المحافظة على نقاء الوسط السياسي
2004/04/10م
المقالات
2,205 زيارة
المحافظة على نقاء الوسط السياسي
قال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» رواه البخاري.
من المعلوم قطعاً، أن من هاجر، قبل الفتح، إلى المدينة المنورة، هاجر يشده إيمانه، ويدفعه حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، والتزامه بالإسلام، لذلك كان هؤلاء المهاجرون أهلاً ليكونوا الوسط السياسي المحيط بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هجرتهم كانت لله ولرسوله، وليس لمكاسب دنيوية، أو مطامع شخصية، أو حباً بحظوة لدى قائد الدولة والمجتمع.
ــــــــ
أما بعد الفتح، فإن ضعاف الإيمان، وأصحاب الأهواء، وذوي المطامع الدنيوية، إذا هاجروا إلى المدينة، وهي العاصمة، فإنهم كانوا سيسببون البلبلة، ويحدثون الاضطراب والتشويش، داخل الوسط السياسي المتمركز في العاصمة النبوية، والمتمثل بالصحابة، رضوان الله عليهم.
وقد لا يعد هؤلاء الجدد في الإسلام، من هذا الوسط السياسي، ولكنهم، ولا شك، سيؤثرون سلباً في نقاء هذا الوسط، بما لهم من صداقات، وقرابات، وقدرة على الكلام، وقد تصل إلى حد التشويش على مفاهيم هذا الوسط. وقد قال تعالى: (وفيكم سماعون لهم( .
بل إن الآخرين الجدد، إذا ما دخلوا هذا الوسط فجأة، ولم يعرفوا طبيعة تفكير الإسلام، ولا آلية قيادة الأمة، ولا كيفية سياسة الناس بما انبثق عن الإسلام من أحكام، نقول: إن هؤلاء الجدد، بسبب جهلهم بذلك كله، سيقومون ليس بالتشويش، وإحداث الاضطراب ضمن الوسط السياسي فحسب، بل ربما يصل تأثيرهم إلى الفكرة نفسها، وإلى صاحب القرار النهائي، وإلى انتقاده شخصياً، ليس لأنه مخطئ، بل لأنهم لا يعرفون طبيعـة هذا الشـرع، ألم يقل أحد المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم: «اعدل».
والدولة –أية دولة- بشكل عام، تأخذ هيبتها وقوتها إذا كان لها وسط سياسي قوي من جنس فكرتها، يدعمها ويحملها إلى الآخرين، ويحمل الآخرين على القيام بها. وما سقطت الدولة الإسلامية إلا بغياب الوسط السياسي الذي يحمل فكرتها ويلتزم طريقتها في الحياة.
لذلك رأيناه صلى الله عليه وسلم يحرص على البقاء في هذا الوسط السياسي، حيث إنه بعد الفتح، لم يذهب إلى مكة، رغم أن العرب تنقاد قلبياً لقريش، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: «ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله» رواه مسلم، أي إنه صلى الله عليه وسلم بوصفه نبياً أولاً، وقائداً سياسياً ثانياً، آثر البقاء في الوسط السياسي الذي أنشأه بنفسه، ورعاه وربّاه بيديه، وسهر على صفائه ونقائه، ولم يتخذ وسطاً سياسياً جديداً، بل إنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» حمى هذا الوسط السياسي من كل دخيل، وأبعد عنه ما يعكر صفوه.
وقد أدرك عمر رضي الله عنه هذه النقطة، فحرص على بقاء هذا الوسط حوله، كما حرص على نقائه. وقد منع الصحابة من الاستيطان خارج المدينة المنورة، كما أنه منع أهالي البلاد المفتوحة من الدخول إلى المدينة كي يبقى هذا الوسط نقياً، وسنقف عند هذه النقطة بالتفصيل.
جاء في البخاري «أن حذيفة بن اليمان كان جالساً ونفراً آخرين عند عمر، فقال عمر رضي الله عنه: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظه كما قال. قال عمر: هاتِ، إنك لجريء! فقال حذيفة: فتنة المرء في أهله وولده، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة! فقال عمر: ليس هذا ما أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر. قال حذيفة: ما لك، وما لها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال عمر: فيكسر أو يفتح؟ قال حذيفة: لا بل يكسر. قال: ذاك ألا يغلق أبداً؟ فقيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة! إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قالوا فمن الباب؟ قال: عمر» رواه البخاري.
وواضح من الحديث أن الباب الذي يكسر هو عمر رضي الله عنه، فإذا مات بدأت الفتنة. والسؤال هنا: ما وجه العلاقة بين مقتل عمر رضي الله عنه، والفتن التي تموج كموج البحر، والتي تحلّ بالأمة الإسلامية؟
إن الجواب على هذا السؤال يكمن في نقطتين:
1- من قتل عمر؟ وما سببه؟ 2- سياسة عمر نفسه.
أما قاتل عمر رضي الله عنه فهو أبو لؤلؤة المجوسي، وسبب قتله له، أنه على يد عمر، وبسبب سياسته، هلك كسرى، وأزيلت دولة الفرس بأكملها، ومحي كيانهم، وتحقق قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده».
أما عن سياسة عمر رضي الله عنه، فقد عمد بشكل عام، إلى منع الصحابة، وخاصة الكبار منهم، وعلمائهم وفقهائهم، من الاستيطان خارج المدينة المنورة، بل روي عنه، أنه منع بعض الصحابة من التزوج من نساء العجم. كما أنه منع بشكل عام، أحداً من البلاد المفتوحة، من الاستقرار داخل المدينة، إلا القليل منهم، بل إنه حين طعن عمر، وعلم أن أبا لؤلؤة طعنه، قال لابن عباس يلومه ويعذله: «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة» رواه البخاري.
وعمر أدرك ببصيرته النافذة، أن ثقل أي حكم، وركيزته الأساسية، إنما يكمن في الوسط السياسي الذي يحمل فكرته، ويدافع عن مبدأ هذه الدولة.
ويجب أن يتركز وجود هذا الوسط في العاصمة، بشكل عام، مع عدم إغفال وجوده في الأمة. ولما كان الصحابة، رضوان الله عليهم، هم الوسط السياسي الذي نشأت عليه الدولة الإسلامية، وقامت عليه أركان الحكم في الإسلام؛ لذا فإن تفرقهم في الأمصار سيضعف مركز الخليفة، إذ سيفقد السند الطبيعي له، والركيزة الأساسية لاستمرار وجوده. لذا منع عمر الصحابة من الرحيل خارج المدينة، والاستيطان بعيداً عنها.
وبالمقابل أدرك ببصيرته النافذة، أن الحاقدين على الدولة الإسلامية، من شعوب البلاد المفتوحة سيعمدون إلى التسلل إلى العاصمة، حيث مركز اتخاذ القرار، للتأثير على القرار السياسي وإحداث التشويش والاضطراب، داخل العاصمة نفسها، ثم يعمدون إلى بقية أجزاء الدولة، لإحداث الفتنة، والاستياء العام من سياسة الدولة الإسلامية. وهو ما فعله عبد الله بن سبأ، حيث شغل العاصمة بالفتنة، وقام بالسعي في الأمصار، لتأليب الناس على عثمان رضي الله عنه.
فعمر أدرك أن عليه المحافظة على الوسط السياسي الذي هو ركيزة الدولة الإسلامية، فقام بنقطتين:
1- منع الصحابة من الاستيطان خارج المدينة.
2- منع شعوب البلاد المفتوحة من الاستقرار في المدينة، إلا للضرورة والحاجة، حيث إنه رضي عن إبقاء بعض العلوج؛ لأنهم أصحاب صنعة، وقد جاء في بعض الروايات: «الصنع قتلني».
وبعد مقتل عمر رضي الله عنه سمح عثمان رضي الله عنه للصحابة بالخروج من المدينة، ولمن أسلم حديثاً من شعوب البلاد المفتوحة، أن يستقر داخل المدينة المنورة.
وبمعنى آخر، فقد عثمان رضي الله عنه الوسط السياسي، الذي هو ركيزة الخليفة، والضمانة الطبيعية لاستمراره في الحكم.
وبالمقابل، دخل من يشوش على من تبقى من الوسط السياسي، ويحدث فيه الاضطراب والبلبلة، حتى حدثت الفتنة التي انتهت بمقتل عثمان رضي الله عنه.
ولما جاء علي رضي الله عنه نقل العاصمة إلى الكوفة، حيث أنصاره، أي الوسط السياسي الذي يمكنه الاعتماد عليه، ولكنهم بكل أسف، خذلوه، إما جهلاً بالأمور السياسية، حيث استجابوا لفكرة التحكيم، مع تحذير علي لهم إياها، حتى قال: «رب كلمة حق أريد بها باطل»، وإما جهلاً بالأمور الشرعية، حيث أنكروا عليه التحكيم، وهؤلاء هم الخوارج الذين قتلوه على يد ابن ملجم.
فلما جاء معاوية، جعل وسطه السياسي متركزاً في بني أمية، وليس ممثلاً عن الأمة بمجموعها، وجاء بفكرة ولاية العهد التي قلصت وجود وقيمة الوسط السياسي، مما اضطر الكثيرين إلى اتباع الوسائل العسكرية لأخذ الحكم، حيث رأينا العباسيين والعثمانيين. وقد حاولت البرامكة إيجاد وسط سياسي، في بغداد، ولكن، والله أعلم، ليس وسطاً معبراً عن الأمة، بل أرادوا قلب نظام الحكم، وإقصاء الخليفة، أو جعله لا حل له، ولا رأي، فقام هارون الرشيد، رحمه الله، بما قام به من سجنهم والتنكيل بهم.
وفي العهد العثماني، غاب الوسط السياسي المعبر عن الأمة وفكرها، ونشأ بجهود الكافر المستعمر وسط سياسي عميل للغرب تمكن من هدم الدولة الإسلامية، وإزالتها من الوجود.
وخلاصة القول: إن على الدولة الإسلامية أن توجد الوسط السياسي الذي يحمل فكرتها ويلتزم طريقتها في الحياة، وأن تركز وجودهم في العاصمة، مع عدم إهمال وجودهم في الأمة، وأن تحافظ على هذا الوسط من التشويش والبلبلة كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر (كما مر بنا). وإذا وجد وسط سياسي لا يحمل فكرة الإسلام وجب إقصاؤه وإزالته، ولو بالقوة، كما فعل هارون الرشيد .
أبو عبيدة – سوريا
2004-04-10