انتهاء الأجل هو السبب الوحيد للموت
2004/04/10م
المقالات
23,811 زيارة
انتهاء الأجل هو السبب الوحيد للموت
إن الواقع المحسوس، والآيات البينات في القرآن الكريم، تدل بشكل قاطع، أنّ كلّ ما نراه من أحياء: نباتاً أو حيواناً أو إنساناً، مصيره إلى الموت والفناء. وما من أحياء موجودة أو ستوجد في المستقبل، إلا وستصير يوماً إلى الموت والفناء، وفي النهاية لا يبقى الا الله تعالى، ويفنى الكون، ويفنى الإنسان، وتفنى الحياة، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن].
ـــــ
إن الناس قد ذهبت بهم الظنون، وجانَبَهم الصواب، عندما بحثوا سبب الموت عموماً، وسبب موت الإنسان بخاصة. فمن قائل إن سبب الموت هو الطاعون فيما يتصل بانسان مات بعد إصابته بمرض الطاعون، أو أن سبب الموت هو السرطان لأن مريضاً كان مصابا بالسرطان قبل موته . أو أن سبب الموت هو طعنة بسكينة، أو طلقة برصاص، أو قطع الرأس أو توقف القلب، …
وعدّ بعض الناس هذه الأمور أسباباً مباشرة للموت، وبناء على هذا يحصل الموت إذا حصلت هذه الأشياء ، ولا يحصل الموت إذا لم تحصل، فيكون حصول الموت في فهمهم هو بحصول هذه الأسباب لا بانتهاء الأجل، مع أن المسلمين يقولون بألسنتهم إن الإنسان يموت بسبب انتهاء أجله. وبالتالي يكون المميت في رأيهم هو هذه الأسباب وليس الله تعالى، حتى وإن ردّدوا بألسنتهم أنّ الله هو المحيي والمميت .
أما حقيقة الأمر في هذا، أن سبب الموت واحد وهو انتهاء الأجل، وأن الله تعالى هو المحيي والمميت، كما دل على ذلك الفهم البين الواضح لآيات القرآن الكريم. وحقيقة الأمر كذلك أن شيئاً ما حتى يصلح أن يكون سببا لا بد أن ينتج المسبَّب حتما ، وأن المسبَّب لا يمكن أن ينتج إلا عن سببه وحده، وهذا بخلاف الحالة، فإنها ظرف خاص بملابسات خاصة يحصل فيها الشيء عادة، ولكن هذا الشيء (وهو الموت هنا) قد يتخلف ولا يحصل. ولنأخذ مثلا للسبب ومثلا للحالة، فالحياة سبب للحركة الذاتية في الحيوان، فإذا وجدت الحياة فيه وجدت الحركة الذاتية فيه، وإذا عدمت الحياة فيه عدمت الحركة الذاتية فيه. وهذا بخلاف المطر بالنسبة لإنباتِ الزرع، فإنه حالة من الحالات التي ينبت بها الزرع، وليس سببا لإنبات الزرع. فالمطر ينبت الزرع عادة ولكن قد ينزل المطر ولا ينبت الرزع، وقد ينبت الزرع من رطوبة الارض، كالزرع الصيفي الذي ينبت بدون نزول المطر. وشبيه المطر مرض الطاعون، وضرب الرصاص، وغير ذلك، فهذه قد توجد ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت من غير أن يوجد أي شيء من هذه الأشياء التي يحصل فيها الموت عادة. لذلك فمرض الطاعون، والسرطان، والغرق، وضرب الرصاص، مثلا هي حالات يحصل فيها الموت عادة، ولكنها ليست سببا للموت .
والمتتبع لكثير من الأشياء التي يحصل فيها الموت، والمتتبع للموت نفسه يتأكد من ذلك واقعياً، فيجد أنه قد تحصل هذه الأشياء التي يحصل منها الموت عادة ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت بدون حصول هذه الأشياء، فمثلا قد يُضرَب شخص سكينا ضربة قاتلة، ويجمع الأطباء على أنها قاتلة، ثم لا يموت فيها المضروب بل يشفى ويعافى منها. وقد يحصل الموت دون سبب ظاهر، كأن يقف قلب إنسان فجأة فيموت في الحال دون أن يتبين لجميع الأطباء بعد الفحص الدقيق نوع الحالة التي يحصل فيها وقوف القلب، والحوادث على ذلك كثيرة يعرفها الأطباء وقد شهدت فيها المستشفيات في العالم آلاف الحوادث. ومن أجل ذلك يقول الأطباء إن فلاناً المريض ميؤوس منه حسب تعاليم الطب، ولكن قد يعافى، وهذا فوق علمنا، ويقولون إن فلاناً لا خطر عليه وهو معافى، وقد تجاوز دور الخطر، ثم ينتكس فجأة فيموت. وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذه الأشياء التي حصل منها الموت ليست أسباباً له، إذ لو كانت أسباباً له لما تخلف، ولما حصل بغيرها، فمجرد تخلفها ولو مرة واحدة، ومجرد حصول الموت بدونها ولو مرة واحدة، يدل قطعا على أنها ليست أسبابا للموت، بل هي حالات يحصل فيها الموت. أما السبب الحقيقي للموت الذي ينتج المسبَّب، أي ينتج الموت، هو أمر غيرها، وليست هي .
ربّ قائل يقول: نعم، إن هذه الأشياء التي تحصل، ويحصل فيها الموت عادة، هي حالات وليست أسبابا، لأنها قد تتخلف عن إحداث الموت، أي قد تحصل أحيانا ولا يحصل منها الموت، ولكن هنالك أسبابٌ مشاهدة محسوسة يحصل منها الموت قطعا ولا يتخلف فتكون هي سبب الموت . فمثلا قطع الرقبة وإزالة الرأس عنها يحصل منه الموت قطعاً ولا يتخلف، ووقف القلب يحصل منه الموت قطعاً ولا يتخلف. فهذه وأمثالها من أعضاء جسم الأنسان مما يحصل منه الموت قطعاً هو سبب الموت. ويقولون: نعم إن ضربة الرقبة بالسيف حالة من حالات الموت وليست سبباً للموت، وإن طعنة القلب بالسكين حالة من حالات الموت وليست سبباً للموت، وهكذا، ولكن قطع الرقبة ووقف القلب سبب للموت. فلمَ لا نقول: إن هذا سبب الموت؟
والجواب على ذلك: إن قطع الرقبة وإزالة الرأس عن الجسم لا يحصل من نفسه، فلا يحصل من الرقبة نفسها ولا من الرأس، فلا يحصل الا بمؤثر خارجي عنها ، فلا يصلح حينئذ أن يكون قطع الرقبة (أي زوالها عن الجسد) سبباً للموت، بل الأمر الذي فعل القطع هو الذي يُظن أن يكون سبب الموت وليس نفس القطع، لأن القطع لا يحصل من ذاته بل بمؤثر خارجي.
وكذلك وقف القلب لا يحصل من نفسه، بل لا بد من مؤثر خارجي عنه، فلا يصلح حينئذ أن يكون وقف القلب سببا للموت، بل الأمر الذي سبب وقف القلب هو الذي يُظَنّ أن يكون سبب الموت وليس وقف القلب ذاته، لأن وقف القلب لا يحصل من ذاته، بل بمؤثر خارجي.
وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون انقطاع الرقبة أو توقف القلب مظنة أن يكون سبباً للموت مطلقا. فلم يبق مظنة سبب الموت إلا المؤثر الخارجي .
وكذلك لا يكون سبب الموت هو المؤثر الخارجي، لأنه ثبت عقلاً وواقعاً أنه قد يحصل المؤثر الخارجي ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت دون أن يحصل هذا المؤثر الخارجي. والأصل في السبب، حتى يكون سبباً فعلاً، هو أن ينتج المسبَّب حتما. فلم يبقَ إلا أن السبب الحقيقي للموت الذي ينتج المسبب حتماً، وهو الموت، هو غير هذه الأشياء.
وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتدي اليه، لأنه لا يقع تحت الحس، فلا بد أن يخبرنا به الله تعالى. وأن يكون هذا الإخبار عن السبب الحقيقي للموت بدليل قطعي الثبوت عن الله تعالى، قطعي الدلالة في معناه حتى نؤمن به؛ لأن ذلك من العقائد وهي لا تثبت إلا بالدليل القطعي .
وقد رأينا كيف أن الله تعالى قد أخبرنا في آيات قرآنية متعددة قطعية في معانيها ودلالتها، بأن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأن الله تعالى وحده هو الذي يميت.
ويكفي أن نشيرَ مرة أخرى إلى بعض هذه الآيات. يقول تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ) [آل عمران 145]. أي كتب الموت كتاباً مؤجلاً مؤقتاً إلى أجل معلوم . ولا يملك أحد أن يغير في هذا الأجل المكتوب الذي قدره الله تعالى، إذ يقول تعالى: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون].
وإذا كان الله قد قدّر للأنفس آجالاً، فقد قدر للأمم آجالا كذلك لا يمكن تجاوزها ، كما يقول تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) [الأعراف]. وقال تعالى: (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) [المؤمنون].
آثار هذا المفهوم العقدي عند المسلمين:
إن المسلم الذي يعتقد اعتقاداً جازماً، بعد تفكر وتدبر واعيين، أن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأن هذا الأجل قد حدّده الله تعالى، ولا يملك أحد سواه أن يغيره، يزيد فيه أو ينقص منه ولو لحظة، تجده مسلماً مقداماً، غير هيّاب ولا وجل، ينهض للقيام بما فرض الله عليه من واجبات ومسؤوليات تجاه نفسه وأمته ودينه، ويركب من أجل ذلك الصعاب، ويقتحم المخاطر دون أن يخشى أحداً إلا الله تعالى. وتراه يقول الحق حيثما كان لا يماري فيه أحداً، وينكر المنكر حاصلاً من أي امرئ كان، لا يداهنه فيه.
على مثل هذا الوضوح والفهم في العقيدة أعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فكانوا معه كالزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.
وكانوا من بعده مصابيح الهدى وفرسان الوغى ومنارات العلم وسادة الدنيا وقادتها.
هكذا كان بلال بن رباح، وكان خباب بن الأرت، وهكذا كانت سمية، يجهرون بالحق ويصبرون على الأذى فيه بالغا ما بلغ. وهكذا كان خالد بن الوليد، وأبو محجن الثقفي، وأم نسيبة الأنصارية في ساحات الوغى والجهاد.
وهكذا كان الصدّيق والفاروق، عيوناً ساهرة على الإسلام وأهله، وقّافين عند الحق قوامين عليه.
بل هكذا كان المسلمون جميعاً في بدر، ومؤتة، والأحزاب، وحنين، والقادسية، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، عندما كان الموت فاغراً لهم فاه، ما هابوه بل تمنَّوه طلبا للشهادة في سبيل الله.
وهكذا كان أسوتنا وقدوتنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مشهد من مشاهد حياته منذ بعث حتى لحق بالرفيق الأعلى، يتحدى قريشاً وقادتها وهو فرد أعزل إلا من إيمانه ويقينه أن الآجال بيد الله، يسخرون منه فيواجههم متحديا لهم قائلاً: «أتسمعون يا معشر قريش. أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح».
وفاوضه عمه أبو طالب نيابة عنهم فيقول له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته».
وعندما بلغه نبأ خروج قريش لقتاله عام الحديبية، ما كان جوابه على ذلك إلا أن قال: «فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»، كناية عن الموت.
ويوم حنين، عندما أذهل المسلمين هولُ المفاجأة فانفضّوا راجعين، وقف رسول الله في نفر من أصحابه وأهل بيته صامدين، ونادى فيهم، وأمر العباس أن يصيح بهم حتى سمعوا النداء فكرّوا عائدين ملبين: لبيك، لبيك .
على مثل هذا الفهم الواعي لعقيدة الإسلام وشريعته تبنى العقول، وتقوّم النفوس، وتشيد الأمم، وتقام الدول، وتزدهر الحضارات ويسود العدل وتختفي من المجتمعات مظاهر الظلم والفساد والعدوان، ومن حياة المسلمين أمارات الجُبن والتردد والخنوع .
ولا يضيرُنا عند ذلك ما يصفنا به أعداء الإسلام وزبانيته، من الحكام المأجورين، والعلماء المهزومين، والكتاب المضبوعين، من كوننا إرهابيين، نحب الإرهاب ونمارسه، ونشجّع العنف وندعمه، ونتغنّى بالشهادة في سبيل الله ونمنّي أنفسنا بها. فوالله ما قامت للإسلام دولته الأولى إلاّ بعد أن وُجِدَ أنصاره في المدينة، ولا حسم مكائدَ اليهود والمنافقين فيها، إلاّ قوة المسلمين، وقيادة رسول الله الحكيمة فيهم، ولا حملت رسالة الإسلام إلى نصف الأرض المعمورة يومئذ، سوى كتائب الجهاد التي باعت أنفُساً تموت غداً بأنفسٍ لا تموت أبداً.
ولكن أنّى يكون ذلك بعد أن أزال الكفار الخلافة من حياة المسلمين، وأبعدوا الإسلام عن حياتهم، وحكموهم بأنظمة الغرب الباطلة، وحضارته الفاسدة، ومنعوا كل مخلص يعمل لعودة الحكم بالإسلام، بل طاردوهم وعاقبوهم مستخدمين مختلف الذرائع الواهية. وما درى هؤلاء وزبانيتهم أنّ مارد الإسلام العملاق قد صحا، ولن تستطيع قوة في الأرض بإذن الله أن تكبّله من جديد، بل سيمضي في العمل حتى يتحقق وعد الله للمسلمين بالنصر المبين.
يقول سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) [الصف/9].
فسيظهر الله سبحانه وتعالى _عمّا قريب إن شاء الله_ دين الحق، وهو الإسلام، دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل الأديان والنُظُم والشرائع. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين q
2004-04-10