إذا كان السكوت علامة رضى في بعض الأمور فإن سكوت الشعوب على الاعتراف والمعترفين بإسرائيل ليس كذلك. فالشعوب العربية والإسلامية تمقت اليهود ودولتهم، وتمقت الحكام الذين فاوضوا وتنازلوا واعترفوا بدولة الغاصبين. وما هذا السكوت إلا بسبب ضعف هذه الشعوب الآن، وبسبب حيرتهم ماذا يفعلون. ولن يدوم هذا الضغط ولا هذه الحيرة بإذن الله، عما قريب ستتغير الأمور بتوفيق الله ويندم المفرّطون.
رئيس وزراء الأردن عقد جلسة سرية لمجلس النواب الأردني في 05/06/94 وشرح لهم على مدى ثلاث ساعات أن سوريا قد أنجزت اتفاقها مع إسرائيل برعاية أميركا وهي على وشك التوقيع، ولم يبق بين سوريا وإسرائيل إلا خلاف بسيط على قطعة أرض هي منطقة الحمّة (سماها المجالي بالجولان الفلسطيني). وقال للنواب بأن مصر تؤيد إسرائيل بشأن قطعة الأرض هذه. وقال للنواب: إذا تلكأنا في الاتفاق مع إسرائيل فستسبقنا سوريا ولبنان كما سبقنا الفلسطينيون. وعند ئذ تستفرد بنا إسرائيل ولا نستطيع تحصيل حقوقنا ولا حماية الأردن من التمزيق.
واقتنع عدد كبير من النواب بأقوال المجالي وأعلنوا عن مواقفهم على إسراع النظام الأردني إلى إنجاز الاتفاق مع إسرائيل. وهكذا كان، فإن الأردن أنجز في يومين غالبية الأمور التي كانت معلّقة.
فهل صحيح أن الاتفاق بين سوريا وإسرائيل صار تاماً ولم يبق إلا مسألة أرض الحمّة؟ كلا، لا يبدو هذا صحيحاً.
في العدد (85) نشرت «الوعي» مقالاً بعنوان: «مأزق رابين» خلاصته أن حكومة رابين غير قادرة على إعادة الجولان إلى سوريا حتى لو كان رابين يريد ذلك، لأن المعارضة والشعب لا يوافقون على ذلك. وفي 14/06/94 قال وليم كوانت (من معهد بروكينغز في واشنطن) في ندوة للأمم المتحدة في الدنمرك، قال: (لا تريد الولايات المتحدة لعب أي نشط يمكن أن يضعف حكومة رابين أو يقوضها، إذ تعتبر حكومة رابين أساساً لنجاح أي مفاوضات مع الأطراف العربية. وتخشى احتمال مجيء حكومة ليكودية).
هذا الكلام يدل على أن الأمور ما زالت بعيدة عن إنجاز الاتفاق بين سوريا وإسرائيل. يبدو أن رابين قال لأميركا بأنه شخصياً موافق على إعادة الجولان كله إلى سوريا ولكنه لا يستطيع تنفيذ ذلك. ويبدو أن أميركا مقتنعة بذلك ولهذا فهي لا تضغط عليه. فكيف ستتصرف أميركا تجاه هذه العقدة.
هناك خيارات ثلاثة أمام أميركا. الأول: أن تدعم حرباً استنزافية لكسر عنفوان وعناد الشعب الإسرائيلي. والثاني: أن تتحول لتطلب من سوريا مزيداً من التنازلات لمساعدة حكومة رابين على تخطي المأزق. والثالث: أن تجمّد الأمور على المسار السوري ـ الإسرائيلي. ولا نتصوّر غير هذه الخيارات.
المراقب يرى أن أميركا قد استبعدت الخيار الأول، إذ حين قامت إسرائيل بتحدي سوريا حين خطفت الديراني وحين ضربت مركز حزب الله شرق بعلبك، وقدم لبنان شكوى إلى مجلس الأمن أسقطت أميركا هذه الشكوى، وأدانت العنف من الطرفين. وسمعنا أن رفسنجاني أعلن أن إيران لا تضع عراقيل في وجه التسوية مع إسرائيل. وقد نشطت أميركا على المسار الأردني الإسرائيلي. ولو كانت تريد سلوك حرب استنزاف ضد إسرائيل لجعلت مجلس الأمن يدينها ولجعلت الإعلام الغربي ينشط في إدانة إسرائيل، ولجعلت سوريا وإيران يعبئان «حزب الله» وجميع الأحزاب للعمل من لبنان ضد إسرائيل، ولأخرت الاتفاق مع الأردن، ولحركت حماس والجهاد في الداخل، ولأخرت إكمال الخطوات بين المنظمة وإسرائيل. وبما أنه لم يحدث شيء من ذلك، بل كل ما حدث هو عكس ذلك فنحن نفهم بشكل أكيد أن أميركا لم تسلك الخيار الأول.
فهل اختارت الخيار الثالث؟ إن المراقب يرى أن أميركا لم تسلك الخيار الثالث وهو تجميد الأمور. نعم هي تتريث لأنها غير قادرة على الإسراع أكثر من ذلك. حين جاء كريستوفر وحمل الخطة الإسرائيلية إلى سوريا طلبت هذه منه مهلة لدراسة الاقتراح الإسرائيلي. فذهب وعاد بعد أسبوعين، ولم توافق سوريا على الخطة (المؤلفة من 30 صفحة) كم هي وطلبت تعديلات. وكان جواب رابين: هذا ما عندي ولا أستطيع أكثر من ذلك. وإذا كان لا يعجبهم فلينتظروا حتى تأتي حكومة ليكودية لعلها تعطيهم أكثر. وذهب كريستوفر. وهم يقولون بأنه سيعود في أواخر حزيران الجاري. وهناك تصريحات بلليترو مساعد كريستوفر التي يقول فيها بأن الطرفين يريدان السلام وهناك تقارب بينهما ونريد إنجاز أمور هامة قبل نهاية هذه السنة. كل ذلك وغيره يدل على أن أميركا لا تفكر بتجميد المسار السوري ـ الإسرائيلي.
إذاً فهل اختارت أميركا الخيار الثاني وهو التحوّل لتطلب من سوريا مزيداً من التنازلات؟ دعونا نبحث عن شواهد، إذ لا يكفي في السياسة ما يكفي من المنطق. في المنطق يمكن القول: هناك ثلاث احتمالات حصراً، واحد منها يجب وقوعه. فإذا أثبت امتناع وقوع اثنين فإن الثالث واقع دون أن تبحث له عن براهين جديدة. أما في السياسة والتشريع وسائر شؤون الحياة العملية فإن هذا المنطق لا يصح وهو خطر على الأبحاث. وإذا كان مقبولاً في المنطق فلأن المنطق فروض نظرية وتصورات ذهنية وليس بحثاً في واقع حياتي.
وهنا نجد من الشواهد الشيء الكثير. في الأسبوع الأخير صرح فاروق الشرع وزير خارجية سوريا بأن سوريا تتعرض لضغوط بشأن التسوية السلمية. ولا يتصوّر أنه يقصد بذلك الضغوط الإسرائيلية وحدها بل يعني الضغوط من الشريك الكامل.
وقبل ذلك صرح الشرع وغيره من المسؤولين في سوريا بأن سوريا لن تتنازل عن مرجعية مدريد ولن تذهب إلى مباحثات سرية على غرار مباحثات أسلو. فمن الذي كان يطلب من سوريا أن تذهب إلى مباحثات سرية وتتخلى عن مرجعية مدريد؟ ليس هو إلا الشريك الكامل ـ أميركا.
ولكن أميركا حين تطلب من سوريا مزيداً من التنازلات فهي لا تحاول أن تفرض ذلك عليها فرضاً، ذلك لأن القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن هي بجانب سوريا، وأميركا نفسها، قبل عهد كلينتون، كانت تطلب من سوريا أن تصرّ على انسحاب إسرائيل من جميع الجولان، لأن أميركا هي التي ستنزل في الجولان بحجة الفصل بين الطرفين، وأميركا لا تحب أن تبقى إسرائيل مشاركة لها عسكرياً في الجولان. أميركا تريد أن تنفرد بالسيطرة على الجولان (ولو أدخلت عناصر رمزية من دول أخرى معها) لأنه أهم موقع استراتيجي في المنطقة، وإذا سيطرت عليه أميركا فإنها ستتحكم منه بسوريا كلها ولبنان والأردن والعراق وفلسطين، (انظر تصريح النائب الروسي بهذا الشأن في صفحة أخبار المسلمين). إن نزول الأميركان في الجولان سيكون أخطر كثيراً من وجود اليهود فيه. اليهود عدو محتل لا نعترف بشرعية احتلاله، أما الأميركان فسينزلون برضانا ووجودهم سيكون شرعياً حسب الشرعة الدولية ولا نستطيع إخراجهم. وهم أخطر من اليهود لأنهم الدولة العملاقة في العالم. وهم عدو لنا مثلهم مثل دولة إسرائيل، وهم آتون لتحكموا بجميع أقطارنا وليسيطروا على جميع ثرواتنا.
ومع ذلك فلن نستسلم ولن نقبل بوجود دولة اليهود في فلسطين، ولن نقبل بوجود الأميركان في الجولان. وإذا قُدّر لأميركا أن تنزل في الجولان فسيتأجج العداء لها ولمصالحها في العالم كله وستخرج من الجولان صاغرة مهزومة. وما ذلك على الله بعزيز.