نظام النقد الدولي : الدولار والأزمات الاقتصادية والمالية (10)
إن تحكم أميركا في النقد الدولي هو سبب الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية، التي تتوالى في العالم، وهذا واضح منذ عقد اتفاقية بريتون وودز 1944 وإدخال الدولار شريكاً للذهب في المعيار، ثم إقصاء الذهب نهائياً بقرار نيكسون 1971، وإلى يومنا هذا. وسنذكر فيما يلي الأزمات التي توالت على الدولار، والتي بدورها كانت ذات أثر خطير على العالم:
أزمة الإسترليني:
بتاريخ 20/10/1967 جرى تخفيض قيمة الإسترليني ما نسبته 14.3%. وقد حذا حذو بريطانيا في هذا التخفيض أربع عشرة دولة. وإلى جانب عملية التخفيض اتخذت الحكومة البريطانية إجراءات أخرى منها: الضغط على حجم الإنفاق الداخلي الخاص والعام. وبالنسبة إلى الإنفاق الخاص رفعت معدل الضرائب. أما بالنسبة إلى الإنفاق العام فقد قررت توفير (600 إلى 800) مليون من الجنيهات، وزعت على مختلف القطاعات: الاستثمار (100) مليون، الإنفاق العسكري (100) مليون، إلغاء إعانات التصدير (100) مليون، إلغاء إعانات العمال (80) مليون، كما قررت رفع معدل الحسم إلى 8%، بالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية على الاستيراد، ثم اقترضت من صندوق النقد الدولي مبلغاً قدره (1.4) مليار دولار. وبالرغم من كل هذه الإجراءات لم تتوصل بريطانيا إلى القضاء على عجز ميزان مدفوعاتها، كما بقي الوضع على الصعيد الدولي متأزماً.
بعد هذه الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا، كان يظهر أن الأوضاع النقدية قد استقرت، والحقيقة أنه لم يمض أربعة أشهر إلا والأوضاع النقدية عادت إلى الاضطراب من جديد، وبصورة أعنف، وظهر هذا الاضطراب بالهجوم على الذهب، إلى حد لم يعرف له العالم مثيلاً؛ ومن هنا نشأت أزمة جديدة هي أزمة الذهب.
أزمة الذهب:
ويعود سبب هذه الأزمة إلى فقدان الثقة بالدولار الأميركي، ومن ثم بسائر النقود الورقية. ومن الطبيعي أنه عندما تفقد الثقة بالنقود الورقية يهرع الأفراد إلى الركض وراء الذهب، على اعتبار أنه الشكل النقدي الوحيد الذي يستطيع المحافظة على القيمة, مع الأمل بأن الولايات المتحدة ستضطر إلى رفع سعره، وهذا ما يفسر استمرار الطلب عليه (أي الذهب) طوال الأشهر التي أعقبت تخفيض قيمة الإسترليني.
كل هذا دليل على أن المشكلة ليست متعلقة بنقدٍ مريضٍ يمكن معالجته، وإنما المشكلة هي في صلب النظام.
وقد بلغت أزمة الذهب، وبالتالي أزمة الدولار، أشدها في 13 و14 و15 من شهر آذار سنة 1968، حتى كادت تطيح بنظام النقد الدولي. وتفيد الإحصاءات أن كمية الذهب التي بيعت، يوم الخميس 14 آذار سنة 1968، في سوق لندن، تراوحت بين (150-200) طن من الذهب، وأن معظم الكمية جاءت من الأرصدة الرسمية الذهبية لدول مجمع الذهب، ما عدا فرنسا؛ لأنها كانت قد انسحبت منه.
وقد أعلنت الخزينة الأميركية أنها أرسلت إلى سوق لندن المركزي (750) مليوناً من الدولارات، من أجل تثبيت سعر الذهب، أي من أجل منعه من الارتفاع -هذا التحويل أثناء الأزمة- وأن مجموع ما حولته الولايات المتحدة إلى سوق لندن، منذ مطلع 1968، بلغ (1500) مليون من الدولارات الذهبية؛ ولهذا السبب انخفض حجم الأرصدة الذهبية الأميركية إلى (10.5) مليار دولار. وهذه الكمية هي التي نص عليها القانون من أجل الغطاء الذهبي الداخلي للدولار أي (25%).
وفي تقرير لمصرف بريطانيا المركزي أن كمية الذهب التي انتقلت من أرصدة الذهب الرسمية، من بلدان أعضاء مجمع الذهب، إلى أيدي الأفراد والهيئات الخاصة، منذ تخفيض قيمة الإسترليني وحدوث أزمة الذهب، بلغت (14) ملياراً من الدولارات. وعندئذٍ طلب الرئيس الأميركي آنذاك (جونسون) من بريطانيا إقفال سوق الذهب في لندن. وتجدر الإشارة إلى أن أسواق الذهب العالمية جميعها أغلقت أبوابها، فيما عدا سوق باريس الذي بقي مفتوحاً يبيع الذهب لمن يشاء، لكن هذا البيع كان يتم من الذهب الذي يأتي من العرض الخاص، أي من الكنز.
إن إلغاء مجمع الذهب يعني الاستغناء عن نظام المراقبة على الصرف. يقول المراقبون أن الجنرال ديغول (أي فرنسا) هو الوحيد الذي رفض مساعدة وإقراض الحكومة البريطانية خلال أزمة نقدها المذكورة؛ ولذا يقولون إن الجنرال ديغول هو الذي سدد الضربة القاضية للجنيه الإسترليني، كما أن ديغول هو الوحيد الذي أبقى بورصة باريس مفتوحة، عندما أغلقت أسواق الذهب العالمية أبوابها.
كما وقع الفرنك الفرنسي في أزمة نقدية حادة أيضاً، ولكننا لا نريد أن نضعها محل بحث الآن، فالذي يعنينا هو الأزمات المتتالية التي أصابت الدولار الأميركي، والذي يعتبر هذا خللاً في صميم نظام النقد الدولي.
أزمة الدولار:
أما أزمة الدولار الحادة فقد أخذت في الظهور منذ أواخر نيسان سنة 1971، عندما قرر المصرف المركزي الألماني، في (28) نيسان، التوقف عن شراء الدولار. وفي 3 أيار سنة 1971، قدمت مؤسسات الأبحاث الاقتصادية الخمس إلى الحكومة الألمانية طلباً دعت فيه إلى تحرير سعر المارك، أي بصورة أوضح عدم مساندته للدولار الأميركي، وبمجرد هذا الإعلان اندلعت الأزمة، وانهالت رؤوس الأموال المضاربة على المارك الألماني.
ففي يوم (4) أيار دخل إلى ألمانيا أكثر من مليار مارك، وفي اليوم التالي اشترى مصرفها المركزي حوالي (300) مليار من الدولارات. وفي غضون عدة أيام ارتفعت قيمة أرصدتها إلى (180.8) مليار من الدولارات. وأمام هذا السيل الجارف من الدولارات عمدت الحكومة الألمانية إلى إقفال سوق الصرف، أي توقفت عن شراء الدولار، وحذا حذوها هولندا وسويسرا وبلجيكا. وهكذا انخفض سعر الدولار إلى حده الأدنى بالنسبة للنقود الأوروبية. وفي الوقت نفسه فإن مصرفي لندن وباريس ثابرا على شراء وبيع الدولار.
أما سبب هذا الاضطراب في الإقبال على الدولار؛ فلأن مخزون أميركا من الذهب، الموجود في بنكها المركزي، لم يعد قادراً على تغطية الدولار بالقيمة التي وضعتها له اتفاقية بريتون وودز أي (35) دولار للأونصة. ولتوضيح ذلك نقول:
لما أبرمت اتفاقية بريتون وودز ووضع نظام النقد العالمي الجديد، وهو (قاعدة صرف الذهب) توج الدولار على رأس المال والاقتصاد العالمي، ولكن تحت عباءة الذهب، وأعطي الدولار خصيصة معينة، وهي تبديله بالذهب حسب ما رسم في الاتفاقية الآنفة الذكر, وثبت سعر أونصة الذهب بـ ( 35) دولاراً أميركياً، هذا في الوقت الذي يتمتع بغطاء ذهبي 100% وزيادة. وما درى واضعو هذه القاعدة ( قاعدة الصرف بالذهب) أن الذهب نفسه هو الذي يجلب للدولار الويلات والمصائب، ويوقعه في أزمات. أما باقي العملات النقدية الرئيسية، وإن كانت تتخذ رصيداً في البنوك المركزية، إلا أنها مهيأة لأن تتأثر بالدولار عافيةً ومرضاً.
بقي الدولار في عافية، وتعافت معه باقي العملات الرئيسية مثل: الإسترليني، والمارك، والفرنك، والين الياباني. وبما أن قوة الذهب ذاتية، وصلاحياته عالمية، وتدخلاته مؤثرة، وهذه الميزات لا يتمتع بها الدولار إلا بالتبعية للذهب. بقي الأمر بالنسبة للاقتصاد العالمي وبالنسبة للدولار, حتى جاء اليوم الذي أزاح الذهب فيه عباءته عن الدولار.
ذلك أن الغطاء الذهبي للدولار، الذي كانت نسبته أكثر من 100%، أخذ يتقلص إلى النصف، ثم نـزل هذا الغطاء حتى انـزاح بالكلية، وأصبحت الأرصدة الذهبية في المصرف الفدرالي الأميركي لا تكفي غطاء؛ لتراكم الأرصدة الدولارية الورقية خارج أميركا.
وهكذا أطلت الأزمات برأسها. ولنأخذ الآن هذا الجدول الرقمي، ثم نقيّم على ضوئه الأزمات النقدية، وما هي أسبابها.