حامل الدعوة شخصية فاعلة ومؤثرة
2012/09/11م
المقالات
3,278 زيارة
حامل الدعوة شخصية فاعلة ومؤثرة
سعيد الأسعد- فلسطين
لقد خلق الله الناس على خصائص، وخيّرهم بخلال سيحاسبهم عليها، وشرع لهم من الدين ما ينظم عيشهم ويرفع شأنهم، ويجعلهم خلفاء الأرض بما التزموا واستقاموا، يعبدون الله لا يشركون به شيئاً، ولا يرضون عن حكمه ونظامه بديلاً، يؤثرون بالخير ولا يتأثرون بالشر فيطمئنون ويسعدون. وقد خلق الله عز وجل الطاقات الحيوية في الإنسان مختلفة ومتفاوتة قوة وضعفاً فيما بينها في الشخص الواحد من جهة، وبين الناس فيما بينهم من جهة أخرى، فمن الناس من تظهر عنده غريزة التدين على النوع، أو البقاء على التدين، أو يظهر مظهر الشجاعة من حب البقاء على الكرم منها، أو مظهر نفع الغير من النوع على مظهر الجبن من حب البقاء، هذا في الشخص الواحد. أما مع الآخرين تجد الاختلاف والتناقض والتفاوت على هذه الصورة بل هو أكثر، ولما كانت الغرائز تتأثر وتتحرك بمثير خارجي كان للبيئة والمجتمع الأثر البالغ في التأثير على تحريك بعض المظاهر وطغيانها على غيرها فيكون للبيئة الأثر الأكبر من حيث نشوء الشخص وتحركه وتأثيره وتأثره، فالبيئة التي تتغنى بالكرم تصنع مثل حاتم الطائي، والبيئة التي تفخر بالفروسية والشجاعة والقسوة تصنع مثل عنترة وخالد بن الوليد، والبيئة التي يرضع فيها الأطفال حليب الإباء والعزّة والكرامة ورفض الضيم إذا بلغ الفطام فيها رضيع تخر له الجبابرة ساجدين، والبيئة التي تعيش نهضة ووعياً وتكون من خصائص تربتها المسؤولية عن الغير ويكون أساس مكوناتها عقيدة فكرية سياسية وقيادة فكرية يكثر فيها رجال الدولة والساسة البارعون، فترى فيها أمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن عبد العزيز ومحمد الفاتح والسلطان عبد الحميد…
وإننا في هذا المقام ننظر في قضية هي في غاية الأهمية، وهي شخصية حامل الدعوة وكيف يجب أن تكون على أصولها من حيث الإيجابية والتأثير، باعتباره يحمل مشعل النور في الظلمات، فلابد للنور أن يظل في مقامه يؤثر في الظلمات فيبددها، ولا بد لحامل لواء الحق من أن يظل مؤثراً فلا يتأثر، ما يوجب الوقوف على حقيقة المثيرات والجوانب والخصائص التي من شأنها أن تُظهر وتبقي حامل النور والحق ظاهراً ومبدداً للظلمات يمشي سوياً على صراط مستقيم.
إن السلوك الإنساني محل البحث تأثيراً وتأثراً- هو عبارة عن الأعمال التي يقوم بها الإنسان لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، حيث تتحرك الحاجة أو الغريزة عبر مؤثرات تثير الحاجة أو الجوعة بحسب نوع المثير، فتظهر الجوعة بمظهرها، فيندفع الإنسان لسد الحاجة عند بلورة الميل الناشئ عن اقتران المظهر المثار مع المفهوم عن الشيء، ومن ثم يقترن الميل مع المفهوم عن الحياة فيندفع الإنسان للقيام بالعمل للإشباع، ولما كان الإنسان مفطوراً على النقص والاحتياج الناشئ عن العجز الطبيعي في تكوينه، فإن آية العجز والاحتياج لا تظهر بحق إلا أمام المستغني ذي الكمال وهو الخالق المدبر، فتظهر الحاجة للخالق في ناحيتين: في الخلق وفي تنظيم العيش، فكان الإنسان متأثراً منفعلاً محتاجاً لخالقه. وبالمقابل فان نظام الخالق هو نقطة جذب وتأثير، فالإنسان مفطور على الاحتياج للأكل والماء والهواء والنوم لسد حاجة جسده في المعاش، وتدفعه طاقة الغريزة للمحافظة على بقائه ونوعه، وتدفعه فطرته التي تقوم على العجز والاحتياج إلى التدين والاحتياج لخالقه؛ وما الإنسان أمام هذه الحاجات والطاقات إلا كريشة في مهب الرياح، فيفني العمر في سد حاجاته وإشباع جميع طاقاته، فهي تتجدد مع كل يوم بل وكل لحظة حتى يتكون من مجموع أعماله سيرة حياته، وعليه فان الإنسان بطبعه يتأثر بما حوله، بل يعيش في أتون من المثيرات التي تحركه للاندفاع، ولكن لا يكون هذا إلا من خلال مفاهيمه عن الحياة الناتجة عن تصوره لها، فالمفاهيم هي بيت القصيد في تحديد السلوك الإنساني إقداماً وإحجاماً وتأثيراً وتحكماً في سلوكه، وتأثراً وتأثيراً من غيره أو عليه. ولما كانت الحاجة والبداية والتأثر الحقيقي في الخلق والأمر هو لجهة الخالق وحده كان التأثير من جهة انتظام السلوك هو لنظام الخالق وحده تأثيراً إيجابياً، وبالتالي فان من يحمل نظام الخالق دعوة ورسالة هو وحده القادر وصاحب الأولوية في التأثير الإيجابي القوي والصحيح إن كان حاملاً له عن أهلية وجدارة.
ولما كانت المفاهيم عن الحياة مبنية على تصور الإنسان عنها، فان تصور الحياة يكون على ضربين لا ثالث لهما:
الأول: هو تصور للحياة على حقيقتها، بإدراك حقيقة الحياة وما قبلها وما بعدها بالأدلة العقلية القاطعة، ومن خلال ربط المسلمات البديهية بواقع الحياة والكون والإنسان للإجابة على التساؤلات الفطرية والتي من خلالها ينتج التصور الحقيقي عن معنى الوجود والحياة، وهذا ما عليه الإسلام.
والثاني: هو على غير شاكلة الأول، فهو خيال واهم وزعم باطل وبلاء ماحق، وباعتبار أن الأول هو الحق والحقيقة، فهو بمثابة الماء لمن أشرف على الهلاك يطلبه حثيثاً، وأما الثاني فهو باطل وخيال ووهم وهو بمثابة السراب الذي يلهث المرء الموهوم وراءه حتى إذا جاءه لم يجده ماءً، وهنا مكمن الداء والدواء، وكل البشر يجمعون على طلب الماء والدواء، وما على أهل الحقيقة إلا أن يقنعوا أهل الضلال أنهم على ضلال وخديعة، وأن الحق في رحال أهله يأخذونه ويعطونه دواءً وماءً.
وإن البشرية على خيارين لا ثالث لهما: إما أن تستجيب العقول وتتأثر بنظام خالقها ومدبر أمرها، فهو المحيط العليم بالحاجات وحجم الطاقات، وما يضمن انسجامها –رغم تفاوتها قوة وضعفاً وتزاحماً وتناقضاً- وقد وضع نظاماً يكفل سعادتها، فيرتقي بذلك الإنسان إلى مستوى العبودية الخالصة لله، تلك المرتبة العالية في السمو الإنساني عن تجاذب الأهواء وتقاذف الغرائز والطاقات، وهنا يكون دور حامل الدعوة في تأثيره وفاعليته في هذه الجولة المصيرية فيشرح ويثقف وينقض الأفكار الخاطئة ويبين ويطرح البديل حتى يصل إلى هداية البشر إلى الخير من رب العباد… أو الدرب الثاني الذي ينحدر فيه الإنسان إلى دركات الحيوان.
إن قدر البشرية هو أن لا تحيا حياة طيبة إلا بنظام الله الخالق المدبر، وهذا يلقي بالواجب والأمانة على أهل الإسلام أن يتبوَّءوا مقعدهم من بين الأمم، فيؤثرون بما يحملون ولا يتأثرون بغيره. وإنه لحري بمن أدرك حقيقة الوجود بوجه قاطع أن يظهر للناس الحقيقة، فيرتفع بهم إلى درجات الرقي الإنساني، فيغير قاعدتهم الفكرية ويقودهم بقيادته الفكرية فيؤثر فيهم، وإنه لا مناص للعين إذا فتحت في النور أن لا ترى إلا نوراً، ولا مناص للعقل عند الحجة إلا اقتناعاً ولا مناص للقلب إلا استيقاناً، وإلا فاستكباراً وشذوذاً، وجملة الناس في أغلبهم أنهم بالفطرة متدينون، وما الشواذ منهم إلا كسقط المتاع الزائل والغبار العابر، والخير في الناس والأمم كثير، والنشاز بالفطرة هو النزر اليسير.
ولا بد لنا من إنعام النظر في بعض المفاصل الهامة التي لا بد للوقوف عليها من قبل حامل الدعوة كشخصية فاعلة مؤثرة وهي:
أولاً: مواطن القوة والضعف في الشخصية:
إن مواطن القوة والضعف في الشخصية هي أمر مختلف بين شخص وآخر، كاختلاف الأطوال، وكاختلاف شدة الأجسام وضعفها، والطاقات وتفاوتها، فموطن القوة عند غيري يمكن أن يكون عندي موطن ضعف، والشدة عندي يمكن أن تكون ضعفا عند غيري وهكذا… وإن مما يلفت الأنظار ويشد القلوب ويشخص بالأبصار أننا في موقع من تاريخ الأمم من خواتيمها، ومن عمر الزمان أواخره، ما يعني أننا قد جمع الله لنا عبر الأولين إلى الآخرين من بني البشر في ضعفهم وقوتهم، وكأننا بل وإننا قد جمع الله لنا الخيرات والعبر في كنانة واحدة، ومخطوطة في قطعة واحدة، ننظر فيها فنرى في سير الأولين كل ضعيف فنعتبر بضعفهم فنتحصن، ونرى كل قوي وبما استقوى به فنتقوى، وإن في هذا لعبرة لقوم معتبرين ونعمة عظيمة نحمد عليها الله رب العالمين، فلينظر كل واحد إلى مواطن ضعفه، فهو أعلم الناس بها، ولينظر في عبر الأولين ليتحصن من ضعفه بها، ولينظر إلى مواطن قوته فيزيدها قوة، وهذا يضعنا أمام حقيقة قاطعة وهي أن كل واحد منا فيه ضعف وفيه قوة، فإن ترك الضعف فيه فيزداد ضعفاً، وإن ترك القوة فتنقص قوته فينكص على عقبيه، والكيِّس من عالج ضعفه وتحصن وزاد قوة على قوته، والحقيقة الأكيدة هي أن لا مناص لنا من أن نلازم القرآن لا نفارقه فننظر في قصصه، وإلى السيرة نقلب أفئدتنا وأبصارنا في كل مواطنها، وإن في ذلك لخيراً يرتجى، وحصناً إليه المأوى للمتذكرين. وإن جماع الخير في ذلك هو الاستعانة بالله والتوكل عليه والفرار إليه بالطاعة والإنابة والتقرب إليه بأكثر مما افترض.
ثانياً: المميزات الخلقية والمكتسبة والتي إن وجدت تجعل الشخص مؤثراً:
إن إدراك مواطن القوة والضعف في الشخص تجعل منه قادراً على الأخذ بجميع الأسباب الممكنة، كي لا يقع فريسة لعدوه، ولا ريشة أمام أهوائه، بل ويتجاوز هذا وذاك، فيحرص على أن لا يبارح موقعه الحقيقي الواجب، فيكون في موقع الهجوم والتأثير والفعل لا في موقع الدفاع والانفعال ورد الفعل، وإن القادة العظام هم الساسة المبدعون، وهم من عرف قدر نفسه فأحاطها بما يؤهلها لاقتعاد مواقع الأهلية في قيادة الركب وحسن رعايته. هذا من جهة الشخص ونظره في حاله وكيف يصنع، وأما من جهة أصحاب الصلاحية ومن يختارون ممن هم أهل الكفاية فيما يقومون من أعمال وتكاليف خاصة فإنهم لا بد لهم من النظر إلى مواطن الضعف والقوة فيرقبون البسطة والمؤهلات والكفاية في العلم والجسم، قال تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)) فالقوة والأمانة صنوان في المهمات الجسام والقوة والعلم توأمان لا ينفصمان. إن القوة والصلابة والصبر والجلد والقسوة واللين وقوة الشخصية وتمحيص الرأي والسهولة والحزم وقوة الإرادة وقدرة الإدارة والسرعة والإبطاء وبلادة الحس ورهافته ورفض الضيم والشهامة والإيثار وحسن الطاعة والإنابة وطيب النفس والحذاقة والسذاجة كل هذه الأمور مما هو من طباع النفس أو ما كان منها مكتسباً، فإن منها نقاط ضعف تجعل صاحبها منفعلاً متأثراً بغيره على الدوام، وإن أضدادها تجعل صاحبها قوياً فاعلاً ومؤثراً على الدوام. وفي هذا المقام يأتي قول رسول الله إلى الضعاف ينهاهم عن تولي الإمارة: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) ومن قوله: (إنك ضعيف) كانت خشية بعض الصحابة منها وعزوفهم عنها لخشيتهم من ضعف قد لا يرونه أو قوة ترومهم . ومن كل هذا نهتدي إلى أن المسؤولية مزدوجة في أصحاب الصلاحية من جهة التقويم والتمحيص والاختيار، ومن جهة من سيقدم يقحم الأمر عن أهلية واقتدار.
إن حملة الدعوة لابد أن يظلوا في تنقيب مستمر عن نقاط ضعفهم عقلية ونفسية ليظلوا في ازدياد بشكل تصاعدي فيدرسون ويتعلمون ويبحثون ويتزودون، ولا يجيبون إلا بما علموا، ولا يتصدرون للأعمال إلا بعد أن يستوثقوا من قوة تأثيرهم وقدرتهم على إيصال الحق في أي ميدان .
ثالثاً: الشخص إما أن يؤثر أو يتأثر ولا خيار ثالثاً بينهما:
إن معنى أن الشخص إما أن يؤثر أو يتأثر هو أن الفكر والدعوة بقوة صاحبها في فهمها ووعيها ومقدار جعلها مركزاً لتنبهه ودوران مصالحة ومعاشه حولها، بالتي تجعله عالي الكعب لا يشق له غبار في إشاعة نور دعوته وهداية الناس إلى ما هداه الله إليه، وكل من تسمَّى أنه حامل دعوة ولا يأخذ بأسبابها فإنه حتماً سيتأثر إن لم يأخذ دوره بالتأثير، فالضعيف تراه لا يكترث بمنكر ولا يبين وجه الحق في قضية ما لابد له أن يكون صوت الحق فيها، وقد تراه يخفي أو يواري على شخصيته أنه حامل دعوة، أو يدعي أنه لا يستطيع الخلط بين دعوته ووظيفته أثناء العمل، أو يقع في الحرج إن استعمل موقعه الاجتماعي أو الوظيفي في خدمة الدعوة، أو يجامل على حساب الدعوة ليحصل على علاوة، أو ليسهل عليه قضاء مصلحة ما، وقد يصيب صاحب الدعوة كسل أو ملل فيأخذ جانباً في الوقت الذي يستنفر أهل الباطل بخيلهم ورجلهم يسعون فساداً في أمهات بلاد المسلمين وبين أظهرهم وفي جوف بيوتهم، فأي ضعف وأي تأثر هذا، في وقت يحتاج منا الإسلام كل رمق وكل حركة وسكنة وكل جولة وكل جهد وبذل وعطاء وبأقصى طاقة؟!.
إن سادتنا الصحابة -رضي الله عنهم- منهم من أفنى عمره ولم يعذر لنفسه هرم جسده فظل قائماً مجاهداً مثل عمار بن ياسر، ومنهم من مات غريباً أو استشهد بعيداً عن وطنه مثل أبي أيوب الأنصاري وعبادة بن الصامت، ومنهم من أفنى ماله وكل حياته في سبيل الله وصحبة رسوله، ومنهم من بذل كل عقله وفكره حتى قامت للدين قائمته وعز وساد. إن التفاني للبقاء في دائرة التأثير على الدوام والحيلولة دون الدخول في دائرة التأثر هو دأب الصالحين المصلحين، فهذا أبو ذر رضي الله عنه لم يقبل البقاء على دينه في قومه دون التأثير عليهم ودعوتهم حتى أسلمت غفار، فلا يقول قائل هذا تكليف وهذا تخير لأن صاحب الرسالة لا يحيا إلا على دعوتها، ولا يطيق السكون في غير أتونها، ولا يهدأ بل يظل متفاعلاً مؤثراً في الأرجاء والآفاق حتى يعمرها بها. إن حامل الدعوة هو خير من يأخذ بجميع الأسباب والوسائل والأساليب الممكنة شرعاً ليجعل من البيان سحراً يأخذ بتلابيب القوم حتى تهوي إليه أفئدتهم، ولا ترى من غيره نور أبصارهم وبصائرهم، ألم تروا كيف بهر مصعب بن عمير أسيد بن حضير وسعد بن معاذ- وهما سيدا قومهما- عندما أتوه مهددين مزبدين مربدين فاختار لهم من الكلام ما يناسب مقامهم وما يجعل استسلامهم حتمياً وكانت له من بعد ذلك الجولة والنصر والكسب العظيم الذي فتح الله به على الإسلام وأهله؟،ذكر ابن هشام: ( فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟)
وهذا أبو بكر رضي الله عنه يستثمر شخصيته المهابة الوقورة الواثقة وصحبته المباركة لنبينا في أحلك الظروف وأشدها مصاباً عقب وفاته صلى الله عليه وسلم، فكان لكلماته الأثر البالغ العظيم في استقرار نفوس المسلمين ونزول السكينة على قلوبهم بأسلوبه الراقي الحكيم حيث شدَّ عقولهم لما استقر في قلوبهم شدّتين متواليتين في مقارنة مهيبة، ومن بعدها تلا القرآن ليستقر به قرارهم، جاء في صحيح البخاري: (فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: بأبي أنت وأمي، طبتَ حياً وميتاً، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقال: (إنك لميت وإنهم لميتون) وقال:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) قال :فنشج الناس يبكون)
رابعاً: الشخص الإيجابي وحامل الخير هو الأولى بالتأثير والعطاء:
إن حامل الدعوة يتبوأ موقعاً في الناس هم في أشد الحاجة إليه، فهو بمثابة الطبيب والقائد، فهو يداوي المعتلَّ حتى يرى شفاءه، وهو يقود أمته والبشرية إلى بر الأمان نحو سعادة الدنيا والآخرة، فمن غير حامل الدعوة المبصر لحقيقة الوجود قد وصل بفضل الله إلى تفسير معاني الحياة: ما قبلها وما بعدها، وعلاقتها بما قبلها وما بعدها، وقد حاز حظ الدنيا والآخرة برحمة الله ؟، وقد تشرَّف بحمل رسالة السماء، بما تشتمل عليه من عقيدة تملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة، وما ينبثق عنها من أنظمة تجعل للحياة معنى بارتباطها مع الآخرة، ذاك الارتباط الحتمي بين حسن الالتزام بأنظمة الله وحسن الجزاء. وإن البشرية جمعاء لهي بحق عطشى وتنتظر من حامل الدعوة الإسراع لا الإبطاء والبذل كل البذل. فمن غير حامل الدعوة يقوم بهذه المسؤوليات الجسام؟ إن حامل الدعوة هو من تربَّى على خصائص التأثير، فهو منذ تعلم طريق الإيمان ترسخ عنده أن العقيدة هي الحل للعقدة الكبرى، فهو بذلك يملك إشباع حاجة البشرية بما عنده من حل، وهو الذي تعلم أن العقيدة هي قيادة فكرية وقاعدة تنبثق عنها وجهة النظر ومقياس الحياة وتصوير الحياة وسائر أنظمتها مما تحتاجه البشرية لعيش مستقر موصل إلى السعادة، وعليه فان البشرية بحاجة لحامل الدعوة، ولو علمت ما عنده من خير لأتته مسرعة لا تكلفه مؤونه السعي والتأثير، فهو أهل بما يحمل من خير عميم لأن يتقدم لإمامتها في كل ميدان، وصاحب فضل بما يملكه من خير يعلو ولا يعلى عليه، لقد ترسخ في عقل وقلب حامل الدعوة عقيدة تدعوه للمبادرة والفعل والتأثير بالصراع والكفاح والنضال في سبيل سيادتها، ومنها ماؤه وهواؤه ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين. أوليس كل هذه المزايا تجعل من حامل الدعوة الأولى بالتأثير والعطاء والمبادرة؟ فحرام أن يعيش حامل الدعوة على هامش الحياة، وجريمة عظمى أن ينأى بجانبه عن خوض غمار المجتمع ويتركه لأهل الشذوذ الفكري والروحي، أوليس حامل الدعوة هو الذي صنع أمة هي خير الأمم؟ أوليس حامل الدعوة هو الذي يغير سلوك الفرد والمجتمع بقوة حجته وصفاء فكرته واستقامة طريقته؟ أوليس حملة الدعوة هم أولئك التجار الذي تقدمت دعوتهم على تجارتهم ففتح الله على أيديهم إندونيسيا ودخلت في الإسلام بالحجة والفكرة من دون قتال؟ أوليس حملة الدعوة هم الذين يخوضون غمار الصراع الفكري والكفاح السياسي فينفون عن الإسلام ما ليس منه، وينقضون كل فكرمن غير الإسلام؛ فتستبين سبيل الحق من سبيل المجرمين؟ فهم من يقومون بالكفاح السياسي فيكشفون المؤامرات ويسعون مع أمتهم لإحباطها ما استطاعوا؟ أوليس حملة الدعوة هم قادة المشروع الحقيقي الواضح لنهضة المسلمين باستئناف الحياة الإسلامية من خلال دولة الخلافة لتعود الأمة إلى موقعها في الصدارة بين الأمم؟ نعم كل هذا وغيره هي شواهد حية تجعل من حامل الدعوة دائم التقليب والنظر في شؤون المسلمين والعالم، يقظاً مبدئياً عاملاً بانياً وهادماً حتى يصل إلى ما يسعى إليه، فهو الأول بالسعي والقيادة والتأثير. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي”. رواه مسلم
خامساً: دور الرسالة والدعوة في صناعة شخصية حامل الدعوة كقائد يؤثر فيثمر:
إن وجود حامل الدعوة في الجو الإيماني للدعوة يكون بصحبة إخوانه من حملة الدعوة، في الدراسة والنقاش والتشاور والاتصال والزيارات الخاصة والعامة، ويكون في جو المطالعة والتزود بالثقافة التي تحقق فيه الأعلمية التي تهيّئه كحامل دعوة لتبوُّء قيادة الناس عن أهلية و جدارة، فالأمم لا تعطي قيادتها إلا لعالم يبصر برَّ أمانها وسبيل سعادتها وحفظ الخيرية لها. وحامل الدعوة لا يكون مؤثراً قائداً إلا في بنائه التصاعدي في عقليته ونفسيته وإلا أن يكون صاحب همة عالية تستسهل كل صعب، فيبحث في أسلافه من أصحاب الدعوات فينظر في مواطن القوة وعروتها الوثقى، وينظر كيف صبر نوح عليه السلام على النتائج وما زادته إلا إصرارًا على دعوته مئات السنين. فإدراكه بأن النتائج هي على الله، وإيمانه بمعية الله له، وقناعته بأن الواجب هو العمل حتى تتحقق النتائج من دون أن يتطرق إليه يأس، ويعمل بعمله الذي لا يتوقف ولا يتأثر بالنتائج أحقاً تحققت في حياته أم لم تتحقق، فيكون فاعلاً مؤثراً لا منفعلاً متأثراً بالواقع، وهو يعلم علم اليقين بأن عليه ما حمل، وهو محل الجهد والاجتهاد والتفاني والإقدام، وعندما يرى حامل الدعوة صبر إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده بيده طاعة لله يصبر على فقد الأهل والولد طاعة لله؛ فيصبح مؤثراً فاعلاً لا متأثراً منفعلاً فلا تلين له قناة، وبالمقابل فإنه يهزم عدوه بالجلد والقوة المبنية على الإيمان والعبرة المستقاة. وعندما يرى حامل الدعوة كيف أن الفكرة أثمرت مع سيدنا يونس بعد حين فيتعلم أنه ما دام يزرع بذرة نافعة فلا بد لها أن تنبت شجرتها و تثمر؛ فلا يتأثر بردة فعل آنية ولا يرتبط باستجابة ومجاملة أو نفور، بل يظل على قناعته بأن ما يزرعه خير فلا يتنكب عنه، بل يظل زارعاً ناشراً للخير لا ينظر إلا إلى الأمام بكل قوة، فيكون مؤثراً فاعلاً لا منفعلاً متأثراً. ولو نظر حامل الدعوة إلى صلابة أهل الأخدود وهم يقتحمون النار في سبيل ربهم فيدرك أن الإيمان بلظى جهنم لا يقارن بأي نار، فينكر المحسوس الحاضر من العذاب ولا يكترث به ويقبل أن يحرق به في سبيل مرضاة الله وطمعاً في جناته وهروباً من شرر ناره، فيكون مؤثراً فاعلاً لا منفعلاً متأثراً، ولن تلين له قناة، ولن ينكسر أمام العتاة، بل هو الذي يكسرهم بصلابته وتفانيه وقوة إرادته في سبيل قضيته ومرضاة ربه. وعندما ينظر حامل الدعوة لمحطات كثيرة في سير الأولين ممن تقلبت عليهم الأهوال والمحن والأيام وصنوف من الفتن العظيمة المظلمة فينظر وهو يقلبها إلى حلقات الضعف ومواطن القوة فيتقوى بالقوي ويتحصن من الضعف فيصنع شخصيته على عين بصيرة تكون فاعلة مؤثرة لا منفعلة متأثرة، فيكون عندئذ أهلاً لصناعة أمة وبانياً لجيل راشد شديد ويكون جديراً بالقيادة، يطمئن الناس بإمامته ويثقون بقدرته على تجاوز الصعاب والقيام بأعظم المهام عن جدارة وشجاعة وأعلمية وكفاية واقتدار.
إن حامل الدعوة هو صاحب رسالة في هذه الحياة، فلا يعيش على الهوامش تتقاذفه أهواؤه وأهواء غيره متبوعاً مذؤوماً مدحوراً، يتكفف الناس، بل هو يتربَّى على عقيدة تكوّن فيه ثورة جامحة لا تهدأ ما دامت جذوتها بين جوانحه مشتعلة فتجعله مؤثراً فاعلاً مكافحاً ومناضلاً بفكره يدمغ الباطل، وسياسياً يكافح أهل الباطل، حتى يظهر الإسلام في كل ميدان، وتقوم للدين قائمته فيظهر في دولة تطبقه وتحمله رسالة للعالم. لذلك فإن حامل الدعوة يتحصن في دراسته بالحجة الدامغة والقول السديد المبني على قوة الاستدلال، وهذا لا يتحصل بدرس رتيب في الأسبوع مرة أو مرتين، بل هو نبش للكتب الصفراء، ومجالسة للإخوة من الأقران ومن الأعلام، وهو خوض لغمار المجتمع وتقليب لشرائحه بالنصح والمحاسبة والاتصالات وبالتواصل الدائب الذي لا ينقطع، وبالمبادرة وخلق الفرص ومراقبة فكر المجتمع وحسه لأداء واجب القوامة للحيلولة دونه ودون الانتكاس، بل ولرفعته إلى الرقي والنهضة والعيش الكريم. ولقد جعل الإسلام المسلم حامل الدعوة قواماً يقظاً تحت طائلة المسؤولية في كافة الظروف والأحوال، فخاطبه بشكل فردي وباعتباره يحمل مسؤولية الجماعة ليظل على الاستعداد والمبادرة وخلق الفرص في التأثير والفاعلية والقيادة على الدوام. قال صلى الله عليه وسلم: «أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ويقول: ” مثل القائم على حدود الله والواقع فيها أو المدهن فيها مثل قوم ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرَّها وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذِ مَنْ فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً” .
2012-09-11