نظام النقد الدولي (5)
ثم وجدت حالتان أخريان تتعلقان بالسيولة الدولية، وهما:
1- اتفاقية (سواب) عمليات (سواب).
2- تسهيلات نقدية (أذونات روزا).
1- عملية الـ (سواب): وهي تبديل نقد وطني بنقد أجنبي، وبتعبير أدق هي: عملية مقايضة بين نقدين.
وتجري هذه العملية على الشكل التالي، على الصعيد العملي:
يأتي مصرف مركزي يعاني من أزمة نقدية صعبة، ويبيع – استناداً إلى اتفاق مسبق – كمية من نقده الوطني إلى مصرف مركزي آخر، فيدفع له قيمتها بالقطع الأجنبي، ويتعهد المصرف البائع، في الوقت نفسه، بأن يعود ويشتري هذه الكمية، بعد مدة محدودة، من المصرف المشتري، بسعر صرف اتفق عليه في البداية.
فأولاً: تكون عملية المقايضة، أو عملية التسليف هذه، هي في الواقع عملية مؤقتة، تعقد عادةً لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتمديد.
وثانياً: هي عملية مضمونة ضد تقلبات أسعار الصرف، وضد تخفيض قيمة النقد، على اعتبار أن سعر الصرف، بين النقدين المتبادلين، قد حدد، واتفق عليه مسبقاً، عند عقد عملية المبادلة.
وثالثاً: تهدف هذه العملية إلى مساعدة مصرف مركزي اعترضته صعوبات نقدية مفاجئة، وذلك بمدّه ببعض الموارد المالية اللازمة لمواجهتها. ولكن المصرف المركزي، الذي يوافق على مساعدة مصرف مركزي آخر، يتقاضى مقابل ذلك معدل فائدة منخفض هو 2%.
فالعملية إذن هي عملية ضخ سلفة من بلد يملك أرصدة غزيرة إلى بلد مصاب بعجز خطير في ميزان مدفوعاته، لكي يستطيع هذا الأخير أن يزيد، بصورة اصطناعية، كمية أرصدته النقدية الدولية، لمواجهة الاستحقاقات الملحّة المترتبة عليه. ومن البديهي أنه يجب على البلد المدين أن يسدد، في تاريخ الاستحقاق، قيمة السلفة التي تلقّاها بقطع قوي؛ لذا يوجد بعض الخطر بالنسبة إليه، ولكن هذا الخطر ليس مهماً؛ لأن البلد المعني، إذا لم يستطع تجميع كمية القطع القوي لتسديد قيمة السلفة، فإنه يستطيع طلب تمديدها مرات متتالية. كما إنه يستطيع أن يلجأ إلى عملية (سواب) جديدة لتسديد قيمة العملة الأولى. وشأن ذلك أن يؤول إلى تراكم في التسليفات، يشكل خطراً كبيراً بالنسبة إلى وضع البلد، وحتى بالنسبة إلى الوضع الدولي للنقد.
ومن مجريات هذه العملية يتبين أن الانتفاع من هذا المصدر للسيولة الدولية مقتصر على البلدان المتقدمة الغنية. أما البلدان الفقيرة، التي هي في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه السيولة لمواجهة مختلف مشاكلها، فإنها لا تستطيع الاستفادة منه، ويعود السبب في ذلك إلى ضعف نقدها، وعدم الحاجة إليه على الصعيد الدولي للنقد.
كانت شبكة عمليات (سواب 175) في أول ظهورها، أي حوالي سنة 1962، تشمل (12) مصرفاً أوروبياً وكندياً وسويسرياً. ولكنها سرعان ما انتشرت، حتى أصبحت تشمل المصارف المركزية في البلدان المتقدمة كلها، وحتى البلدان التي مانعت في الاشتراك فيها مثل فرنسا التي عادت ووافقت فيما بعد.
كانت هذه العمليات، في نقطة البداية، تساوي (2.4) مليار دولار، ثم ارتفعت إلى (3.45) مليار دولار. استعمل القسم الأكبر منها لدعم الدولار الأميركي والجنيه الإسترليني. أما الآن، فقد ارتفعت هذه القيمة بنسبة كبيرة جداً. ونذكر، على سبيل المثال، أن مقدار العملات الأجنبية الذي وضع تحت تصرف الحكومة الأميركية، بفضل هذه العمليات، في 9 آذار 1973، بلغ (11.73) مليار دولار.
2- ومن التسهيلات للسيولة النقدية ما يسمى (أذونات روزا).
والذي اخترع هذا المصدر الجديد هو الولايات المتحدة الأميركية. وسميت بهذا الاسم استناداً إلى الأمين العام للخزانة الأميركية (روزا) الذي ابتكرها.
تصدر هذه الأذونات بشكل سندات محررة بنقد البلد الذي يوافق على شرائها، والذي يدفع قيمتها بنقده الوطني. وينحصر استعمالها بين الهيئات الرسمية، أي المصارف المركزية والحكومات.
وأول استعمال لأذونات روزا كان سنة 1962، حيث باعت الولايات المتحدة الأميركية لإيطاليا كميةً منها، ثم وسعت نطاق بيعها إلى عدد كبير من البلدان، بلغت قيمتها عند نهاية 1964 ما يعادل (1440) مليون دولار. ولهذه العملية أهمية لدى البائع والمشتري. حيث إنها تتيح للبلد البائع زيادة كمية السيولة النقدية لديه بصورة سريعة، أي تساعد على حل مشاكله النقدية. وتسمح للبلد المشتري بتحويل هذه السندات إلى دولارات بصورة سريعة، كما حصل مع إيطاليا، لتزيد حجم أرصدتها من الدولارات، عندما قامت ببيع تلك السندات. وهذه العملية لا يستفيد منها إلا الدول الغنية.
إن العالم اليوم، بعد ذهاب دولة الإسلام، وسقوط الاشتراكية، يعيش على نظام واحد، من الناحية الاقتصادية والمالية، هو نظام الاقتصاد الحر أو حرية السوق، لا سيما وهو مرتبط من ناحية شكلية بصندوق النقد الدولي. وها هي منظمة التجارة العالمية (الجات) في طريقها إلى أن يرتبط بها كل بلد من بلدان العالم.
إن هذه المؤسسات: صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وبعض المؤسسات المالية الأخرى، كالنوادي المالية وغيرها، هي من نتاج ممارسات الحرية الاقتصادية بكل سيئاتها. إنّ حيتان الرأسمالية قد اتخذوا هذه الإجراءات، ليتمكنوا من التحكم والسيطرة على المال وشؤون المال. وبحسب قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، قاموا بتأسيس مثل هذه المؤسسات ليضفوا المشروعية على تصرفاتهم واحتكاراتهم.
إن العالم اليوم يخضع لتصنيف معين: تابع ومتبوع، أي دول غنية أو دول صناعية، ودول نامية أو دول متخلفة. وبالتالي فإن هذا يجعل معظم شعوب العالم، أي الغالبية العظمى، تعيش تحت وصاية حفنة من الناس، أو بالأحرى، تجعل الملايين من البشر تنتظر الهبات والصدقات ممن يسمون أنفسهم الدول الغنية.
حصلت الحرب العالمية الأولى، وذهب وقوداً لها قرابة عشرة ملايين من البشر. وحصلت الحرب العالمية الثانية، وذهب وقوداً لها قرابة خمسين مليوناً من البشر. ناهيك عن الحروب الجانبية، محلية وإقليمية. ففي القارة الأفريقية، الثورات المحلية التي تقف وراءها مؤامرات الدول الرأسمالية. تحصد الآلاف من البشر حصداً. كل هذا من أجل ماذا؟ تُرى هل هذا من أجل إنقاذ البشرية، وتوفير العيش الرغيد لها؟ أو من أجل اعتناق مبدأ، وتطبيق أحكامه على هذه القطاعات من البشر؟ أو أنه من أجل مصالح ذاتية ورغبات أنانية.
إنها لتحقيق مصالح الدول الاستعمارية، وإحكام قبضتها على ثروات الدول التابعة لها. ولكي تعطي نهب الثروة سنداً قانونياً، فقد أخذت هذه الدول الاستعمارية تركز قواعد وثوابت تسميها نظماً وقوانين، لتحكم قبضتها على ناصية التابعين. ولنأخذ رأس الهرم وقمة الأمر، وهي الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول السبع الغنية، ونستعرض المؤسسات والهيئات الاقتصادية والمالية، التي يرتبط بها جميع البشر على هذه الكرة.
لقد تحدثنا طويلاً عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأتينا إلى المرحلة الأخيرة التي توقف عندها نظام النقد الدولي الحالي. كل ذلك وأميركا تتدرج في هذا المضمار، تسابق الأحداث، وتحول دون عودة الذهب إلى سدة النظام النقدي. وهكذا عملت على إلغاء الذهب نهائياً، وتثبيت الدولار على عرش المال عالمياً. وكم هي الأزمات المالية التي مرت بها الدول الغنية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، حتى جاء دور تنحية الذهب جانباً، وبقي الدولار وحيداً في قمة مكانته، وعندئذ بدأت الأزمات الجماعية!
كانت الأزمات المالية قبل تحويل صرف الدولار بالذهب تنحصر في الدولة الواحدة بعينها، ثم اتسعت لتشمل مجموعات من الدول، يعدّ سكانها مئات الملايين، مثل أزمة جنوب شرق آسيا، وأزمة البرازيل التي أصاب غبارها معظم القارة اللاتينية، ثم أزمة روسيا.
عندما يحصل حدث سياسي له تأثير على الأمن والسلام الدوليين، تتحرك هيئة الأمم، ويهرع مجلس الأمن الدولي ليحيط بالمشكلة، ويعالجها بوسائل تخديرية، ليبقي عليها كمشكلة يثيرها أنى يشاء ومتى يشاء، بوضعه مراقبين دوليين، أو قوات سلام دولية، مع تشكيل لجان إغاثة ومعونات ومساعدات، لتبقى المشكلة مشكلة.
ولكن عندما تحدث مشكلة اقتصادية، فإن علاجها يكون فقط من اختصاص الولايات المتحدة الأميركية؛ لأنها تراهن على التدخل فيها بواسطة صندوق النقد الدولي، حيث إنه المؤسسة التي تحافظ على الدولار، وتدافع عن الدولار، وترعى سلامة الاقتصاد الأميركي من الانتكاسة أو الاعتلال.
فصندوق النقد الدولي مؤسسة تعنى بشؤون المال والاقتصاد، فهي مؤسسة اقتصادية نقدية مالية.
أما عمل هذه المؤسسة فهو عمل سياسي، وإجراءاتها سياسية، وتتحرك في ظروف سياسية، ولأغراض سياسية.
إن الأحداث العالمية، التي سبقت مؤتمر بريتون وودز، كانت تنذر بالمفاصلة بين عهد قديم، وهو اللهيب الذي التهم معظم العالم، ودمر معظم العمران في العالم، جراء الحرب العالمية الثانية، وبين عهد جديد، زعموا أنه يتوفر فيه الخير والأمن والاستقرار لشعوب العالم، بمقتضى الإفرازات والمؤسسات التي قام عليها بناء العالم الجديد، عالم ما بعد الحرب الثانية
بقلم : فتحي سليم