فخر الدين باشا: ضابط هام في حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
2010/06/17م
المقالات
2,181 زيارة
فخر الدين باشا: ضابط هام في حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كانت ملحمة رائعة قل نظيرها في التاريخ… ملحمة إنسانية رسمت فيها أسمى العواطف الإنسانية… لوحة ستبقى رائعة على مر التاريخ ولن يطويها النسيان… ملحمة عسكرية تحدت أصعب الظروف وأقسى الشروط… بطل هذه الملحمة هو القائد التركي اللواء فخر الدين باشا الملقب بـ(نمر الصحراء).كان قائد فيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914م، ثم رقي إلى رتبة لواء. لقد استدعي عام 1916م إلى الحجاز للدفاع عن المدينة المنورة عندما بدت تلوح في الأفق نذر نجاح الإنجليز في إثارة حركة مسلحة ضد الدولة العثمانية. وصل إلى المدينة المنورة في 31/5/1916م… وصل إليها فرحاً لأنه كان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حباً لا يوصف… وهذا الحب، بل العشق، هو الذي رسم لوحة الملحمة الإنسانية التي بقيت في التاريخ العثماني… منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها… أي خلال أكثر من عامين لم يشبع من زيارة ضريح حبيبه ولا من مناجاته والبكاء بين يديه… كان في صباح كل يوم ينزع بزته العسكرية، ويلبس ملابس بيضاء كالكفن، ويعتمر عمامة بيضاء ثم يقوم بمسح وتنظيف الضريح وحواليه ودموعه تتساقط، يبكي حتى تبتل قطعة القماش التي ينظف بها الضريح، هكذا في صباح كل يوم، ولم يفُتْ يوم واحد دون قيامه بهذا.
انسحبت الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد القبائل العربية، ولم تبقَ هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفاً من الجنود مع بضعة مدافع، وبقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء، وأصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300كلم، وانقطعت عنه جميع الإمدادات، ومما زاد في عزلته قيام لورنس -الجاسوس الإنجليزي- وأعوانه من بدو بعض القبائل بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف؛ فأصبح معزولاً عن العالم، وحيداً ومحاصراً من قبل أعداء يفوق عددهم عدد جنوده أضعافاً مضاعفة ويقومون بالهجوم على المدينة ويطلبون منه الاستسلام. ولكنه كان يردهم على أعقابهم كل مرة.
كانت أمور الدولة العثمانية تسوء يوماً بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال؛ لذا اتخذت الحكومة العثمانية قراراً بتخلية المدينة المنورة. وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار، عندها شعر عاشق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن خنجراً يغرس في قلبه، فأرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها إليه ويقول «لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجروا خط الحجاز؟ ألا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟ أمهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية».
لقد كان توسلاً حاراً، وفي النهاية رضي أنور باشا أمام هذا الإلحاح بل التوسل الحزين، ولكنه لم يستطع إرسال أي مدد إليه، وساءت جداً الأحوال العسكرية في تلك المنطقة، فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الإنجليزية التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين، في القناة وفي جبهة فلسطين.
وفي الشهر العاشر من عام 1918م وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس، وقد كانت معاهدة استسلام قاسية جداً… انتهت الحرب، وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة وتسليمها إلى قوات الحلفاء، ولكنه رفض، أجل، رفض هذا القائد العثماني تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته، وقد كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة الاستسلام تنص صراحة على وجوب قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء. واتصل به الإنجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب وتم التوقيع على معاهدة الاستسلام؛ فكان جوابه الرفض… كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا وهو يبكي رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقاً للمعاهدة، وأرسل رسالته هذه مع ضابط برتبة نقيب، ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها إن مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تشبه أي مدينة أخرى؛ لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن، بل عليه أن يستلم أمراً من الخليفة نفسه، كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الانسحاب.
ازدادت الضغوط على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة وتسليم المدينة إليهم. لم تر الحكومة العثمانية بداً من الرضوخ، فلم تكن لديهم أي قوة للرفض.وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل حيدر ملا… وهكذا سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا… فقد وصل إليه أمر من الخليفة نفسه بضرورة الاستسلام، ولكن هل سيترك مدينة حبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسلمها إلى الأعداء؟! كلا، لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص حتى ولو كان الأمر من الخليفة ومن السلطان نفسه. أرسل الجواب مع وزير العدل وقال فيه «إن الخليفة يعد الآن أسيراً في يد الحلفاء؛ إذاً فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام… بدأ الطعام يقل في المدينة، كما شحت الأدوية وتفشت الأمراض بين جنود الحامية وكذلك بين أهالي المدينة، فقد كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين عن العالم.
جمع فخر الدين باشا ضباطه للاستشارة حول هذا الظرف العصيب، كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم في الاستمرار في الدفاع عن المدينة، اجتمعوا في الصحن الشريف، في الروضة المطهرة عند صلاة الظهر، وبعدما أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني وخطب في الضباط خطبة كانت قطرات دموعه فيها أكثر من عدد كلماته، وبكى الضباط حتى علا نحيبهم ثم قال: «لن نستسلم أبداً… ولن نسلم مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا للإنجليز ولا لحلفائهم».
نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطاً ضابطاً، احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي، كانت لحظة مأساوية من أروع اللحظات التي ستبقى ساطعةً في سجل التاريخ… إنه رجل هام في حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل قل نظيره، وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع، اقترب منه أحد سكان المدينة الأصليين… واحتضنه وقبله وقال له: «أنت مدني من الآن فصاعداً، أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد».
ولكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين، حقيقة مادية وواقعية لا يمكن تجاهلها، لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض… فقد اشتدت وطأة الجوع والمرض على الجيش العثماني وعلى سكان المدينة، وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة، وعندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا زادوا اتصالهم مع ضباطه، وكان الوضع ميؤوساً منه، فكلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة، فوافق أخيراً على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام.
كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول: «سيحل فخر الدين باشا ضيفاً على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة، وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته». وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق، كانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة، وقد نقلت إليها أغراض القائد، بقي الضباط في انتظار خروجه، ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم، بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي…
كان فخر الدين باشا قد هيأ هذا المكان لنفسه لأنه لم يكن يريد الابتعاد عن قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذهب إليه نائبه نجيب بك ومعه ضباط آخرون فوجدوه متهالكاً على فراش بسيط في تلك البناية ولم يكن يريد أن يخرج فقال لهم: «اذهبوا أنتم أما أنا فسأبقى هنا». احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون… وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يأخذوه قسراً،… اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسراً إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون… إنهم يعرفون مدى حب قائدهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا يعاند كل هذا العناد رافضاً الابتعاد عن المسجد النبوي، لكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيداً هناك.
حدث هذا في يوم 10/1/1919م، وفي اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفاً أمام المسجد النبوي… كان كل جندي يدخل ويزور ضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبكي ويدعو ثم يخرج، وكذلك الضباط، لم يبقَ أحد لم يسكب دموعاً حارة في لحظة الوداع المؤثرة هذه، حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر.
عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الآلاف من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي أصبح أسطورة، وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء “فخر الدين باشا… فخر الدين باشا” لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي 13/1/1919م دخلت قوات البدو حسب الاتفاقية إلى المدينة. واستسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة بعد 72 يوماً من توقيع معاهدة موندروس وتسلمت أسرة سعود بعدها مكة والمدينة وكل نجد والحجاز بتنسيق مع الإنكليز. وانتصر أهل الباطل على أهل الحق… والآن تنتظر مكة والمدينة رجلاً يحب الله ويحب رسوله ويكون ناصراً لدين الله سبحانه.
رحم الله هذا الضابط رحمةً واسعةً وإن الأمة تنتظر أمثال أنصار الله الأوائل، ليخلصوا هذا الدين، وهذه الأمة، من هذا الواقع الأليم، وليعيدوا لهذا الدين ما كان له من مجد تليد. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر 51]. تصوروا هذا المشهد يحدث قريباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الحي في قبره… تصوروا كيف ظاهرَ آل سعود الكفار الإنجليز على الدولة الإسلامية… فكروا كيف نخلص الأمة الإسلامية من حكامٍ، الدنيا عندهم أهم من الدين، وكرسيهم يعلو على كل مقام ولو كان مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)… البدو، بعض القبائل العربية، آل سعود، اللاشريف حسين وأبناؤه… كلهم كانوا خنجراً طعن بهم أعداء الله الإنجليز الدولة الإسلامية في صدرها.
2010-06-17