فبهداهم اقتده: هكذا سيكون خلفاؤنا: « عمر بن عبد العزيز»
2010/07/17م
المقالات
3,853 زيارة
فبهداهم اقتده:
هكذا سيكون خلفاؤنا: « عمر بن عبد العزيز»
أم محمد الخطيب – فلسطين
قبل الخلافة
ولد عمر بن عبد العزيز سنة ثلاث وستين للهجرة وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس, أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر الخطاب ويكنى أبا حفص، وقيل إنه لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح فتزوج أم عمر بن عبد العزيز، وكان اسمها أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب الذي تزوج الفتاة التي لم تقبل أن تضيف الماء على الحليب عندما أمرتها أمها بذلك وقالت لأمها: إذا كان عمر لا يرانا فان الله يرانا, فسمعها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وأمر أبناءه أن يتزوجها أحدهم لأمانتها فتزوجها عاصم.
ولقد شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه خير أهل زمانه، وفي ذلك قال العباس بن راشد: زار عمر بن عبد العزيز مولاي فلما أراد الرجوع قال لي: اخرج معه فشيعه، فإذا نحن بحية سوداء ميتة، فنزل عمر عن بغلته فدفنها فإذا بهاتف يهتف : يا خرقاء يا خرقاء، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لهذه الحية : لتموتن بفلاة من الأرض وليدفنك خير أهل الأرض يومئذ، فقال عمر : أنشدتك الله إن كنت ممن يظهر إلا ظهرت لي فقال: أنا من التسعة الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الوادي، وإني سمعته يقول لهذه الحية ذلك, قال: فبكى عمر حتى كاد يسقط عن راحلته وقال: أنشدتك الله ياراشد ألا تخبر بهذا أحداً حتى يواريني التراب.
وعن عبد الله بن عمر قال: إنه كان كثيراً ما يقول ليت شعري، من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً؟! وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه كان يقول: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؟! وقيل إن دابة من دواب أبيه ضربته فشجته فجعل أبوه يمسح الدم ويقول: سعدتُ إن كنتَ أشج بني أمية.
قدم عمر بن عبد العزيز المدينة فنزل دار مروان، ولما صلى الظهر دعا عشرة من الفقهاء الذين في المدينة فدخلوا عليه فقال لهم: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق ولا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأبلغوني، فخرجوا من عنده وهم يقولون جزاه الله خيراً، وكان عمر يراجع الخليفة الوليد وينصحه ويعترض على تصرفات الحجاج مما أوجد عداوة بينه وبين الحجاج. وأخترق معجزة الإسلام عمر بن عبد العزيز ذلك الستار الرهيب الذي أحاط الأمويون أنفسهم به، صارخاً بكلمة الحق تائباً، ومُتبرئاً من مظالم العهد الأموي وآثامه، ومتحدياً جبابرته وطغاته وعلى رأسهم الحجاح بن يوسف الثقفي. على الرغم من أن بني أمية جميعاً وبلا استثناء كانوا يهابون معجزة الإسلام ويحترمونه إلا أنهم لم يطيقوا المنهج الذي سار عليه، وراح الحجاج ينسج مؤامراته ووشاياته فأوغر صدر الخليفة الوليد على ابن عمه وزوج أخته وواليه على الحجاز عمر بن عبد العزيز فأرسل الحجاج إلى الوليد يشكو إليه استقبال عمر بن عبد العزيز وإيواءه كل الذين يطلبهم الحجاج ليحاكمهم على مؤامراتهم ضد الأمويين، فاستدعى معجزة الإسلام عمر بن عبد العزيز وقال له: ما تقول فيمن يسب الخلفاء، أيُقتل؟ فسكت عمر وأزداد الوليد عبوساً وتجهماً فعاد يسأل: ما تقول فيمن يسب الخلفاء، أيُقتل؟
وفي إيمان صادق واستمساك بدينه وبفضائله غير قلق للعواقب قال عمر بن عبد العزيز: هل قتل نفساً بغير حق يا أمير المؤمنين؟
قال الوليد: لا، ولكن سب الخلفاء وانتهك حرماتهم، فقال عمر في هدوء راسخ إذاً يعاقب بما انتهك للخلفاء من حرمة ولا يُقتل. فأشار الخليفة الوليد بإشارة عصبية غاضبة بإنهاء المقابلة، فانصرف عمر من عند الخليفة وهو متوقع نقمة عاجلة حيث قال: فخرجت من عنده وما تهب ريحٌ إلا وأظنها رسولاً منه يدعوني إليه. ثم عزله عن ولاية الحجاز وخرج من المدينة، فلما كان ظاهر المدينة قال لمولاه مزاحم: يا مزاحم أخشى أن نكون ممن نفتهم المدينة، مشيراً إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المدينة تنفي خبثها، فأبعد مزاحم عن عمر هذه الخاطرة. ومضى عمر ومزاحم حتى نزلا مقاطعة بالشام تدعى السويداء وهناك قضى فترة عزله وطافت بخاطر عمر وصية أبيه عبد العزيز بن مروان: اتق الله وأحسن نيتك في عملك، فإنه لا دين لمن لا نية له، وأحسن تدبير مالك فإنه لا مال لمن لا تدبير له، وارفق بمن تعامله فإنه لا عيش لمن لا رفق له، وتجوّز في شهوتك فإنه لا عقل لمن يغلب هواه. وأعد عمر هذه العزلة لحياة الزهد والتقشف وللجهاد من أجل الحق. بعد وفاة الوليد ولي أخوه سليمان الخلافة وكان أحسن حالاً من أخيه الوليد، وعلى الرغم مما يكنه سليمان لعمر بن عبد العزيز من إجلال ومحبة فقد خافه والياً ثم آثر إستبقاءه أخاً وإن زاد فناصحاً.
وأصطحب الخليفة سليمان عمر بن عبد العزيز يوماً لزيارة بعض معسكرات الجيش فتساءل الخليفة في زهو: ما تقول في هذا الذي تراه يا عمر؟ فقال عمر بن عبد العزيز: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عنها.
وعندما مرض سليمان بن عبد الملك وأراد أن يستخلف وكان أولاده صغاراً، فشاور رجاء بن حيوة فسأله: من أعقد له؟ فقال رجاء بن حيوة: عمر بن عبد العزيز، وسرد له رأيه منه، فوافق ذلك سليمان وقال: لأعقدن عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب.
ورأى عمر بن عبد العزيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم وهو يقول: أُدنُ يا عمر، فدنا أبو حفص حتى خشي أن يصيبه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا وليت فاعمل عملاً نحواً من عمل هذين، فإذا كهلان قد اكتنفاه، فقال عمر بن عبد العزيز: ومن هذان؟ قال خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا أبو بكر وهذا عمر.
طلبه للعلم
كان عمربن عبد العزيز يطلب العلم ويسأل العلماء ويستشيرهم، وقيل إن أباه عبد العزيز بعثه إلى المدينة يتأدب فيها، وكتب إلى صالح بن كيسان بتعاهده فكان يلزمه الصلاة ويعلمه أمور دينه ودنياه, وكان أيضاً يتعلم من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ويستمع له، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: كنت أصحب من الناس سراتهم وأطلب من العلم شريفه، فلما وليت أمر الناس احتجت أن أعلم سفاسف العلم، فتعلموا من العلم جيده ورديئه وسفاسفه.
وقيل إن عمر بكى وهو غلام صغير وكان قد حفظ القرآن فقالت له أمه: ما يبكيك قال: ذكرت القرآن فبكيت فبكت أمه من ذلك, وعندما أصبح شاباً كان أميراً على المدينة وكان شاباً غليظاً ممتلئ الجسم, فلما استخلف دخل عليه محمد بن كعب القرظي فجعل ينظر إليه فقال له عمر: ما بك؟ فقال: أتعجب مما حال من لونك ونفي من شعرك ونحل من جسمك، قال: وكيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثلاثة حين تقع حدقتي من وجنتي ويسيل منخري وفمي صديداً ودوداً كنت لي أشد نكرة. وعندما تولى عمر الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال: إني بليت بهذا الأمر فأشيروا علي، فقال له سالم: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك, وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من النار فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت.
ومما توصل إليه من العلم أيضاً أنه أسند الحديث ورواه عن جماعة من الصحابة وعن جماعة من التابعين منهم: أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن جعفر وعن ابن أبي سلمة المخزومي وعن السائب بن يزيد وعن عبد الله بن سلام, وأرسل الحديث عن جماعة من القدماء منهم عبادة بن الصامت وتميم الداري والمغيرة بن شعبة وعن عائشة (رضي الله عنها) وعن أم هانئ وعن خوله بنت الحكم, وكانت صلاته رحمه الله أشبه بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أنس بن مالك عنه: ما رأيت إماماً أشبه بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من إمامكم هذا، وكان عمر لا يطيل القراءة ويتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وكان فصيحاً عالماً قال ميمون بن مهران: أتينا عمر بن عبد العزيز فظننا أن يحتاج إلينا فإذا نحن عنده تلامذة، وأنه معلم العلماء.
توليته الخلافة
ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة تسع وتسعين للهجرة وذلك يوم وفاة سليمان بن عبد الملك، وكان قد عهد بالخلافة لعمر بعد أن أصابته الحمى وكان ابنه أيوب غلاماً لم يبلغ، وابنه داود غائباً في القسطنطينية، فلم يجد إلا عمر بن عبد العزيز يعهد إليه، وهذا نص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. ولما مات سليمان وكفن صلى عليه عمر، ولما فرغ عمر من دفنه أوتي بمراكب الخلافة البرانس والخيل فقال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخليفة، فقال عمر: نحّوها عني، مالي ولها؟ آتوني ببغلتي، فركبها ورجع إلى بيته مهموماً، فقال له خادمه: كأنك مهموم، فقال: لمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت يعني (الخلافة) إنه ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب إلا له قبلي حق يحق علي أداءه إليه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني.
خطبته بعد خلافته
دخل الخليفة خامس الخلفاء الراشدين المسجد فصعد المنبر وقال: أيها الناس إني قد أبتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني ولا طلب له ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فأختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: لقد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فتولى أمرنا باليمن والبركة.
وذكر أنه لما استخلف عمر صعد المنبر فقال: أيها الناس، إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنتم بالخيار، ثم نزل، ثم صاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، ثم صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: أوصيكم بتقوى الله، فان تقوى الله خلف كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، واذكروا الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً، ثم رفع صوته وقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم».
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين، وأمر منادياً ينادي من كانت له مظلمة فليرفعها، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان وفي يد أهل المظالم إلا وردها مظلمة مظلمة، ولقد سر الناس سروراً كبيراً باستخلاف عمر، ولما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.
وذكر أنه لما انتهى من خطبته، دخل أمير المؤمنين ليستريح قليلاً فأتاه ابنه عبد الملك فتساءل: يا أمير المؤمنين ما تريد أن تصنع؟ قال حفيد الفاروق: أي بني أَقيل، فقال عبد الملك بن عمر: تقيل ولا ترد المظالم؟ فقال الخليفة الخامس: أي بني قد سهرت البارحة في دار عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم. فقال الابن: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: أُدن مني يا بني، فاقترب الابن من أبيه فالتزمه وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.
عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الراشدين المهديين
قال علي بن الحسين: أن المهديين سبعة مضى منهم خمسة وبقى منهم اثنان وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز, وقال الحسن: إن كان مهدي فعمر بن عبد العزيز وإلا فلا مهدي إلا عيسى بن مريم, وقال سفيان الثوري الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز (رضي الله عنهم), وقال أحمد بن حنبل: إن الله يقيض للناس من كل رأس مائة سنة من يصحح لهذه الأمة دينها فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز وفي المائة الثانية فإذا هو الشافعي.
كان عمر رحمه الله عادلاً، وكان الناس يشعرون بهذا العدل ويرونه ويتحدثون به، قال مالك بن دينار: لما ولي عمر الخلافة قالت رعاة الشاة في ذروة الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قام على الناس، فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنا إذا قام على الناس خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شأننا، وقال راع آخر عندما سئل عن الذئاب تمشي بين الغنم لا تضرها بشيء قال: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس.
ولقد كان عمر يقول للناس: الحقوا ببلادكم فإني أنساكم هنا. وإني قد استعملت عليكم عمالاً لا أقول هم خياركم، فمن ظلمه عامل بمظلمة فلا إذن له علي إلا رأيت مظلمته، وأيم الله لئن كنت منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال ثم ضننت به عليكم إني إذن لضنين، والله لئن لولا أن أعيش سنة وأسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً, وقيل أنه جاء إعرابي إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، جاءت بي إليك الحاجة وانتهت بي الفاقة والله سائلك عني يوم القيامة، فقال: ويحك، أعد ماقلت، فأعاد ما قال عليه, فنكس عمر رأسه وأرسل دموعه حتى ابتلت الأرض ثم رفع رأسه فقال: كم أنتم قال: أنا وثمانية بنات، ففرض له ثلاثمائة وللبنات مائة، وأعطاه مائة درهم وقال له: هذه من مالي وليست من مال المسلمين اذهب فأنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم، وكان عمر رحمه الله يرسل عماله ليفقهوا الناس في البدو ويجري عليهم رزقاً، وقال رباح بن حبان وكان عاملاً على المدينة قال: ما قدم علينا رسائل من عمر بن عبد العزيز إلا لإحياء سنة أو قسم مال أو أمر فيه خير, وكان يسأل عن حال المسلمين دائماً، فقدم عليه أناس من المدينة فقال لهم: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ فقالوا قد قاموا يا أمير المؤمنين وأغناهم الله بما تعطيهم من بيت المال، وقيل إن الحجية كتبت إلى عمر ليأمر بكسوة البيت الحرام كما كان يفعل من قبله، فكتب إليهم إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة فانه أولى بذلك من البيت، وكان يبعث بالمال ليوزع على الفقراء فيرجع بالمال لا يجدون أحداً يأخذ هذا المال، قد أغنى عمربن عبد العزيز الناس, وكان قد ضربت فلوس لعمر فكتب عليها (أمر الله بالوفاء والعدل).
وقيل إن عدي بن أرطأة كتب لعمر فقال: أما بعد، فإن أناساً قبلي من العمال قد أخذوا من مال الله عز وجل مالاً عظيماً لست قادراً على استخراجه منهم إلا أن يمسهم شيء من العذاب فإن أذن لي أمير المؤمنين فعلت ذلك, فأجابه عمر فقال: فالعجب كل العجب من استئذانك لي في عذاب بشر، كأن لك جُنَّة من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من عذاب الله, فانظر من كان قد قامت عليه البينة فخذه بما أقر ومن أنكر فاستحلفه بالله وخلِّ سبيله، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلي من ألقى الله بدمائهم. وكان عمر بن عبد العزيز قد كتب إلى عامل له: اتق الله، فإن التقوى هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، وكتب إلى عامل آخر: أما بعد، فأمر أهل العلم أن ينتشروا في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت، وكتب إلى عامل آخر: أما بعد، فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى بين الناس إلا بالحق وهم لا يظلمون، وكتب إلى عامل آخر: فلتجف يداك من دماء المسلمين وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم فإذا فعلت ذلك فليس عليك سبيل: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) [الشورى 42], هكذا كان عمر يعظ عماله ويحاسبهم ويتابع أعمالهم ويأمرهم بالإحسان والعدل بين الناس, وكان قد كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في حكامهم وسنن خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن أقوم الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك أن توطنها لطاعة الله، فإنه لا قليل من الإثم.
وقيل إنه كتب إلى عامله على اليمن: أما بعد فإني أكتب إليك، آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم وتراجعني وأنت تعرف بعد المسافة بيني وبينك ولا تعرف آخذات الموت، حتى لو كتبت إليك اردد على مسلم مظلمة لكتبت إلي أردها عفراء أو سوداء، انظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني، وقال أيضاً أن عاقبوا الناس على قدر ذنوبهم وإن بلغ ذلك سوطاً واحداً وإياكم أن تتعدوا حداً من حدود الله.
وكان رحمه الله محباً للإسلام والمسلمين، وكان قد كتب عدي بن أرطأة إلى عمر: أما بعد فإن الناس قد كثروا بالإسلام وخفت أن يقل الخراج، فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حارثين نأكل من كسب أيدينا.
زهده في الدنيا
قيل إنه بعدما تولى الخلافة سمع ببكاء في داره فسئل عن ذلك فقيل إن عمر خيّر امرأته بين أن تقيم في منزلها وبين أن تلحق بمنزل أبيها، وأعلمها أنه قد شغل عن النساء بما في عنقه، فبكت وبكت جواريها معها، وقد سئلت فاطمة بنت عبد الملك عن عمر فقالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا من احتلام منذ استخلفه الله إلى أن قبضه.
وقال أحد حراس عمر: رأيت عمر حين ولي الخلافة حسن اللون جيد الثياب، ثم دخلت عليه بعد ذلك فإذا قد احترق واسود ولصق جلده بعظمه حتى ليس بين الجلد والعظم لحم، وإذا بثيابه قديمة مغسولة وقد أعطاني مالاً أتصدق به وقال: أعطِ كل من يمد يده إليك.
عاد الخليفة الورع إلى بيته يوماً بعد صلاة العشاء ولمح بناته الصغار فسلم عليهن كعادته وبدلاً من أن يسارعن إليه بالمحبة كعادتهن رحن يغطين أفواههن بأكفهن وتبادرن إلى الباب. فتساءل ما شأنكن؟ قالت بناته: لم يكن لدينا ما نتعشى به غير خبز وبصل فكرهنا أن تشم أفواهنا، فبكى الخليفة العادل ثم قال: يا بناتي ما ينفعكن أن تعايشن الألوان والأطايب ثم يذهب بأبيكن إلى النار؟ ورأت إحدى بنات عمر بن عبد العزيز صديقة لها تزين أذنيها بلؤلؤتين جميلتين فأرسلت إحداها إلى أبيها وقالت له ضارعة اشترِ لي مثلها، فدعا أمير المؤمنين مولاه مزاحم وأمره أن يأتي بجمرتين من نار، فلما أحضر مزاحم الجمرتين قال لأبنته: إن أستطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك آتيك بلؤلؤتين كهذه.
لقد تنازل الخليفة العادل عن نصبيه من ميراث أبيه البالغ أربعين ألف دينار ووضعه في بيت المال وأكتفى الخليفة الزاهل من دنياه كلها بقطعة أرض كان قد اشتراها من ماله الخاص ولم تدرّ عليه أكثر من مئتي دينار في العام راح يعيش بها هو وأسرته.
تواضعه
قال عمر لجارية له: روحيني، فأقبلت تروحه فغلبتها عينها فنامت، فأخذ المروحة وأقبل يروحها، فانتبهت فصاحت، فقال لها: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني. قال عمر بن عبد العزيز لعمر بن مهاجر: يا عمر إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني ثم قل لي: ماذا تصنع؟
وقيل إن عمر بلغه أن أحد أبنائه اشترى فصّاً بألف درهم فتختم به، فكتب إليه عمر: عزيمة مني عليك لما بعت الفص الذي اشتريته بألف درهم وتصدقت بثمنه واشتريت فصاً بدرهم ونقشت عليه رحم الله امرأً عرف قدره.
وأتى رجل إلى عمر فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فقال له: لا، بل جزى الإسلام عني خيراً.
حلمه وصفحه
كان لعمر ابن من فاطمة فخرج يلعب مع الغلمان فشجه غلام، فحملوا الغلام وابن عمر فأدخلوهم على فاطمة، فسمع عمر صياحاً فخرج فإذا بامرأة جاءت فقالت: هو ابني وهو يتيم، فقال لها: أله عطاء؟ قالت: لا، قال: اكتبوه في الذرية، فقالت فاطمة: فعل الله به وفعل إن لم يشجه ابني، فقال عمر: إنكم أفزعتموه.
قيل إن عمر غضب على رجل غضباً شديداً فبعث إليه فجرده من ثيابه وأعد السياط حتى قلنا هو ضاربه ثم قال: خلوا سبيله وقرأ: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران 134].
كان عمر يمشي ليلاً ومعه حرسه، فدخل المسجد فمر بالظلام برجل نائم فتعثر به، فقال الرجل: أمجنون أنت؟ فهمّ به الحرس، فقال له عمر: تمهل، إنما سألني: أمجنون أنت، فقلت له: لا. وقيل إن رجلاً أسمع عمر بن عبد العزيز كلاماً جافاً فقال له عمر: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان وأنال منك اليوم وتنال مني غداً, ثم عفا عنه.
وجاء رجل إلى عمر وهو على المنبر فقال: أشهد أنك من الفاسقين, فقال له عمر: وما يدريك، وأنت شاهد زور لا نجيز شهادتك.
تعبده
كان لعمر بن عبد العزيز تابوت فيه دراعة من شعر وغل وكان له بيت في جوف بيت يصلي فيه لا يدخله أحد، فإذا كان الليل فتح التابوت ولبس الدراعة ووضع الغل في عنقه فلا يزال يناجي ربه ويبكي حتى يطلع الفجر، وكان عمر يسمر بعد العشاء الآخرة قبل أن يوتر فإذا أوتر لم يكلم أحداً وكان يصوم الاثنين والخميس والعشر وعاشوراء وعرفة وكان لا يدع النظر في المصحف كل يوم ولكن لا يكثر.
بكاؤه وخوفه من الله تعالى
دخل رجل يقال له ابن الأهتم على عمر بن عبد العزيز فلم يزل يعظه وعمر يبكي حتى سقط مغشياً عليه, وكان رحمه الله إذا قرأ القرآن يبكي، وقيل إنه بكى فبكت معه فاطمة، فبكى أهل الدار لايدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، ثم سألت فاطمة: يا أمير المؤمنين ممَّ بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة انصراف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، قال ثم صرخ ثم أغشي عليه. وكان عمر يجمع كل ليلة الفقهاء يذاكرون الموت والقيامة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة، وكان عمر إذا ذكر الموت أمامه انتفض انتفاض الطير وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.
عن مولى لعمر بن عبد العزيز قال: إنه استيقظ ذات ليلة باكياً فلم يزل يبكي حتى استيقظت، فقلت: يا أمير المؤمنين، مايبكيك؟ فقال: يا بني، إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله, ثم أغمي عليه فلم يفق حتى علا النهار، فقال: فما رأيته بعد ذلك مبتسماً حتى مات, وقيل إنه دخل عليه ابنه عبد الملك فقال: يا أبتي، ما يبكيك؟ فقال: خير بابني، وَدَّ أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك، والله بابني خشيت أن أكون من أهل النار.
رفقه بالحيوان
لقد اتسع رفق عمر بالإنسان حتى شمل الحيوان الأعجم فقد كان له غلام يشتغل على بغل له وكان الغلام يأتيه من أجر البغل كل يوم بدرهم ونصف درهم وذات يوم جاء الغلام بثلاثة دراهم فسأله عمر بن عبد العزيز: ما بدا لك؟ قال الغلام لقد نفقت السوق (راجت)، فقال الخليفة الإنسان: ولكنك أتعبت البغل وأمر الغلام أن يريح البغل ثلاثة أيام. وحرّم أمير المؤمنين ان يشد الناس اللجم على الخيل شداً يؤلمها ونهى عن استخدام المنخسة في نخس الدواب ونهى عن سباق الخيل في غير حق لئلا يكون إرهاقاً لها، ونهى عن جر الشاة إلى مذبحها ونهى عن سن السكين لذبح الشاة فوق رأسها وهي تنظر إليه. وكتب الخليفة العادل إلى والي مصر يقول: إنه بلغني أن بعض نقالات يحملن على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من خمسمائة رطل.
موت عمر ووصيته لأولاده
لما حضر عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه ابن عمه وصهره مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال وتركتهم عالة، ولا بد من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائي من أهل بيتك لكفيتك مؤونتهم إن شاء الله. فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه فقال: الحمد لله، أبالله تخوفوني يا مسلمة؟ أما ما ذكرت من أني فطمت أفواه ولدي من هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقاً هو لهم، ولم أكن أعطهم حقاً هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيي فيهم هو الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل أتقى الله فسيجعل الله له من أمره يسراً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ورجل منكب على المعاصي فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله، ثم أشار عمر بن عبد العزيز وقال: أدعوا لي بني. فجاء بضعة عشر ذكراً فجعل يعظهم ثم قال: يا بني، إني أميل بين أمرين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار وبين أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم.
2010-07-17