مع القرآن الكريم: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].
يقول سيد قطب، رحمه الله، في تفسيره لهذه الآية: «ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، ولكنه سبحانه، رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم -أداة العقل- اقتضت رحمته أن يرسل إليهم الرسل ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ يذكرونهم، ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم، وتحرير عقولهم، من ركام الشهوات، التي تحجب عنها، أو تحجبها عن دلائل الهدى، وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ عزيزاً: قادراً على أخذ العباد بما كسبوا. حكيماً: يدبر الأمر بالحكمة، ويضع كل أمر في نصابه…
ونقف من هذه اللفتة: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة، العميقة، ونختار منها ثلاثاً على سبيل الاختصار، الذي لا يخرج بنا من الظلال.
نقف منها أولاً: أمام قيمة العقل البشري، ووظيفته، ودوره في أخطر قضايا «الإنسان»، قضية الإيمان بالله، التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها، بكل مقوماتها، واتجاهاتها، وواقعياتها، وتصرفاتها، كما يقوم عليها مآله في الآخرة، وهي أكبر وأبقى…
لو كان الله سبحانه، وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه للإنسان، هو حَسْبُ هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه، والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده…، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم، ولما جعل حجة الناس عنده سبحانه هي عدم مجيء الرسل إليهم… ولكن لما علم الله سبحانه، أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى، بغير توجيه من الرسالة، وعون، وضبط، وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية، يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة… لمّا علم الله سبحانه هذا، شاءت حكمته ورحمته أن يبعث للناس بالرسل، وأن لا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ… قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].
إذن ما هي وظيفة هذا العقل البشري؟ وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى، وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟ إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى، وموحيات الإيمان في النفس والآفاق. وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح… وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية المؤدية إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته، من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد صحة صدورها عن الله… إن هذه الرسالة تخاطب العقل بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح، لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، أو بقبولها أو رفضها، ومتى ثبت النص كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أن يقبله، ويطيعه، وينفذه، سواء أكان مدلوله مألوفاً أم غريباً عنه… فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، لما جاء من عند الله.
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير… سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم… أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى… والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا…
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هي أن لا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة، بعد أن يدرك المقصود بها، بمقررات له سابقة عليها؛ كوّنها لنفسه من مقولاته المنطقية، أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة… إنما المنهج الصحيح، أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكوّن منها مقرراته هو. فهي أصح من مقرراته الذاتية، ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي… إن العقل ليس إلها ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله.
إن له أن يعارض مفهوماً عقلياً بشرياً للنص، بمفهوم عقلي بشري آخر له… هذا مجاله، ولا حرج عليه في هذا، ولا حجر، ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول، والأفهام المتعددة… على أصوله الصحيحة، وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه…
فإذا قرر الله سبحانه، حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى، أو إذا قرر أمراً في الفرائض، أو في النواهي، فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة، ممن يبلغ إليه، متى أدرك المدلول المراد منه… فإذا قال الله سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]… ﴿أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء:30]… إلى آخر ما قال سبحانه عن طبيعة الكون، والكائنات، والأحياء، والأشياء… فالحق هو ما قال… ولا يحتمل إلا الحق الصواب.
وإذا قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]… ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]… ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[الأحزاب: 33]… إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية، فالحق هو ما قال سبحانه، وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله، ولم يشرعه للناس… فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات، وما يقرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الصحة والصلاح… متى صح النص… فليس للعقل أن يقول آخذ في العقائد والشعائر التعبدية، ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها… فما دام النص مطلقاً فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان…
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل، ودوره في الحياة البشرية، فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة، بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله، وتعليمه الصحيح. والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون… وطبيعة الكائنات فيه والأحياء، والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون وهذه الكائنات والأحياء، وتنمية الحياة وتطويرها، وترقيتها، في حدود منهج الله، لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل، وتغطي الفطرة بالركام
…يتبع