الفضائيات: خير للمسلمين أم سمومٌ قاتلة؟
2010/12/17م
المقالات
2,057 زيارة
الفضائيات: خير للمسلمين أم سمومٌ قاتلة؟
طاهر ف. عبد العليم – الجزائر
أعظمُ ما في الإنسان عقلُه. والعقلُ في الإنسان هو أداة الإدراك أو بالأحرى هو الإدراكُ نفسه. وبما أن الإدراكَ يعتمد على وجود المعلومات السابقةِ في الذهن، وبدونها لا يكون هناك فكر ولا عقل ولا إدراك -طبعاً إلى جانب مدى سلامةِ الدماغ، ومدى قوةِ الحس أي الإحساسِ بالواقع-. أما الواقعُ هنا فبمعنى الأشياء و الأحداث، أي ما يجري و ما يحدث في دنيا الناس.
لذا كان لابد من تثقيف الذهن بالمعلومات (الصحيحة) بأكبر قدر مستطاعٍ لأنها من أهم عوامل التفكير والحكم على الأشياء والوقائع. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن المفاهيم هي التي تحدد السلوك لدى الفرد بشكلٍ مطرد، أي بشكلٍ متتابع و مستمرٍّ بحيث كلما تركزت المفاهيمُ كلما كان ارتباطُ السلوك بها أقوى، وبالتَّبعِ صارت حياة الإنسان متكيفةً بحسبها بشكلٍ لا يتخلف إلا استثناءً، وإنَّ مفاهيمَ الأعماق الأساسية هي التي تصوغ طريقةَ التفكير لديه، أي الطريقة التي يعقل بها الأشياء، أي التي يدرك بها ويتصور ويفكر ويربط ويستنتج ويُصدر أحكاماً ويوجد معلوماتٍ جديدة، فيصيرُ بالتالي يدركُ العالَمَ وأحوالَ الناسِ وما يجري من حولِه على نحو معينٍ مستعملاً فقط المعلوماتِ الموجودةَ والمخزنةَ لديه لا ما لدى غيره.
من هنا كان للمعلومة -كمعلومة- في أدمغة البشر أهمية بالغة في حياة الناس، وفي عالم السياسة، وكان السبقُ في العلم (العلم هنا بمعنى الحصول على المعلومة) ذا أثرٍ بالغ في تحركات الناس على اختلافها، لأن هذه المعلومة في نهاية المطاف بشكلٍ أو بآخر سوف تتحول وتُنتج سلوكاً يتشكلُ منه ما نسميه اصطلاحاً الواقع، بمعنى الوضع القائم وما هي عليه الأمور، خصوصاً في علاقات الناس كأفراد أو مجتمعاتٍ أو دول. ومن هنا أيضاً يأتي طبيعياً اهتمامُ الناس عموماً -و صنفٍ منهم بوجه خاص، سنأتي عليه فيما بعد- بكلِّ ما هو من قبيل المعلومات وخاصة ما تحمله الأخبار فيما هو مستجد من أحداث. ومن هنا بات من يملك المعلومةَ لا يستوي مع من لا يملك المعلومة، وأصبح من يسمع الخبر أولاً يمتاز في التأثير في الواقع عمن يسمعه لاحقاً، وصار من يُخبر الناس ويُعلِمُهم أولاً ذا حظوةٍ وسطوةٍ وقوةٍ في صراع المتصارعين سواء أكانوا أفراداً أم جماعاتٍ أم طوائفَ، أم شركاتٍ أم أحزاباً أم دولاً. بل صار السباق والصراع محموماً بين مختلف الجهاتِ في جميع مناحي الحياة من أجل الوصول إلى مواقع الحدث والسبق في تناول ما يجري، ومن ثَمَّ إعطائِه لمن يلزم وقتما يلزم وكيفما يلزم من أجل إحداث الأثر المطلوب من الجهة المتصارعة، وفق شروط ومنهجيةٍ معينة تكون قد جرى تحديدُها سلفاً على نحو يخدمُ تلك الجهة بصورة حتميةٍ في غالب الأحيان، وبشكل محسوبٍ ومدروس.
يلعب إذاً عاملُ الزمن دوراً حاسماً في التعامل مع المعلومات والأخبار سواء في الجري إليها أم الحصول عليها أم اختلاقـها أم صياغتها أم إعطائها أم حجزها أم إشاعتها أم الترويج لها حيثما يُراد توظيفها و إيجاد أثرِها مكاناً و زماناً. و إذا ما فات زمنُ حدوثها صارت تاريخاً واستقرت في الأرشيف، وهذا لا يعني أنها لم تعد مهمة، بل تكون بالصوت والصورة سلعةً تُشترى بالمال يتناولها مستقبلاً الباحثون والدارسون في المكتبات والمعاهد، وتتناولها مؤسساتُ الأبحاث المختلفة، ومراكزُ الدراسات المتنوعة، والمكاتبُ والمؤسساتُ الإعلاميةُ خاصةً، وتكون على وجه التحديد في متناول صنَّـاع القرار من السّاسة والحكام والذين يمارسون السياسةَ ويتعاملون مع الأحداث أولاً بأول ولا يفوتهم شيء مما يحدث!! هذا هو الصنف الشديد الاهتمام بالأخبار الذي أشرنا إليه من قبلُ. من هنا جاءت أهمية الإعلام ووسائل الإعلام. ومن هنا يبرز دور المتابعة لمجريات الأحداث في الواقع أو بعبارة أخرى أهمية تتبع الأعمال السياسية في العالم.
والاهتمام بالأنباء والأخبار من حيث استخدامها في التأثير السياسي سواء أكانت واقعاً مشاهَداً أم خيالاً مُـختَلَقاً ليس من نتاج هذا العصر، بل هو قديم موجود في كل المجتمعات الإنسانية يستخدمها من يستخدمها لغرض سياسي معين يسعى لتحقيقه، والتاريخ مليء في كل أحشائه وجنباته بما تصنع الأخبار من عجائب في أحوال الناس.
وقد أصبحت الحكومات اليوم لا تستغني عن وزاراتٍ للإعلام وهيئاتٍ مختلفة مخصصةٍ للبث والنشر، منها مباني التلفزيون ومقرات الإذاعات ومراكز الاتصالات المرتبطة بالأقمار في الفضاء، تُنفق عليها المالَ الكثيرَ لتقوم بمهمة مخاطبة الجماهير على أوسع نطاق. كل ذلك من أجل أن تتحكم الدولةُ في كل ما يصل إلى الناس من أخبار ومعلومات مهمةٍ في نظرها. وتراقب الوزارةُ من خلال وسائل الإعلام بأنواعها كلَّ ما يذاع وما ينزل إلى الناس من أخبار حساسة. كما تستعملها هي في الترويج أو الإعلام أو الإشاعة وفق ما تقتضيه المصلحة التي يحددها من بيدهم الأمور أي الحكام. ولا يخفى ما لهذا الأمر من أهمية قصوى في توجيه الرأي العام بواسطة التحكم في أفكار ومشاعر الناس بل والسيطرة على ميول ورغبات الجماهير! يحدث هذا بشكل دائمٍ ومستمر في زمن السلم كما في زمن الحرب، وخصوصاً في لحظة الانقلابات التي كثيراً ما تحدث في البلاد الإسلامية، بسبب الصراع المحتدم بين العملاء في الداخل وبسبب القوى الاستعمارية المتصارعة والنفوذ الأجنبي -في زمن غياب حكم الإسلام-.
وإذا كانت الأخبار في الماضي البعيد تنتقل بالمشافهة والرسائل والوسائل البسيطة فتُحدث أثرَها بين الأفراد والمجتمعات، فإنها اليوم تصل إلى الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، منها الصحف والجرائد والمجلات، ومنها الإذاعات، ومنها على وجه الخصوص القنوات الفضائية التي تبوّأت مؤخراً مكانة بارزةً تكتسي أهميةً بالغة في تشكيل الرأي العام إزاء قضيةٍ ما أو حدثٍ ما أو موضوعٍ ما… وأصبحت توفر الخبز اليومي لكل مهتمٍّ ومتتبعٍ وسياسيٍّ يهمه واقعُ المجتمع محلياً أو دولياً، سواء في زمن السلم أم عندما يحتدم الصراع و يبلغ مداه أي في زمن الحرب.
نعم لوسائل الإعلام قدرة سحريةٌ في التأثير على مجريات الأحداث من خلال تشكيل الوعي لدى الأفراد، أي تشكيل وتغيير الأفكار والمشاعر لدى الناس، مما يمهد لتغيير الأنظمة والقوانين، وبالتالي قلب المجتمعات رأساً على عقب أو المحافظة عليها كما هي أو تشكيلها تشكيلاً معيناً، إذ المجتمعاتُ ليست سوى علاقاتٍ تتشكل بين البشر وفق مقاييسَ وقناعاتٍ وأفكارٍ ومشاعرَ يحملها الناسُ ويسيرون حسب قوانينَ وأنظمةٍ انبثقت عنها.
وسواء أكان ذلك القلب أو التشكيلُ للمجتمعات بثورةِ الناس على من بيدهم الأمور، أم برضاهم عنهم ومهادنتهم وقبولِ الأوضاع القائمة، أم بحروب أهليةٍ تُقسِّم الأوطان، أم بإلهائهم فيما ليس يجديهم، كصرفهم مثلاً عن عدوهم الحقيقي إلى حشد كلِّ طاقاتهم تجاه عدو وهميٍّ طوال عقود من الزمن!.. أم غير ذلك مما يُراد بالناس.
أما من هو هذا «المجهول» الذي يريد بالناس هذا أو ذاك من الأغراض السياسية فهنا مَربط الفرس!
لا شك أن ظهورَ القنوات الفضائية في الساحة الإعلامية في بلاد المسلمين كان له وقع خاص، لِما لها -أو لبعضها على الأقل- من قوة ضاربة في أصقاع الأرض من حيث الإتيان بالأخبار وتزويد الناس بالمعلومات. فهي مؤسسات ضخمة لها أجهزة متخصصة، كمراكز الدراسات التابعةِ لها مثلاً، ولها جيوشٌ من الصحفيين المحترفين، ويقف خلفها أموالٌ وأعمالٌ ورجال! إلا أن الأمر لا يقتصر على واحدةٍ منها بعينها، فقد برز للعيان مؤخراً أن كل دولةٍ من الدول الفاعلة في العالم سلطت على البلاد الإسلامية وسيلةً إعلاميةً من الطراز الثقيل ناطقةً بالعربية أو بغير العربية، وكل هؤلاء أجمعوا على تزويدنا -نحن المسلمين الذين ليست لنا حالياً دولة- بما يلزمنا من خبزٍ يومي نحتاجه!
والسؤال الذي يرد هو: كيف يتأتى لـحَمَلة الدعوة الإسلامية، وهم يحملون دعوتَـهم في الطريق السياسي، أن يتتبعوا ما يجري في العالم عبر هذه الوسائل الإعلامية عموماً -والفضائيات الإخبارية منها بوجه خاص- دون أن ينطليَ عليهم بعضُ ما تهدفُ إليه الجهات التي تقفُ مِن ورائها؟
إن المسألة في غاية الخطورة إذ قد يصل الأمر إلى التأثر في اللاوعي، بمعنى أن الشخص قد يتأثر وهو لا يعي أنه يتأثر! لا سيما إذا علمنا أن كل هذه الفضائيات دون استثناء:
1ـ تدعي لنفسها الموضوعيةَ الإعلاميةَ التامة، وتقول إنها تلتزم دوماً بقواعد الأمانة الصحفية، نصرةً للحق وتحرياً للصدق والأمانة. فهي لا تتدخل في الخبر وإنما تنقله فقط، وتأتي به من مصدره. وهي دائماً تنقل الواقع كما هو بالأسماء وبالأرقام وتتحرى الدقة. ثم هي تأتي بمن يعلق على الخبر، لتكشفَ ما وراء الخبر. وإذا كان الخبر متعلقاً بصراع فهي تفسح المجال لكل طرف ليبدي وجهةَ نظره، وتلتزم الحياد! فهي كلها قنوات للرأي والرأي الآخر!
2- تدّعي لنفسها المهنية. فهي تترفع عن التجريح، ولا تسمح بالألفاظ النابية، وتستخدم الفُصحى، وقد تترجم لمن تنقل عنه ليفهم المشاهد، وتُكنُّ احتراماً كبيراً لمشاهديها، وتُبرز دوماً العاجلَ من الأخبار، وتحترم الأوقات والمواعيد، وتعيد البث -تكرماً منها- لمن فاتته حصة أو برنامج! وفوق ذلك تُهيِّئهُ على الشبكة لمن يستزيد!!
3- تدّعي لنفسها براءةَ الأطفال، وتقدم خِدماتٍ إعلامية جليلة، وهي قنوات إخبارية تريد الخيرَ لجميع الناس ولا تفرق بينهم، لا على أساس العرق ولا على أساس الدين، وهي جميعاً منبر لمن لا منبر له، وفرصة لمن لا حظ له، وتسعى دوماً لتكون إيجابيةً ولمعالجةِ كلِّ ما هو سلبيٌّ في المجتمعات من ظواهرَ ومشاكلَ وأزمات (المجتمعات العربية منها بوجه خاص كما تسميها هي!). وتجتهد كثيراً في تطوير الكفاءات لدى الأشخاص. حتى إنها تقدم دوماً ما يساعد الأمهاتِ في تربية أطفالهن! وحسنِ القيام بشؤون أسرهن!
نجيب على السؤال بما يلي:
نعم يمكن لكل السياسيين أياًّ كانوا أن يستفيدوا من هذه القنوات الفضائية. وكذلك حَمَلةُ الدعوة الإسلامية تحديداً -بوصفهم سياسيين- بإمكانهم الاستفادةُ منها بجميع لغاتها، وكذلك الاستفادةُ مِن كل وسيلة إعلاميةٍ أخرى. ذلك أن هؤلاء أي حَـمَلة الدعوة يملكون:
الضمانة الأولى: هي طريقة التفكير السليمة لدى حامل الدعوة التي يوفرها الإسلام بوصفه مبدأ عقيدتُه سياسيةٌ مبنيةٌ على العقل، فهي مطابقةٌ للحقيقة بالدليل العقلي، وهذا من شأنه أن يجعله حاذقا فطناً يفهم الأمور ويبحث عمن وراءها، ويسمع الأخبارَ ويحلل، ليعلم من يحرك الأحداث ولأي غرض يجري تحريكُها. إلا أن هذا لا يكفي. ولكن مهما كان تأثُّرُهُ فإنه يبقى محدوداً لأن فكرَه ثابتُ الأصل قويُّ الأساس متينُ البنيان. والحقيقة أنه هو نفسه يستخدم الأخبارَ ويسعى للتأثير في الواقع بحسب فهمه للأحداث.
نعم بالتأكيدِ ينطلي كلُّ شيء يَرِدُ في الفضائيات على عوام الناس ممن ليس لديهم قاعدة فكرية يجري على أساسها إدراكُ الأمور، وفهم الأحداث، ولمس التحديات في الواقع، وبالتالي يتحقق فيهم وبهم غرضُ صانعي هذه الفضائيات، أو على صوفيٍّ عزلَ نفسه عن السياسة وابتعد عن الناس، أو على «عالمٍ» بالشرع جاهلٍ بالواقع (يسمى عالماً عند من يريد إبرازَه في الإعلام عالماً، و هذا مُتَصوَّرٌ بل مشاهدٌ كل حين في ظل الانحطاط الذي تعيشه الأمة اليومَ، ولا نتصوره أبداً ممكناً في الوضع الصحيح والصحي للأمة).
و هناك صنفٌ آخر يمجُّ السياسةَ ولا يسمع الأخبار أصلاً، ولا يلتفت إلى الأنباء مطلقاً، وإنما يحصل التأثير فيه من خلال احتكاكه بالناس في الشارع و في حوانيت التجارة، فهو مفعولٌ به في عالم السياسة ولا يفعل هو شيئاً.
و كلُّ هؤلاء وأولئك، من أبناء الأمة، يقع على عاتق حَـمَلة الدعوة تبصيرهم و تذكيرهم وتوعيتُهم بشكلٍ عام على ما يجري من حولهم.
الضمانة الثانية: هي الكتلة السياسية والجماعة المؤمنة التي يعمل ضمنها حـمَلةُ الدعوة، أي الحزب المبدئي الذي يوفر لحملة الدعوة الكلَّ الفكري الشعوري والجو الإيماني الذي ينصهرون فيه، فيُبلور لهم الأمور، ويعطيهم ذلك الفهم العميق للمبدأ من الكتاب والسنة، وكذلك الفهم العميق للواقع و مجريات الأحداث في الماضي والحاضر، مما استقر عنده من مفاهيمَ سياسيةٍ أساسيةٍ يفهمون على ضوئها كلَّ ما يطرأ من مستجداتٍ في العالم، وكلَّ ما يرِدُ في الإعلام من ألفاظٍ ومصطلحاتٍ وعباراتٍ وتعبيراتٍ ومواقفَ وإشاراتٍ، ويعلمون مَن يستعملُ هذه المصطلحات من الجهات السياسية، وكيف يستعملها وكيف يجري توظيفها، ويعلمون حقيقة الصراع في كلِّ حادثةٍ هو بين مَن ومن، كما يعلمون أن كل إعلام حتماً تقف وراءه جهةٌ سياسية نافذة أو غيرُ نافذةٍ تخدم مصالـحَها من خلاله، قد تكون دولةً أو حزباً سياسياً أو طائفة أو منظمةً أو غيرَ ذلك، وأن ما يُسمى موضوعية الإعلام هو فكرة وهمية ومحضُ خيال، وما يسمى المهنية ما هي إلا خدعة و ستار. كما يعلمون أن الإعلام كله مسَيَّسٌ حتى النخاع، وأَنْ لا شيء يأتي من لا شيء.
وبعبارة أخرى يعلمون أن كل واحدةٍ من هذه القنوات الفضائية -الكبيرة منها بوجه خاص- بكل أجهزتها تقف بالضرورة وراءها جهة سياسيةٌ نافذة تشتغل في وضح النهار أو في الخفاء (من خلال جهةٍ واجهةٍ تابعةٍ لها قد تكون دولةً أو حزباً سياسياً أو هيئةً أخرى)، توفر للقناة الحمايةَ والفلسفةَ الإعلاميةَ أي الخط السياسي والفكري والإعلامي الذي يخدمُ مصالح تلك الجهة النافذة، إلى جانب المال والدعم السياسي والأمني، و كل ما يلزم من أجواء ومن موظفين وتقنيين وباحثين وإداريين وصحفيين ومراسلين وكتّاب ومحللين وسياسيين محترفين، وكل ما يلزم من وسائل تقنية وتجهيزات متطورة.
فوجود حامل الدعوة في حزب عريق يشتغل بالسياسة هو فقط ما يجعله ينظر إلى العالم من زاويةٍ خاصة، ويدرك الألاعيبَ السياسيةَ والمناوراتِ السياسيةَ الحزبيةَ والدولية، ويتوقع الأمور قبل حدوثها، ويفهم المآلات، ويفهم كلام السياسيين ورجال الإعلام، ويدرك أيضاً أنه ليس من السياسة أن يتصدي الحزبُ الذي هو منه لكل وسائل الإعلام بِفضحها وتعريتها وكشفِ ارتباطاتها بالجهات التي تقف وراءها، رغم عِلمِه بها، بل هو يأخذها بما تقولُ وتدّعيهِ من استقلاليةٍ وموضوعيةٍ ومهنيةٍ. وكذلك لا يسعى لاستعدائها، وإنما يعمل على استخدام بعضها إن أمكن ليؤثر من منابرها، ولا يَحرِم نفسَه منها، في الوقت الذي لا يسوِّقُ لها ما تريد. وإذا ما حصل أن تناولَهُ بعضُها بسوءٍ مقصودٍ أو بما ليس فيه، فإنه يسعى فوراً لتبرئة ساحته ومحاولةِ إظهار الحق من خلالها إن أمكن، أو الإحجام عن الرد إن لزِم، سواء أكانت صحيفةً أم فضائية أم غيرَها. والأهم من كل ذلك أن يسعى هو أيضاً ليكون له إعلامه الخاص، ليتصل بالناس ويؤثر في الرأي العام.
إلا أنه رغم كل هذا يجب الحذر في التعامل مع وسائل الإعلام والقنوات الفضائية تحديداً، حتى وإن كنتَ في حزب سياسي مبدئي عريق، فهي سيف ذو حدين. ويجب أن يعِيَ حامل الدعوة أنها مُغرِضة ومُحترفة في آن واحد، وتسَوِّقُ نفسها على أنها لا تسعى إلا لخدمة الحقيقة، والصالح العام، ولا تهدف سوى إلى تنوير الناس وتحقيق انفتاحهم على العالم، وتسليط الضوء على الأماكن المعتمة، وهي في خدمة الجميع. فهي فعلاً سلاح ذو حدين.
ثم عليه أن يَعِيَ أنها بحسب الجهة التي تنتمي إليها وتسيِّرها وتموِّلها، وبحسب المهمة الموكلة إليها من الطرف الذي أوجدها، قد تمارس العجائب على أذهان البشر من مثل (وغيره كثير لا يحصى):
– التضليل الإعلامي، كأن تَصرف المشاهد عن صلب الموضوع إلى مسألة فرعية ليست هي المشكلة.
– افتراء أو اختلاق أخبار لم تقع وليس لها أي نصيب من الحقيقة، خاصة في زمن الحرب.
– تقول الحقيقة في حدثٍ ما ولكن لا تقول كل الحقيقة.
– تعتِّم على حدثٍ معين كأنه لم يكن، أو تذكره مرة واحدة فقط، وتتفنن في ستر عيوبها على ألسنةِ صُحُفِيِّيها، إذا ما تم إحراجهم خاصة على المباشر.
– تحجز خبراً ما مدةً ثم تطلقه، أو تبثه في أوقات دون أوقات.
– تركز على صورةٍ أو عبارةٍ أو مصطلحٍ ما لإلصاقه في الذهن، كقولهم الصراع العربي (الإسرائيلي)، أو الأمة العربية، أو كإظهار فلسطين باسم (إسرائيل) على الخريطة مثلاً.
– تروِّج لأشخاص معينين لإبرازهم كمفكرين أو علماء وهم ليسوا كذلك، أو تقلل من شأن آخرين أو تتجاهلهم.
– تدس السم في الدسم، كأن توهم المشاهد أنها جاءت بكل الأطراف للخوض في مسألةٍ ما، بينما هذه الأطراف في الحقيقة كلها تنتمي إلى نفس التوجه السياسي أو الفكري، مع تغييب الطرف الحقيقي أي المخالف والمغاير تغييباً تاماً.
– تورد خبراً متعلقاً بحدثٍ معين ثم تأتي بمن ليس له فيه ناقة ولا جمل ليعلق عليه.
– تنقل الأخبار وتختار البرامج والحصص وتنتقي الأشخاص وفق خط معين لا تحيد عنه.
– تُفرد لأخبار الرياضة مثلاً باباً خاصاً في النشرة لجعلها من أهم ما لا يصح أن يُفَوِّته المشاهد (ثم انظر كم هو عدد القنوات المتخصصة في أخبار الرياضة؟!).
– تبث وتدس دساًّ الثقافةَ الغربية القاتلة مثل العلمانية، والديمقراطية، وإطلاق الحريات، وحوار الأديان، وفكرة تفوق الغرب بشكل نهائي، كما أنها تكرس واقع هيمنة الكفار، وتفصل بين العرب والمسلمين، وتَقْلب الحقائق، وتفعل وتفعل… تفعل كل ذلك ضمن الأخبار والبرامج والحصص من خلال الألفاظ المتداولَة، والعبارات المستعملة، ونوعية الأشخاص وأساليب الكلام لديهم، ونوعية الأفكار المطروحة، والصور التي تَظهرُ على الشاشة! وغير ذلك!
كل الفضائيات المسلطة على المسلمين في عقر دارهم تفعل هذا وأكثر، وتنفقُ هي ومَن وراءها أموالاً طائلة على إعلامها، كما أنها تسخر طاقاتٍ بشريةٍ هائلةً في هذا السبيل، وكذلك كل وسائل الإعلام (غير الفضائيات) بوجه عام. فأين البراءة والنزاهة والحياد والصدق والأمانة؟!
هذا شيء قليل وغيض من فيض مما تفعله الفضائيات المتخصصة في بث الأخبار. أما غيرها من الفضائيات التي تبث المجون واللهو وجميع أصناف السموم، فهو جانب آخر من البحث. فهلَّا سألـتُمْ إحداها لِـمَ تفعل كلَّ هذا وتنفق عليه من جيبها؟.. ولمصلحة من؟
يقول رب العزة في محكم التنزيل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال 36] ومن أصدق من الله حديثاً؟
نختم بأن نقول: ليس شيئاً مما هو قائمٌ أو يحدثُ في العالم اليومَ يسير في توافقٍ مع السذاجة السياسية المفرطة للأغلبية العظمى من مسلمي العالم، كثيري العدد، خفيفي الوزن، قليلي الهمة، الطامعين في الجنة دون خوض غمار الصراع العالمي، ولا إِعمالِ عقلٍ فيما يجب أن تكونَ عليه حالُهم بين الأمم، ودون علمٍ ولا عمل جادٍّ من أجل استحقاقِ نصرِ الله لهم، إلا قليلاً، وكتاب الله تعالى بين أيديهم يقول لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة 214] ومن أصدق من الله قيلاً؟
من هنا، من كتاب الله، كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة 51]، ومعناها: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى حلفاءَ وأنصاراً على أهل الإيمان; ذلك أنهم لا يُوادُّون المؤمنين, فاليهود يوالي بعضهم بعضاً, وكذلك النصارى, وكلا الفريقين يجتمع على عداوتكم. وأنتم -أيها المؤمنون- أجدرُ بأن ينصر بعضُكم بعضاً. ومن يتولهم منكم فإنه يصير من جملتهم, وحكمه حكمهم. إن الله لا يوفق الظالمين الذين يتولون الكافرين.
وكما في قوله سبحانه وتعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) [التوبة 10]، وقوله: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر 14]…
و كذلك من سنةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)… ومن سيرة صحابته رضي الله عنهم أجمعين…
من هنا يجب على المسلمين أن يأخذوا نظرتَهم للعالم، ووعيَهم السياسي الذي يخوضون به الصراع ويقيمون به دولتَهم، دولةَ الخلافة، لينطلقوا بعد ذلك في أرجاء المعمورة -و لَـهُمْ إعلامُهم- يصنعون السياسةَ الدوليةَ، كما كان يفعل أسلافهم، و يحملون إلى الناس دعوتَهم التي كُلِّفوا بحملها من قِبَل الله عز وجل.
2010-12-17