. وفي روايةٍ أخرى عند الإمامِ مسلمٍ أنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ لهمْ: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ“. كما أنَّ الحُبابَ بنَ المُنْذِرِ قالَ في سياقِ غزوةِ بدرٍ: “يَا رَسُولَ اللّهِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟”. قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ“. فَقَالَ: “يَا رَسُولَ اللّهِ، فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ”، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ“.
فهذهِ الأحاديثُ تُخَصِّصُ الوحيَ فيما يُبَلِّغُهُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنِ اللهِ منْ تشريعٍ وغيرِهِ منَ الأحكامِ والعقائدِ والأفكارِ والقصصِ، ولا يشملُ الوحيُ الأساليبَ والوسائلَ وأمورَ الدنيا، منْ أعمالِ الزراعةِ والصناعةِ والعلومِ وَمِنْها الطِّبُّ والعلاجُ والأدويةُ. ثمَّ إِنَّ الوحيَ موضوعهُ الإنذارُ، أيِ التشريعِ والأحكامِ، قالَ سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء 45]، وقالَ سبحانه وتعالى: (إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [ص 70]، وهذهِ الآياتُ الكريمةُ تُبَيِّنُ أنَّ المرادَ هوَ ما أتى بهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) منَ العقائدِ والأحكامِ وَكُلِّ ما أُمِرَ بتبليغهِ والإنذارِ بهِ، دونَ الوسائلِ والأساليبِ وما شابهها منَ العلومِ الطبيةِ.
يَقُولُ الخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ “أَعْلامُ الحَدِيثِ في شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ”: “إِذَا تَأَمَّلْتَ أَكْثَرَ مَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنَ الدَّوَاءِ، فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ العَرَبِ، إِلاَّ مَا خُصَّ بِهِ مِنَ العِلْمِ النَّبَوِيِّ الذِي طَرِيقُهُ الوَحْيُ، فَإِنَّ ذلِكَ فَوْقَ مَا يُدْرِكُهُ الأَطِبَّاءُ أَوْ يُحِيطُ بِحُكْمِهِ الحُكَمَاءُ وَالأَلِبَّاءُ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ تِلْكَ الأَشْفِيَةِ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ وَتَعْوِيذِهِ وَنَفْثِهِ، وَكُلُّ مَا قَالَهُ مِنْ ذلِكَ وَفِعْلُهُ صَوَابٌ وَحَسَنٌ جَمِيلٌ بِعِصْمَةِ اللهِ إِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ إِلاَّ صِدْقًا وَأَنْ يَفْعَلَ إِلاَّ حَقًّا”. انْتَهَى.
أما التَّمْرِيضُ فهوَ حُسْنُ القِيامِ على المريضِ، ويشملُ التمريضُ تعزيزَ الصحةِ والوقايةَ منَ المرضِ، ورعايةَ المرضى والمُعَوَّقينَ والمُحْتَضَرينَ أوِ الجَرْحَى في ساحاتِ الجهادِ.
وكانتِ النِّساءُ في زمَنِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُمْنَ بوظيفةِ التمريضِ في المعاركِ وساحاتِ الجهادِ، فقدْ ذكرَ الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ عنِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنه) أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يَغْزُو بِالنساءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وفي صحيحِ البخاريِّ عنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ“، وفي الطبقاتِ الكُبرى لابنِ سَعْدٍ وَالمَغازِي لِلْواقِدِيِّ عَنْ أُمِّ سِنَانٍ الأسْلَمِيَّةِ قالتْ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الخروجَ إلى خيبرَ جئتُهُ فقُلْتُ: “يا رسولَ اللهِ، أَخْرُجُ مَعَكَ في وَجْهِكَ هذا أَخْرِزُ السِّقَاءَ، وَأُداوي المَريضَ وَالجَريحَ إنْ كانتْ جِراحٌ، ولا تَكونُ، وَأَنْظُرُ الرَّحْلَ.” فقالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “اخْرُجي على بركةِ اللهِ، فإنَّ لكِ صواحبُ قدْ كَلَّمْنَنِي وَأَذِنْتُ لَهُنَّ مِنْ قَوْمِكِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ شِئْتِ فَمَعَ قَوْمِكِ وَإِنْ شِئْتِ فَمَعَنَا.” قُلْتُ: “مَعَكَ”. قالَ: “فَكُونِي مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَتِي.” قالَتْ: “فَكُنْتُ مَعَهَا”، والواقديُّ في المغازي مقبولٌ وإنْ ضَعَّفُوهُ في الحديثِ.
ويُفْهَمُ مِنَ الأحاديثِ السَّابِقَةِ جَوازُ مُدَاوَاةِ المرأةِ للرَّجُلِ الأجنبيِّ أوْ تمريضِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ هذهِ الضرورةُ بِقَدْرِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ وَالْجَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ويُقاسُ على ذلكَ جَوازُ مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ الأجنبيةَ أوْ تمريضِها.
ب) المساعدةُ خلالَ فترةِ التَّعافِي: منْ حُسْنِ رِعايَةِ المريضِ أنْ لا يُجهدَ نفسَهُ في فترةِ تعافيهِ حتى يستردَّ عافيتَهُ كاملةً، فلا يُكلَّفُ في هذهِ الفترةِ مشقَةً ولا جُهْدًا يُضْعِفُهُ. ولذلكَ تُوَّفِرُ الدولةُ للنَّاقِهِ ما يلزمُهُ منْ مالٍ، إن لم يكن لديه مال، خلالَ فترةِ نقاهتِهِ التي يُحَدِّدُ الأطباءُ طولهَا حتى لا يُجهدَ نفسَهُ في السَّعْيِ طلبًا للرزقِ.
ج) توفيرُ الخدمةِ والمساعدةِ للمعاقينَ والعجَزَةِ والمُصابينَ (المجانينِ): يَتَوَلَّى أقاربُ المعاقينَ والعجزَةِ والمُصابينَ منْ ذوي الرحمِ المحرَّمِ في الدولةِ الإسلاميةِ نفقةَ هؤلاءِ المحتاجينَ، والمقصودُ بالنفقةِ تحديدًا هيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ. وتُحَصِّلُ الدولةُ الإسلاميةُ هذهِ النفقةَ جَبْرًا ممنْ فُرِضَتْ عليهِ.
أما العجزةُ والمعاقونَ والمُصابونَ الذينَ لا رَحِمَ مُحَرَّمَةَ لهمْ، أوْ كانَتْ رحمُهُمْ المحرمةُ عاجزةً عنْ الإنفاقِ، فقدْ أوجبَ الشرعُ النفقةَ عليهمْ منْ بيتِ المالِ أيْ أوجبَها على الدولَةِ، روى الإمامُ مسلمٌ عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِلْوَرَثَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلاً فَإِلَيْنَا”، وَالكَلُّ الضعيفُ الذي لا وَلَدَ لَهُ وَلا والِدَ. وعنْ أبي هريرةَ عندَ الإمامِ مسلمٍ أيضًا عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلاهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالاً فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ”، وقالَ الخطابيُّ في شرحِ هذا الحديثِ عنِ الضَّيَاعِ: “وهوَ وَصْفٌ لمنْ خلفهُ الميتُ بلفظِ المَصْدَرِ، أيْ تركَ ذوي ضَيَاعٍ، أيْ لا شيءَ لهمْ”. فهذا دليلٌ على أنَّ النفقةَ لهؤلاءِ واجبةٌ على الدولةِ.
أما ما يحتاجُهُ المُعاقونَ والعجزةُ منْ مُعَدَّاتٍ أَوْ أجهزةٍ أوْ خدماتٍ تُعينُهُمْ في عَجْزِهِمْ وتُخَفِّفُ منْ إِعاقَتِهِمْ كَكَرَاسِي العجلاتِ أوِ العكازاتِ أوْ أجهزةِ السَّمْعِ، فَعَلى الدولةِ أنْ تُوَفِّرَهَا لهمْ، لأنَّها تدخلُ في الضروراتِ التي يُسَبِّبُ نقصُها ضررًا بمنْ يحتاجُها، والضَّررُ حرامٌ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): “لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ”، رواهُ الدارقطنيُّ وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ. كما أنَّ هذهِ المعدَّاتِ والخدماتِ تدخلُ ضمنَ التطبيبِ لأنَّ الهدفَ منْهَا هوَ علاجُ العجزِ الناتِجِ عنْ فُقْدانِ عُضْوٍ مَنَ الجسمِ أوِ اختلالِ وظيفَتِهِ، والتطبيبُ كما ذَكَرْنَا سابقًا واجبٌ على الدولةِ تجاهَ رَعِيَّتِهَا.
كمَا وتُنْشِئُ الدولةُ الإسلاميةُ ما يلزمُ منْ دُورِ رعايةٍ للمعاقينَ عقليًا أوْ بدنيًا ممنْ لا يستطيعُ ذَوُوهُمْ القيامَ برعايتِهِمْ بسببِ شدةِ إعاقتهِمْ واحتياجهِمْ إلى رعايةٍ خاصَّةٍ، أوْ ممنْ قدْ يَتَسَبَّبُونَ بالضررِ لذويهمْ أوْ الجماعةِ إذا لمْ يتمَّ عزلهُمْ ومراقبتُهُمْ. وعلى الدولةِ أنْ تهتمَّ بأنْ تكونَ دُورُ الرعايةِ هذهِ مُجَهَّزَةً بما يحتاجُهُ هؤلاءِ المعاقونَ وأنْ تكونَ معاملتهمْ ورعايتهمْ فيها رعايةً حَسَنَةً.
وقدْ خَفَّفَ الشَّرْعُ عنْ ذوي العاهاتِ والإعاقاتِ، ولمْ يُكَلِّفِ الشَّارعُ نَفْسًا إلا وُسْعَها، فقالَ سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة 286]، وقالَ سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) [الطلاق 7]. ومنْ رحمةِ اللهِ سبحانه وتعالى بِذَوِي الاحتياجاتِ الخاصةِ مُراعاةُ الشريعةِ لهمْ في كثيرٍ منَ الأحكامِ التكليفيةِ، والتيسيرِ عليهمْ وَرَفْعِ الحَرَجِ عنهمْ، فقدْ روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ زيدٍ بنِ ثابتَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمْلَى عَلَيْهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ. وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ). وقالَ سبحانه وتعالى مُخَفِّفًا عنْ ذوي الاحتياجاتِ الخاصةِ: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح 17]. ومنْ ذلكَ ما رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ عنِ امْرَأَةٍ مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): “فَحُجِّي عَنْهُ”. كما أَعْفَى الإسلامُ المُصابينَ وذوي الإعاقةِ العقليةِ منَ التكاليفِ الشَّرْعِيَّةِ، وجعلَ العقلَ مناطَ التكليفِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) مَرْفُوعًا: “رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل”، والحديثُ أخرجهُ أبو داودَ والحاكمُ وقالَ: حديثٌ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ.
وحثَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمينَ على إعانةِ الضعفاءِ وعدمِ الاستهتارِ بهمْ، فقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟” رواهُ البخاريُّ. وروى أبو داودَ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): “إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ”، حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وحذَّرَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أشدَّ التحذيرِ منْ إيذاءِ المُعاقينَ وأصحابِ العَجْزِ واستغلالِ ضَعْفِهِمْ، فقدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر أَنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: “مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ”، وروى الترمذيُّ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرَ كَبِيرَنَا”. وَقدْ عَنَّفَ (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذَ بنَ جبلٍ (رضي الله عنه) لَمَّا صَلَّى إِمامًا فأطالَ فَشَقَّ على المأمومينَ، قائلاً كما روى البخاريُّ: “يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (أَوْ أَفَاتِنٌ) ثَلاثَ مِرَارٍ، فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ”.
واهتمَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤهُ منْ بعدِهِ بالمُعاقينَ والعجزَةِ والمُصابينَ، حتى إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقف مع هؤلاء وأمثالهم ويقضي حاجتهم ويشفق عليهم، فقدْ روى مسلمٌ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً”، فَقَالَ: “يَا أُمَّ فُلانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ“.
وقالَ صاحبُ عونِ المعبودِ في شرحِ الحديثِ: “(كَانَ فِي عَقْلهَا شَيْء) أَيْ مِنْ الْفُتُورِ وَالنُّقْصَانِ، بَيَانًا لِلْوَاقِعِ وَإِشَارَة إِلَى سَبَب شَفَقَتِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَرِعَايَةِ جَانِبِهَا”.
ومنْ ذلكَ ما أخرجهُ ابنُ عساكرَ عنْ أبي صالحٍ الغفاريِّ: أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) كانَ يَتَعَهَدُ عجوزاً كبيرةًً عمياءَ في بعضِ حواشي المدينةِ منَ الليلِ فيسقي لها وَيَقُومُ بأمرِها، فكانَ إذا جاءَها وَجَدَ غيرَهُ قدْ سبقَهُ إليها فأصلَحَ ما أرادَتْ، فجاءَها غيرَ مرةٍ كيلا يُسْبَقَ إليْها، فَرَصَدَهُ عمرُ فإذا هوَ بأبي بكرٍ (رضي الله عنه) الذي يأتيها وهوَ يومئذٍ خليفةٌ، فقالَ عمرُ (رضي الله عنه) أنتَ هوَ لعمري. ولمْ يُنكرْ عمرُ (رضي الله عنه) على أبي بكرٍ (رضي الله عنه) انشغالَهُ بشأنِ العجوزِ العمياءِ رغمَ أنهُ الخليفةُ والأصلُ أنْ يكونَ شغلُهُ الشاغلُ هوَ مصالحُ المسلمينَ، لأنَّ رعايةَ شؤونِ العجزةِ وذوي الاحتياجاتِ الخاصةِ منْ واجباتِ الدولةِ والخليفةِ. بينما نرى أَنَّ عمرَ (رضي الله عنه) لمْ يرضَ أَنْ يبيعَ أبو بكرٍ (رضي الله عنه) الثيابَ ليُعيلَ عيالَهُ لِئَلا ينشغلَ عنْ مصالحَ المسلمينَ، فقدْ رَوَى اِبْن سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَ: “لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْر (رضي الله عنه) أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوق عَلَى رَأْسه أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا، فَلَقِيَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاحِ (رضي الله عنهما) فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ وُلِّيت أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ قَالُوا: نَفْرِض لَك، فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ شَطْرَ شَاةٍ”. كما أنَّ أبا بكرٍ نفسَهُ (رضي الله عنه) وافقَ على تركِ عملِهِ في بيعِ الثيابِ حتى لا ينشغلَ عنْ رعايةِ شؤونِ الناسِ، بينما لزِمَ القيامَ على أمرِ العجوزِ رغمَ ما يَتَطَلَّبُهُ ذلكَ منْ وقتٍ وجُهْدٍ، كما روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: “لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ”. وفي هذا دلالةٌ على أنَّ رعايةَ شؤونِ العجزةِ والمعاقينَ واجبٌ على الخليفةِ والدولةِ.
وذكرَ ابنُ الجوزيِّ في كتابِهِ “سيرةُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ” منْ خَبَرِ الحَكَمِ بنِ عُمَرَ الرُّعَيْنِيُّ أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ (رضي الله عنه) كَتَبَ إلى أمصارِ الشامِ أَنْ ارفعوا إليَّ كلَّ أعمى في الديوانِ أوْ مُقْعَدٍ أوْ منْ بهِ فالجٌ أو منْ بهِ زِمانَةٌ تحولُ بينَهُ وبينَ القيامِ إلى الصلاةِ، فَرَفَعُوا إليهِ، فأمرَ لكُلِّ أعمى بقائدٍ وأمرَ لكُلِّ اثنينِ منَ الزَّمْنَى بخادِمٍ. وكذلكَ الخليفةُ الأمويُّ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ، فقدْ ذكرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ عنْ ابنِ جريرٍ: “حَدَّثَني عمرُ ثنا عليٌّ – يعني ابنُ محمدٍ المدائنيِّ – قالَ: كانَ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ عندَ أهلِ الشامِ أفضلَ خلائِفَهُمْ، بنى المساجدَ بدمشقَ، ووضعَ المنائِرَ، وأعطى الناسَ، وأعطى المجذومينَ، وقالَ لهمْ: لا تَسْأَلُوا الناسَ، وأعطى كلَّ مُقْعَدٍ خادمًا، وكلَّ ضريرٍ قائدًا” انتهى.
وأما بيمارستاناتُ (مستشفياتُ) الأمراضِ العقليةِ، فقدْ تأسستْ في زمنِ الأمويينَ للعنايةِ بالذينَ أصابَهُمْ جنون أو اعتراهُمْ ضَعْفٌ عقليٌّ، وكانَ المسلمونَ يعتبرونَ المعتوهينَ مُعْدَمِينَ وعالَةً على إحسانِ الدولةِ، لأنَّ إصابَتَهُمْ بقضاءٍ منَ اللهِ وقَدَرِهِ. وقدْ جاءَ في صَكِّ الأوقافِ التي حُبِسَ ريعُها لصالحِ المستشفى النُّورِيِّ أوِ العتيقِ بِحَلَبٍ أنَّ كلَّ مجنونٍ يُخَصُّ بخادمينِ فينـزعانِ عنهُ ثيابَهُ كلَّ صباحٍ، وَيُحَمِّمَانِهِ بالماءِ الباردِ، ثُمَّ يُلْبِسانِهِ ثيابًا نظيفةً ويحملانِهِ على أَداءِ الصلاةِ، ويُسْمِعانِهِ قراءَةَ القرآنِ يَقْرَؤُهُ رَجُلٌ حسنُ الصوتِ، ثمَّ يُفَسِّحَانِهِ في الهواءِ الطَّلْقِ.
2010-06-18