منذ أن نجح الكفار في تحطيم الدولة الإسلامية، وإحلال الكيانات العلمانية مكانها، وجهودهم منصبة على محاولة إقصاء الشرعية عن الحياة، عن طريق سن القوانين الوضعية، ومن خلال تجهيل المسلمين بدينهم. وقد تركزت جهودهم على الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد والحكم.
ومنذ ذلك التاريخ، يحاول المسلمون استئناف الحياة الإسلامية، ويبذلون في سبيل ذلك الجهد والمال والدم. والمشاهد أن محاولتهم اقتربت من النجاح. رغم وجود عوائق ضخمة عديدة لا بد من إزالتها، من أجل قيام واستمرار دولة الخلافة القادمة قريباً بعون الله الواحد القهار.
ولتيسير ذلك الأمر، يجب تذليل بعض الصعوبات. خصوصا تلك المتعلقة بفهم أحكام الإسلام المتصلة بالحكم والاقتصاد. لأنها هي أكثر الأحكام محاربة. ولأن شيوخ المنابر كثيراً ما يفضلون الحديث عن قضايا عامة مبهمة، ويهملون القضايا المهمة الخطيرة، حتى لا تطالهم تقارير المخابرات الظالمة، وتمنعهم عن الجهر بكلمة الحق، مثلما حدث لبعض العلماء العاملين في السعودية مؤخراً.
وهذه المقالة ستعمد ـ بإذن الله ـ إلى بيان بعض أحكام البيع وأدلتها وكيفية استنباطها، بغية إثارة الشوق عند المسلمين لدراسة الفقه الإسلامي في أمهات كتب الفقه المعتبرة، ثم الالتزام العملي بتلك الأحكام رغم أنف الأنظمة الجاهلية، كي يلمس الناس روعة معالجات الإسلام لمشاكل الحياة، وكي يدرك من في قبله مرض أن نصر الله آتٍ أت. وأن انهيار الكيانات العميلة أمر حتمي.
البيع لغة مطلق المبادلة. وهو ضد الشراء. والبيع من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. فيطلق البيع على الشراء كما يطلق الشراء على البيع. والقرينة تعين المراد. أما البيع شرعاً فهو مبادلة مال بمال تملكاً وتمليكاً على سبيل التراضي.
أما حكمه، فهو جائز، بدليل الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (البقرة: 275). وقال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: 29). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» متفق عليه.
والبيع عموماً لا يتم إلا بإيجاب وقبول. لأن الأصل في المعاملات منع المنازعات. قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. واستثنى الفقهاء وجوب وجود الإيجاب والقبول في بيع المعاطاة. وهو البيع الذي يدل العمل فيه على الإيجاب والقبول. كمبيع الخبز والصحف وطوابع البريد وما شاكل ذلك من سلع معروفة الثمن في السوق وليس فيها مساومة. والإيجاب والقبول يتم بلفظ يد لعلى كل واحد منهما أو ما يقوم مقام اللفظ، كإشارة الأخرس. والألفاظ التي تدل على الإيجاب والقبول كثيرة. فإذا قال رجل لبائع: كم ثمن هذه السلعة؟ فقال البائع ألف دينا؛ فقال الرجل اشتريت؛ فقال البائع بعتك؛ فقد تم الإيجاب والقبول.
وأرشد الشرع إلى وجوب تبيين العيب في السلعة وعدم الغش. عن عقبة بن عامر قال: «سمعت رسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بيّنه له» رواه ابن ماجة. وإسناده حسن كما جاء في الفتح. وعن أبي هريرة «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر برجل يبيع طعاماً فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال من عشنا فليس منا» رواه الجماعة البخاري.
وهناك شروط شرعية كثيرة أخرى منها ما يتعلق بالبائعين ومنها ما يتعلق بالسلعة، ومنها ما يتعلق بالثمن. ويجب على التاجر المسلم سؤال أهل العلم فيما يتصل بتجارته حتى يكون كسبه حلالاً وحتى لا يقع عمداً أو جهلاً أو سهواً في الحرام.
ولفظ «البيع» في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عام. يندرج تحته أفراد كثير. فكل بيع حلال إلا ما جاء نص بتحريمه. لأن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه. ويخصص القرآن بالقرآن، والسنة بالقرآن، والقرآن بالسنة، والسنة بإجماع الصحابة، وغير ذلك مما هو مذكور في كتب أصول الفقه.
ومن البيعة المحرمة بين ما حرم على العباد. عن جابر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى به السفن ويدهن به الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: قاتل الله اليهود أن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه الجماعة.
وقول الرسول عليه وآله الصلاة والسلام: «أن الله حرم… » يعني أن الذي يفعل ذلك يستحق العقاب والذم شرعاً. والألفاظ التي تفيد التحريم كثيرة. منها هذا الصريح. ومنها ما هو أشد منه كلفظ «لُعن»ولفظ «من عمل الشيطان» إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصول والفقه. وخلاصة القول أن كل ما جاء النهي فيه جازماً فإنه يفيد التحريم.
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا، هو حرام» يتحمل وجهين لأن الضمير «هو» أما أن يكون راجعاً إلى البيع أو الانتفاع. فإذا كان الضمير راجعاً إلى البيع فإن الحديث بمفرده لا يعني حرمة الانتفاع مطلقاً بدون بيع. فيجوز عندها إطعام الميتة للكلب مثلاً. وهذا انتفاع بدون بيع. وإذا كان الضمير راجعاً إلى الانتفاع فعندها يحرم البيع، لأنه انتفاع ويحرم كذلك الانتفاع بأي شكل آخر.
وقول الرسول عليه وآله الصلاة والسلام: «ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قرينة على أن الضمير عائد إلى البيع لا مطلق الانتفاع. وحرمة الانتفاع يبحث عنها في أدلة أخرى.
وهذا النص يفهم منه أن ما حرم على العباد فبيعة حرام. سواء كان فيه منفعة أو لم يكن. لأن النص غير معلل. ولا يوجد نص شرعي آخر يعلل ذلك التحريم. أي لا يوجد نص آخر في هذا التعليل والقياس.
وفي نفس الباب حديث عن ابن عباس رواه أحمد وأبو داود؛ جاء فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وأن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه». وهذا نص يفهم منه أن الحيلة المفضية إلى الحرام حرام.
وهنا لطيفة ينبغي ذكرها، وهي أن الحديث الشريف المخصص لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} جاء ما يخصصه هو نفسه. فالحديث يحرم بيع الميتة، وهناك نص يخصصه ويبيح بيع جلد الميتة المدبوغ.
وعليه يحرم على المسلم بيع ما حرم الله أكله كلحم الميتة، وما حرم شربه كالخمر، وما حرم اتخاذه كالأصنام، وما حرم اقتناءه كالتماثيل، وما حرم صنعه كرسم ذوات الأرواح باليد. ويستنبط منه أيضاً حرمة بيع الصلبان وشعائر الكفر.
ويشترط في بيع الأشياء المكيلة والموزونة والمعدودة تمام القبض. وذلك لورود أحاديث تنهى عن بيع هذه الأشياء قبل قبضها. روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى يكتاله». وعن زيد بن ثابت: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم». وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من اشترى طعاماً بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه». رواه أحمد.
وحديث زيد بن ثابت رواه أبو داود والدار قطني. قال الشوكاني: أخرجه الحاكم وصححه وابن حبان وصححه أيضاً. وحديث زيد نص عام، يخصصه حديث ابن عمر الذي ذكر فيه «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى من عمر جملاً ووهبه لعبد الله بن عمر قبل قبضه» فلا يشترط في الدابة القبض. فلو اشترى دابة ولم يقبضها ثم ولدت، فإن ولدها للمشتري وليس للبائع. وكما لا يشترط في الدابة القبض لإتمام البيع فإنه لا يشترط في السيارة والطائرة والدار.
ومثلما خصص حديث ابن عمر حديث زيد بن ثابت، جاءت أحاديث أخرى تخصص حديث زيد في نوع آخر من البيع؛ هو بيع السَّلَم أو السَّلَف. والسلم هو أن يسلم عوض موصوف في الذمة إلى أجل. وهذا التعريف تعريف شرعي مأخوذ من واقع السلم الوارد في الأحاديث الشريفة. عن ابن عباس قال: «فدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». رواه الجماعة.
والسلم يحدد عملياً على الشكل التالي: فلاح يعوزه المال فلا يجده فيبيع محصوله قبل خروجه بثمن معجل يقبضه حالاً في مجلس العقد على أن يسلم السلعة للمشتري عند حلول الأجل المضروب. والتاجر قد يبيع بضاعة ليست عنده إلى أجل معلوم ويقبض الثمن حالاً في مجلس العقد على أن يسلم البضاعة عند حلول الأجل المطلوب.
ووضح أن هذا البيع هو بيع ما لا يملك. وبيع ما لا يملك حرام بدليل حديث زيد، ولكن حديث ابن عباس يخصصه.
والذي يجوز فيه السَّلَم هو ما جاء النص فيه. أما جوازه فيما يكال ويوزن فصريح في حديث ابن عباس. ونقل ابن المنذر الإجماع على السلم في مكيلاً. فالسلم في المعدود جائز أيضاً. روى البخاري أن ابن أبي أوفى قال: «كنا نسلف على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر» وهذا نص صريح أن السلم في الطعام جائز. ويكون الحكم معلقاً بكل ما يقدر به الطعام. والمعدود منه.
وتجب معرفة جنس المُسْلَم (قطن مصري، حرير هندي، إلخ) وجنس ما يكال أو يوزن (ليتر أو كيلو…) وكذلك لابد أن يكون الأجل معلوماً. والثمن معلوماً. ويتحرز في الثمن على منع الغبن الفاحش، لأن الغبن الفاحش حرام في البيوع كلها. والغبن الفاحش يقدّره أهل الاختصاص. فما يعتبرونه غبناً يكون غبناً، وما لا فلا.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» رواه البخاري. وقد جاءت أحاديث شريفة كثيرة تحث على دراسة الفقه. وبدلاً من تيسير الخير أمام الناس تقوم الحكومات السائرة على سنة الكفار في بلاد المسلمين بحث الناس على متابعة الرقص الفاحش والغناء الماجن واللهو المحرم في وسائل الإعلام. وتعلم الشباب والفتيات إشعار الفسق والعصبية المذمومة والمعاني المنحطة. وتنفق الأموال على القصور الفارغة وحدائق الحيوانات. أما الأوقات القليلة المخصصة لتعليم الإسلام فإنها لا تعالج مشكلة ولا تنمي شخصية ولا تنتح عارفاً بأمور الإسلام عاملاً بأوامره ونواهيه.
والمقالة السابقة مثال حي على ثراء الفقه الإسلامي، ودقة معالجاته، وروعة دراسته. وينبغي الإشارة أن ما جاء في المقالة إنما هو ملخص. الهدف منه نشر بعض الأحكام الشرعية بغية الالتزام بها، وفضح عداوة أكثر الحكام ومناهجهم للإسلام، وحث المسلمين على دراسة الفقه، والإشارة إلى أن في الإسلام علاجاً صحيحاً لكل مشكلة. وأن ظهور الإسلام أمر حتمي ولو كره الكافرون والمنافقون.
قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. فإلى العمل الواعي المنتج يا شباب الإسلام ويا أمل الأمة.
* رواه الجماعة يعني الخمسة: (أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وابن حنبل) بالإضافة إلى البخاري ومسلم.
* متفق عليه: يعني بخاري ومسلم.