بقلم: محمد حسين عبد الله
لا يجوز للإنسان أن يلحق الضرر بغيره ولا بنفسه. وقد جاءت النصوص الشرعية وما استنبط منها من قواعد شرعية لتبيّن أحكام الضرر. وأنواع الضرر كثيرة منها ما تناولته النصوص بالاسم ومنها ما تناولته بالوصف فيدخل تحت عمومات النصوص. وهناك بعض الضرر يجوز للمرء أن يوقعه على نفسه، وهناك ضرر يحرم عليه إيقاعه على نفسه، ولا بد من الدخول في شيء من التفصيل.
قد يكون الضرر في الشيء، وقد يكون الضرر في الفعل، والله سبحانه وتعالى أباح الأشياء بأدلة عامة كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ… } [لقمان: 20] واستثنى من هذه الأشياء بعضها، فحرّمها بأدلة كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ… } [المائدة: 3]، وإنْ وجد ضرر في شيء من الأشياء المباحة، حُرّم ذلك الشيء لكونه ضاراً بنصّ القاعدة الشرعية: «كل فرد من أفراد الأمر المباح إذا كان ضاراً حَرّم ذلك الفرد، وظلّ الأمر مباحاً» ودليل هذه القاعدة هو أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين مرّ بالحِجْرِ، وهي منازل ثمود قوم صالح، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له» فحرّم الرسول ماء بئر الحجر لأنّ هذا الماء ضارٌ بعينه، وأمّا جنس الماء فظلّ مباحاً بالدليل العام.
وإن كان التصرف بشيء من الأشياء المباحة يؤدي إلى ضرر، فإنه أيضاً يكون حرماً، بنصّ القاعدة الشرعية: «كل فرد من أفراد الأمر المباح إذا كان ضاراً أو مؤدياً إلى ضرر حُرّم ذلك الفرد وظلّ الأمر مباحاً» ودليلها هو ما رُوي: (أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقام بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بوادٍ يُقال له وادي المشقق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سبقنا إلى الوادي إلى ذلك الوادي فلا يستقِيَنّ منه شيئاً حتى نأتيه»، قال: فسبقه إليه نفرٌ من المنافقين، فاستقوْا ما فيه، فلما أتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف عليه، فلم ير فيه شيئاً، فقال: «من سبقنا إلى هذا الماء»؟ فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان، فقال: «أولن أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيه» ثم لعنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا عليهم) فحرّم شرب ذلك الماء حتى يأتيه، لأن شربه أدّى إلى ضرر الآخرين الذين لم يجدوا في الوادي ما يستقون منه.
فالشارع أباح الماء، ولكنه حرّم ماء بئر الحِجْرِ لأنه ضار، وحرّم ماء وادي المشقق لأن انتفاع البعض به، أدى إلى ضرر الآخرين، وبذلك يكون الضرر في بعض الأشياء، أو الضرر الذي يؤدي إليه الانتفاع ببعض الأشياء، سبباً في تحريم هذه الأشياء الضارة، أو المؤدية إلى ضرر.
أما الأفعال، فالأصل فيها التقيد، وحكم العقل يكون واحداً من الأحكام الخمسة وهي: الفرض، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام. وقد أباح الشارع بعض هذه الأفعال بأدلة عامة، كالنظر والأكل والمشي، وغير ذلك من الأفعال الجِبِلّية، قال تعالى {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ… } [يونس: 101]، وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ… } [سبأ: 15]، وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ… } [الملك: 15]. وجاءت أدلة أخرى مخصِصةً هذه الأدلة العامة، فأخرجت بعض أنواع النظر، والأكل، والمشي، جاعلةً لها أحكاماً غير الإباحة، كالحرام والفرض والندب، وكذلك جاءت قاعدة: «كل فرد من أفراد المباح إذا كان ضاراً أو مؤدياً إلى ضرر حرّم ذلك الفرد، وظلّ الأمر مباحاً» فخرجت الأفعال الضارة، لأن لفظ الأمر يعني الفعل والشيء، إذ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر حديث الحِجْر: «ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له» غير أن رجلين من بني ساعدة خالفا الأمر، إذ خرج أحدهما لحاجته فخنق على مذهبه، أي في طريقه، وخرج الآخر في طلب بعير له، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل في طَيّ، فأُخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه» ثم دعا للذي أصيب في طريقه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبل طئ، فإنّ طَيّئا أهدته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم إلى المدينة المنورة.
فالأفعال إن طرأ عليها ما يجعلها ضارة أو تؤدي إلى ضرر أصبحت حراماً، كالشرب والوضوء في حديث الحِجْر، وكالشرب في حديث وادي المشقق، وظلّ جنس هذه الأفعال مباحاً، لأن الضرر كان طارئاً عليها، وليس هو موجوداً في تكوينها، فالماء والشرب والخروج أمور غير ضارة أصلاً، وقد أباحها الشارع، وإنما طرأ ضرر على أفراد منها فصارت حراماً بنص القاعدة الشرعية المستنبطة من الأحاديث النبوية. فإعطاء المعلومات ـ مثلاً ـ أمرٌ مباح، ولكن إعطاء معلومات عن حَمَلَة الدعوة للسلطات، إن كانت تلحق ضرراً بحملة الدعوة فحرام، لأنه واقع انطبقت عليه قاعدة: «كل فرد من أفراد المباح إذا كان ضاراً ومؤدياً إلى ضرر حُرّم ذلك الفرد، وظلّ الأمر مباحاً».
هذا بالنسبة للضرر الطارئ، أمّا إن كان الضرر موجوداً في طبيعة الفعل، ولم يرد في خطاب الشارع ما يدل على حكم هذا الفعل بعينه، فيكون كونه ضاراً دليلاً على تحريمه لأن الله حرّم الضرر، وقاعدته الشرعية: «الأصل في المضارّ التحريم»، ودليلها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من ضارَّ أضرَ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه».
والضرر ضدّ النفع، وهو إيقاع الإنسان الأذى بنفسه أو بغيره، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إيقاع أي ضرر، بقوله: «لا ضررَ ولا ضِرار» لأن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، والضرار هو أن يضرّ الشخص من ضرّه، وقيل إنّ الضرار هو شدّة الضرر، وكلا الأمرين داخل في معنى الضرر.
إيقاع الضرر بالآخرين:
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإضرار بالآخرين، كبيراً كان أم صغيراً، قال -صلى الله عليه وسلم-: «سِبابُ المسلم فسوق وقتاله كفر»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة»، وقال: «لا يحلُّ لمسلم أن يروّع مسلماً» وقال: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقيَ اللهَ عزّ وجلّ، مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله»، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الإضرار بالآخرين قال تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، وقال تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقال تعالى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]. فإيقاع الضرر بالآخرين منهي عنه نهياً جازماً قليلاً كان أم كثيراً بقرينة قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل» وبقرينة قوله: «لعنته الملائكة» وبقرينة قوله: «آيس من رحمة الله» فهو حرام قطعاً.
إيقاع الإنسان الضرر بنفسه:
جاء لفظ الضرر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار» عاماً بشمل كل ضرر، سواءً أكان إيقاع الإنسان الضرر بنفسه أو بغيره، فالله لم يكلف عباده ما يضرهم، ونهاهم عن إلحاق الضرر بأنفسهم، فقد ورد في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يمشي، فقيل له: إنه نذر أن يحجّ ماشياً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الله لغني عن مشيه فليركب»، وفي رواية: «إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه»، وسُئل -صلى الله عليه وسلم- عن رجل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يفطر بنهاره، ولا يستظل، ولا يتكلم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «مروه فليستظل، وليتكلم، وليقعد، وليتم صومه» رواه البخاري. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها» متفق عليه. هذه النصوص تدلُّ على أنّ إلحاق الإنسان الضرر بنفسه يكون مكروهاً، لأن طلب الترك في النصوص السابقة يكون مكروهاً، لأن طلب الترك في النصوص السابقة غير جازم، والمكروه لا يأثم فاعله، وإن كان تركه امتثالاً لأمر الله يُمدح فاعله ويُثاب عليه.
ويُستدل من نصوص أخرى أن إلحاق الإنسان الضرر بنفسه مباح، ومن هذه النصوص ما روي عن عائشة «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه» رواه البخاري، (وعن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت، بلى، هذه المرأة السوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني أُصرع، وإني أنكشف، فادعُ اللهَ لي: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله تعالى أن يعافيك» فقالت: أصبر، فقالت: إني أنكشف، فادع الله أن لا أنكشف، فدعا لها) متفق عليه. فهذه المرأة اختارت الصبر على الضرر مقابل أن يكون لها الجنة، وقد اقرّها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على اختيارها.
وهناك نصوص تدل على أن إيقاع الإنسان الضرر بنفسهن إن بلغ حداً معيناً يكن حراماً، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجّا بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن ترَدّى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردّى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً»، فالضرر الذي يؤدي إلى الهلاك حرام. وكذلك عن كان إلحاق الضرر بالنفس يخشى منه الهلاك كان حرماً أيضاً، وقد فهم الصحابة ذلك من قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا @ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 ـ 30]، فقد روي عن عمرو بن العاص أنه قال: (احتملت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عمروا، وصليتَ بأصحابك وأنت جُنُب»! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئاً) وقد أورد البخاري هذا الحديث في (باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم) فالضرر الذي يؤدي إلى الهلاك، أو الذي يغلب على الظن أنه يؤدي إلى الهلاك، يحرم على المرء أن يوقعه في نفسه.
وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً عن أن يوقع الإنسان بنفسه ضرراً يحول دون قيامه بما هو مفروض عليه شرعاً قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفرُّ إذا لاقى» أي لا يفرُّ إذا لاقى العدو في القتال، لقوة نفسه بما أبقى فيها نتيجة صيامه وقيامه الموصوفين في الحديث، فعبادته لم تؤثر على قتاله وثباته للعدو،ولم تجعله ضعيفاً في جسمه، بحيث يفرُّ عند لقاء العدو، لأن الفرار من القتال حرام، ولأنّ وجود الضرر عند المسلم على وجه معين، يُعفي صاحبه من القتال وقد بيّن الله ذلك في قوله: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ… } [النساء: 95]، وبيّن في أخرى بعض صفات هذا الضرر قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأََعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ألأََنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]. فالقادر على القتال إن استُنفر ولم ينفِر يعذبه الله عذاباً أليماً {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]، فغن أوقع المسلم الضرر بنفسه لكي يصبح من أولي الضرر، ويُعفى من القتال، فقد دخل فيمن يتولى عن القتال، واستحق عذاب الله، لأنه فعل في نفسه فعلاً يوصل حتماً إلى الحرام، وهو التولي عن القتال، والقاعدة الشرعية تنص: «الوسيلة إلى الحرام حرام». وقد توعّد الله بالعذاب الذين يختلقون الأعذار للقعود عن القتال، قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]، فكيف بمن يوقع بنفسه ضرراً يقعده عن القتال!
فالضرر الذي يُقعِد صاحبه ـ إن فعله في نفسه ـ عن القيام بالتكاليف الشرعية الواجبة عليه، يندرج تحت قاعدة «الوسيلة إلى الحرام حرام» لأن الضرر الذي يؤدي إلى عدم مقدرة صاحبه على القيام بالفروض، هو ضرر يؤدي إلى حرام، وهو الإقعادُ عن القيام بالفروض، كالجهاد في سبيل الله، وحمل الدعوة الإسلامية، والحجّ وطلب الرزق، قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو عندما سمعه يقول: لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «لا تفعل. صوم وأفطر، ونم وقم، فإنّ لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإنّ لزَوْرك ـ أي ضيفك ـ عليك حقاً» وقال عبد الله: فشدّدت، فشدّد عليّ وفي حديث آخر: «وإن لربك عليك حقاً، وإنّ لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍّ حقه» فعلى المسلم حقوق لله، وحقوق لأهله، وحقوق للناس ولنفسه، وأنّ هذه الحقوق، وخاصةً الواجب منها، مطلوبةٌ منه على وجه الإلزام إن كان قادراً على أدائها، فلا يجوز له أن ينهك جسده بالعبادة المندوبة أو غيرها من الأعمال المباحة، بحيث يصبح غير قادر على أداء هذه الحقوق الواجبة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أنهاك الجسد بالصلاة النافلة، وبصيام التطوع، فكيف إن كان الضرر آتياً من الإنسان نفسه في غير ذلك، كأن يقطع يده، أو أن يتناول مادة تسبب له مرضاً مزمناً يقعده عن أداء هذه الحقوق!
فأي ضرر يوقعه الإنسان بنفسه، يمنعه من القيام بالواجبات الشرعية المفروضة عليه يكون حراماً، لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي سبق أن ذكرناه «ولا يفرّ إذا لاقى» ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لربك عليك حقاً، وأن لجسدك… » الحديث، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يُضيّع من يقوت» أي من يعيلهم كنفسه ومن لهم حقّ النفقة عليه، فالضرر الذي يوقعه في نفسه، يؤدي إلى عدم مقدرته على إعالتهم حرام.
ومن أوقع في نفسه ضرراً حراماً، عوقب عقوبة تعزيرية، لأنه ارتكب في حق نفسه جريمة نهى الشرع عنها نهياً جازماً، ودليل ذلك ما روي عن جابر قال: (لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتوَوْه المدنية، فمرض فجزع، فأخذ مشاقصاً فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك، قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-. فقال: مالي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وليديه فاغفر») ففي الحديث دليل على من أفسد عضواً من أعضائه لم يصلح يوم القيامة، بل يبقى على الصفة التي أُفسد عليها عقوبة له، فالله غفر لصاحب القصة ذنبه بسبب هجرته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يغفر له إفساده ليديه. وفي حديث آخر، «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم، إذ قال له رجال من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: وأيكم مثلي، إني أبيت يُطعمني ربّي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر لزدتكم، كالمُنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا» والتنكيل من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يكون إلا على فعل الحرام، والفعل في هذا الحديث هو مواصلة الصوم دون إفطار أو سحور، وهو ما يلحق الضرر بالجسم، بحيث لا يستطيع الإنسان معه أن يقوم بما يجب عليه كالجهاد والسعي في طلب الرزق، فالتنكيل من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم، كانت عقوبة تعزيرية على قيامهم بما يضرُّ أنفسهم، وهو الوصال في الصوم.
الضرر الناتج عن الأعمال المشروعة وعن الأشياء المباحة:
ذكرنا سابقاً أن إيقاع الإنسان الضرر بنفسه قد يكون مكروهاً، وقد يكون حراماً، استناداً إلى واقع الضرر وإلى الأدلة الشرعية المنطبقة عليه.
أمّا الضرر الناتج عن الأفعال المطلوبة شرعاً، وعن تناول بعض المطعومات المباحة، فإنّ الضرر إن لم يُؤد إلى الهلاك، ولم يمنع من القيام بالفروض، فإنه لا شيء فيه، أي لا يترتب عليه عدم الإتيان بهذه الأعمال المشروعة، ولا عدم تناول هذه المواد المباحة. فالصوم وإن أدّى إلى الصداع الذي لا يمنع من القيام بالفروض، يظلُّ مطلوباً، وكذلك قيام الليل، وإن أدّى إلى تعب القدمين، يظل مندوباً، وتناول القهوة والشاي، وإن أدّى إلى قلة النوم يظلُّ مباحاً. أمّا إن أدّى عمل من هذه الأعمال السابقة إلى ضرر مُهلك، أو إلى ضرر يمنع من القيام بالفروض بالنسبة لشخص بعينه، حُرّم ذلك العمل على الشخص ذاته، وظلَّ مشروعاً لغيره.
وعندما يؤدي الضرر الحاصل من بعض الفروض كصوم رمضان، إلى عدم القدرة على القيام بفرض آخر كالجهاد، عندها يبحث عن دليل الترجيح بينهما، فقد طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين في إحدى الغزوات أن يشربوا ويأكلوا في نهار رمضان ليكونوا قادرين على ملاقاة العدو.