تأملات في الثورات
2012/07/11م
المقالات
2,028 زيارة
تأملات في الثورات
حمد طبيب- بيت المقدس
كثيراً ما نسمع بعض السطحيّين في النظرة السياسية من يقول: وماذا فعلت الثورات في البلاد العربية؟!، ثم يبدأ يعدّد أموراً من أرض الواقع تزامنت وواكبت هذه الثورات مثل انتشار البطالة، وانعدام الأمن، وغياب القانون، والخسارة المادية، وبقاء الاتفاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع يهود… إلى غير ذلك من أمورٍ موجودة حقيقةً في أرض الواقع..
والحقيقة أن هذا الأمر لا يُنظر إليه بهذه الطريقة السطحية في الاستنتاج والخروج بالقرارات، إنما يجب أن يُنظر إليه نظرةً أخرى تختلف اختلافاً كلياً عن هذه النظرة السقيمة العقيمة في سبر الأمور ومعرفة أبعادها ودلالاتها..، فكيف تكون النظرة الصحيحة لهذه الثورات؟ وكيف نقيّمُ فوائدها وآثارها في العالم الإسلامي مادياً ومعنوياً؟ وقبل الإجابة عن هذا نريد أن نقف على أمرين مهمين يتعلقان بهذا الموضوع؛ وهما الجانب العقائدي، والجانب التاريخي؛ أما بالنسبة للجانب العقائدي فإن الأصل في الإنسان المسلم أن يضحّي بالغالي والنفيس من أجل الأمور العقائدية، فيجوع ويعرى، ويتحمل الأذى في سبيل هذه العقائد، ولا يقيس الأمور بالنواحي المادية فقط من منطلق الربح والخسارة المادية، فهذا قياس سقيم يجعل من المسلم إنساناً رأسمالياً نفعياً ومصلحياً…؛ فقد يسجن الإنسان من أجل الأفكار التي يحملها، وقد يتعرض للأذى النفسي والجسدي، وقد يهجَّر من وطنه وقد يُطرد من وظيفته.. إلى غير ذلك من ألوان الأذى، فهل يتخلّى المسلم عن عقيدته ومبدئه مقابل هذه الألوان من الضغوطات والإيذاءات؟!
فلو نظرنا في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام على سبيل المثال لرأينا أنه صلى الله عليه وسلم قد عُرضت عليه الأموال والمناصب والشهوات من النساء، وكان يقول في كل مرة: ما عند الله خير وأبقى، لا أريد مالكم ولا مناصبكم.. وعندما جاءه عمه أبو طالب وحاول أن يؤثّر على موقفه من منطلق علاقة القرابة والعائلة قال له: «..يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته» (السيرة النبوية/ابن هشام)، وفي رواية «..ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم أن تشعلوا منها (يعني: الشمس) شعلة» رواه الحاكم في المستدرك.
وظلّ عليه الصلاة والسلام مع أصحابه يتعرضون للأذى والحرمان والمقاطعة والتشديد في سبل العيش، والتهجير إلى الحبشة.. ولم يتنازلوا عن جانب العقيدة، بل ظلّوا مصمّمين على هذا الهدف السامي النبيل من أجل مرضاة ربهم عز وجلّ!!.
أما الأمر الثاني وهو الجانب التاريخي؛ فلو نظرنا إلى الثورات المتتابعة في العالم العربي لرأينا أنه لم يمضِ عليها بعد وقت طويل -مقارنة مع حركات التغيير التي حصلت قديماً وحديثاً- حتى نحكم على فشلها؛ فالثورات لا يُحكم عليها بسنة واحدة أو سنتين، بل تحتاج إلى سنوات حتى تتبلور الأمور وتُعطي ثمارها، وهذا بالفعل ما حصل مع الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته قبل الدولة وبعدها، فقبل الدولة مكث الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً متتالية حتى مكّنه الله من النصرة، وبعد الدولة أيضاً استمرت المعاناة والحروب والحصار والجوع حتى استقرت الأوضاع وانحسمت داخل جزيرة العرب لصالح الدولة الإسلامية..
ولو نظرنا أيضاً في تاريخ الثورات المعاصرة لرأينا نفس النهج مع اختلاف الفكر، فالثورات ضد النظام الكنسي في أوروبا مكثت عشرات السنين، وحصدت الآلاف بل مئات الآلاف من الأرواح، وظلّت الشعوب مصمّمة على هدفها حتى تحقّق في النهاية وانتصرت على ظلم الكنيسة. والثورة الفرنسية قد تجاوزت المائة عام 1789م-1799م قبل أن تستقر الأمور فيها وترفع شعار الحرية الذي تفتخر به هذه الأيام!!.
فالقول إن الثورات لم تحقق شيئاً، أو إنها أعطت نتائج عكسية هو قول المثبِّطين أو المأجورين، وليس قول المصمِّمين على إزالة الظلم والظلام من بلاد المسلمين…
وهناك أمر آخر في النظرة الى الجانب التاريخي يتعلق بالمرحلة التي إعقبت هدم الدولة الاسلامية في مطلع القرن الماضي؛ فبعد أن هدم الكفار الغربيون الدولة الإسلامية في بدايات القرن الماضي؛ اطمأنوا أنه لن تقوم للإسلام قائمة أبداً، وخاصة بعد أن وضعوا أساليب الحرب الماكرة للإسلام؛ لفترة ما بعد هدم الدولة… لكن إرادة الله عزّ وجل كانت أقوى من إرادة هؤلاء الكفرة المجرمين حيث بدأت المفاجآت تُقبل عليهم واحدةً بعد الأخرى من قِبل أمة الإسلام الحيّة، والتي ظنوا كل الظن أنها لن تقوم لها قائمةٌ أبداً… فكانت المفاجأة الأولى وهي بروز قوىً إسلامية جهادية في العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد العربية، تحمل سيف الجهاد والقتال ضدّ قوى الاستعمار، وتقاتل من أجل التخلّص من هذا الاستعمار العسكري، ثم جاءت المفاجأة الثانية لهذا الغرب وكانت أشدّ وقعاً على نفسه من الأولى ألا وهي: (بروز حركات فكرية تعمل تحت عنوان الدين) من أجل إعادته وإحيائه في الأمة، وكان هذا الأمر عاماً تقريباً في معظم البلاد في العالم الإسلامي، فبرزت جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعة الإسلامية في الباكستان وجماعة الدعوة في الهند.
فجنّ جنون الغرب وطار صوابه، والسبب أنه بذل جهوداً جبارة للالتفاف على الثورات في العالم الإسلامي لحرفها عن مسارها وتضليلها عن طريق قادة بعض الثورات ممن ربطهم به مباشرة، فأخذ هذا الغرب الكافر يعمل بكل ما أوتي من قوة ومن دهاء سياسي من أجل احتواء هذه الجماعات والتوجهات -في العالم الإسلامي- بعدة طرق ووسائل؛ كما فعل من قبل في الثورات العسكرية، وقد استطاع إلى حدّ ما تجيير البعض من حركاتٍ وتوجهاتٍ إسلامية، لكنه لم يسيطر على الموقف في هذا الميدان، ولم يستطع خديعة الجميع فظلت الحرب سجالاً بينه وبين التوجه الإسلامي، لدرجة أنه استخدم الورقة الأخيرة في مواجهة هذا المدّ الإسلامي وهي الحرب العسكرية؛ والتي كان يؤججّها حتى يستنفذ كل الوسائل المتاحة، فخاض في نهاية المطاف حرباً عالمية ضد الإسلام اسمها (الحرب على الإرهاب)؛ وما زالت حتى يومنا هذا مستمرة بكل ألوانها وأساليبها!!…
ولم يمضِ وقت طويل على هذه الحرب العالمية الهابطة المضلّلة حتى حصلت المفاجأة الثالثة الجديدة وهي (الثورات التي توقّدت غضباً في العالم العربي)، وقطعت الخطّ على أساليب الغرب وخططه في مواجهة المدّ الإسلامي والتحايل عليه.. فكانت هذه الثورات بمثابة الصاعقة المزلزلة التي هزّت كل القوى السياسية الكافرة في العالم.
وقد بدأ تاريخٌ جديد عند القوى السياسية في بلاد الغرب يقوم على أسس التعامل مع هذه الثورات ومحاولة تجييرها وركوب موجاتها .
وهنا نريد أن نقف قليلاً في كيفية تعامل الغرب مع هذه الثورات، ولا بد من استعراض بعض الأمور السابقة لربطها بالواقع وبما هو قادم أيضاً في المستقبل القريب، وهذه الأمور هي:
1- عندما انهارت المنظومة الاشتراكية صدرت عدة تصريحات من قبل الساسة الغربيين بشكل خاص، والكفار بشكل عام تقول: “بأن العدوّ الكبير بعد الاشتراكية للرأسمالية والغرب هو الإسلام السياسي”، من هذه الأقوال على سبيل المثال:
ما صرح به (ويلي كلاس) الأمين العام لحلف شمالي الأطلسي في مقابلة له مع المجلة الألمانية (سودويتشه تسايتونغ) سنة 1995م: “إن الأصولية الإسلامية تشكل تهديداً للغرب بالقدر الذي كانت تشكّله الشيوعية”، وما قاله (شمعون بيرس) -أشهر الساسة في كيان يهود-: “لقد أصبحت الأصولية الخطر الأعظم في عصر ما بعد انهيار الشيوعية”.
لذلك وضع الغرب الخطط الكاملة لتطويق هذ المدّ الإسلامي السياسي والسيطرة عليه، ومن هذه الخطط الحرب المادية والحرب الفكرية والحرب التضليلية.. وما زالت هذه الأنواع الثلاثة مستمرة على قدم وساق في كل المعمورة على وجه الأرض.
2- من ضمن الحرب التضليلية التي سار في ركابها الكفار في حربهم للإسلام السياسي؛ محاولة إيصال بعض الجماعات المسماة في لغتهم السياسية (المعتدلة) إلى الحكم من أجل ضرب الإسلام السياسي المخلص والسيطرة عليه ومنع امتداده، فكانت خطة الغرب في تركيا وفي إيران، وحاولوا نقل هذا النموذج إلى بعض البلاد العربية كمصر، لكن الثورات فاجأتهم -كما قلنا- وقطعت الخطّ على خطة سيرهم فتوقفوا، وقد صدرت أقوال كثيرة لساسة غربيين تحث على استخدام ورقة الإسلام المسمّى بـ (المعتدل) لمواجهة الإسلام السياسي؛ من هذه الأقوال ما صرح به وزير الخارجية الفرنسي (آلان جوبيه)؛ حيث دعا إلى الحوار مع الحركات الإسلامية في العالم العربي، وخاصة تلك “التي تنبذ العنف وتقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية”، وما قاله (أنطوني ليك) مستشار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القومي: “..إنّ واشنطن تعرض كل تعابير الصداقة لأولئك المؤمنين بالإسلام الذين يلتزمون السلام والتسامح، لكننا سنوفر كل مقاومة لمواجهة المتطرفين الذين يشوّهون العقائد الإسلامية، ويسعون إلى توسيع نفوذهم بالقوة”؛ ونقلت صحيفة (واشنطن بوست) في شهر شباط 2011م عن مسؤول أميركي بارز قوله: “علينا أن لا نخاف من دخول الإسلام في السياسة في هذه الفترة في بلدان الشرق الأوسط”، وفي تقرير لمحطة (BBC) الفضائية بتاريخ 1تموز 2011م نقلت تصريحاً لوزيرة خارجية أميركا (كلينتون) قالت فيه: “مع تغيير المشهد السياسي في مصر، من مصلحة الولايات المتحدة إجراء حوار مع كل الأطراف الذين يبدون توجّهات سلمية وغير عنيفة”، وأضافت أن ذلك “لا يعتبر سياسة جديدة لكنها خطوة اعتُمدت منذ خمس أو ست سنوات، وأن واشنطن تستأنفها”، وقالت أيضاً: (إن الإدارة الأميركية ما برحت تجري ما وصفته باتصالات محدودة مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية أكبر الحركات الإسلامية في مصر”!!..
3- الثورات العربية التي عمت العالم الغربي كانت في أغلبها ذات طابع ديني وتنادي بشعارات دينية؛ لذلك أراد الغرب أن يستأنف طريقة عمله التي توقفت لبعض الوقت؛ في إيصال بعض الجماعات الدينية لسدة الحكم، ضمن أحوال وشروط معينة منها:-
أ- إبقاء سيطرة القوى العسكرية على مقاليد الأمور كصمام أمان لأية مفاجآت.
ب- قبول الحركة الإسلامية بمبدأ الديمقراطية والدولة المدنية، والتعهد بعدم إقامة دولة إسلامية ولا حتى دينية، وعدم اللجوء إلى القوانين الإسلامية كمصدر للتشريع.
ج- القبول بالقوانين والأعراف والمواثيق الدولية وعدم مخالفتها.
د- الاعتراف بكيان اليهود مستقبلاً، وقبول كل الاتفاقات الخاصة به وبنظرة الغرب لمستقبل المنطقة السياسي.
وعلى أساس هذه الشروط قبل الغرب –في ظلّ حكم العسكر من الجيش التونسي- بحركة النهضة أن تصل للحكم في تونس، واستخدم هذه الورقة الخطرة في امتصاص نقمة الشعب التونسي، وهو يحاول هذه الأيام امتصاص الثورة في أرض الكنانة وفي أرض الشام بنفس الطريقة، فهل سينجح الغرب في هذه الخطط الشيطانية الماكرة؟!
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: بأن الغرب إن نجح في الالتفاف على الثورات فلبعض الوقت وليس على الدوام؛ والسبب يرجع إلى عدة أمور منها:-
1- الطابع العام لهذه الثورات هو ديني (إسلامي) وكل شعاراتها إسلامية، وإذا أراد الغرب تقديم بعض المضلّلين لقيادة الناس فإنه حتماً ستكشفهم الأمة بعد فترة ليست بالطويلة؛ لأن الإسلام واضح يعرفه العالم والعامّي في البلاد العربية، ولا يمكن أن يضلّل الغرب كل الناس كل الوقت؛ وخاصة أن بوادر الوعي في الأمة تزداد يوماً بعد يوم في ظل الثورات المباركة.
2- الوضع المتردّي اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً لا يمكن أن تنقذه هذه الشعارات والأساليب التغييرية، لأنها من جنس النظام السابق، ولا يمكن أن تُحقق العدالة والرفاه والاستقامة لهذه الشعوب المنتفضة.
3- وجود جماعات مخلصة وواعية في البلاد العربية توجّه الناس، وتكشف المؤامرات، وتضع الإصبع على مواطن الداء، وهذا أكثر أمر يخشاه الاستعمار ويحاول تطويقه وطمسه ومحاربته بكل الوسائل والسبل، ولكن إرادة الاستعمار الغربي ووسائله وأساليبه كلها ستتحطم في نهاية المطاف على صخرة صلبة، والسبب هو أن كل الاتجاهات والجماعات التي يدعمها الغرب لقيادة الناس هي قيادات ظاهر فيها علامات العمالة والتبعية السياسية، لذلك سوف تزداد الأمة التفافاً حول هذه الأصوات المخلصة في العالم العربي بشكل خاص والعالم الإسلامي بشكل عام..
4- عدم اتفاق الغرب تماماً على شكل الحلول المطروحة لكل ثورة من هذه الثورات، وبالتالي عدم اتفاق دول المنطقة الموالية للغرب على هذا الأمر، وهذا يؤدي إلى تفاقم الأمور وزيادة الصراع العسكري والسياسي معاً، ويؤدي إلى أن تدفع الأمة الثمن الباهظ في دائرة هذا الصراع الملتهب، وسيدفع الناس في نهاية المطاف للتفكير في الحلول التي تخلّصهم من هذه الشرور المستطيرة المريرة..
لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها فإنه ليس من السهل على الغرب وعملائه جلب الاستقرار السياسي والعسكري في مناطق الثورات المشتعلة، وبالتالي فإن هذه المرحلة من التآمر على الثورات ومحاولة وأدها ستفجر مرحلة قادمة أكثر سخونة، وأكثر وعياً في نفس الوقت؛ لأن الأمة قد عرفت الداء والدواء، لذلك فإن ثورات قادمة بعد الثورات الحالية سوف تشتعل في كل المناطق التي حصلت فيها مؤامرات سياسية وعسكرية على الثورات المخلصة؛ سواء أكان ذلك عن طريق الحركات العلمانية التي ساعدت الغرب في الالتفاف على الثورات، أو كان عن طريق بقايا النظم الآفلة المتهاوية، أو كان بمساعدة الجماعات الإسلامية العلمانية في نظرتها..
وسوف تكون المفاجئة الرابعة القادمة إن شاء الله تعالى هي: (وصول المخلصين إلى سدّة الحكم والقيادة بعد التفاف الأمة حولهم، وبعد تطاير فقاعات الزبد التي اعتلت سطح الماء وغطت الماء الطاهر الصافي النقي)!! ..
وفي الختام نخلص إلى عكس النتيجة التي يخلص إليها البعض من ضعاف التصوّر حين قالوا: إن الثورات لم تغيِّر شيئاً بل زادت الأمر سوءاً على سوء، فنقول: هذه الثورات هي مفتاح الفرج للأمة لأنها برهنت على حيوية هذه الشعوب وقوتها، وعلى تأصل الإيمان في قلوبها، وبرهنت كذلك على توقد الروح الجهادية في حنايا أبنائها، ولسوف تتكشف الأيام القادمة بإذنه تعالى عن تيار جارف نحو الخير يسعى إلى إقامة حكم الإسلام رغم أنف الكفار ومؤامراتهم ليصدق بذلك قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)).
2012-07-11