هناك صراع على السلطة في الجرائر. هذا الصراع فيه أطراف خارجية دولية، وأطراف داخلية. أما الأطراف الخارجية الدولية فتتمثل في أميركا وفرنسا (نقول فرنسا وليس بريطانيا، كما يتوهّم بعض المراقبين). أميركا تسخّر بعض الأطراف الإقليمية وبعض الأطراف الداخلية، وفرنسا تسخّر كذلك بعض الأطراف الإقليمية وبعض الأطراف الداخلية. غالبية دول أوروبا الغربية تميل إلى تأييد فرنسا لأن نجاح أميركا في الجزائر سيؤدي إلى نجاحها في شمال أفريقيا وفي مناطق أخرى من أفريقيا، وهذا سيؤدي إلى تقليص النفوذ والمصالح الأوروبية، لأن كل نجاح لأميركا هو تقهقر لمنافساتها الدول الأوروبية.
استطاعت أميركا أن تستميل الرئيس أمين زروال (وخالد نزار الذي ابتعد قليلاً بسبب حالته الصحية) وبذلك تكون أميركا قد استمالت الرئاسة الشريعة التي تملك قسماً قوياً من الجيش. واستطاعت أميركا، بواسطة جماعاتها الإقليميين في السعودية والسودان وإيران، أن تستميل جانب كبيراً من التيارات الإسلامية.
فرنسا معها قسم من الجيش متمثل في رئيس الأركان محمد العماري، ومعها جانب كبير من التيارات العلمانية.
أميركا تحضّ الرئيس زروال على الحوار مع الجميع دون استثناء الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتحضّه على التفاهم مع الجبهة وتوسيع التمثيل في حكومته. بينما جماعة فرنسا ضد الحوار مع الجبهة الإسلامية، وقد كان رئيس الحكومة السابق رضا مالك وزير الداخلية السابق سليم السعدي، مثل رئيس الأركان محمد العماري، ضد الحوار مع الجبهة الإسلامية. وقد تمكن زروال من إقالة رضا مالك وإبعاد سليم السعدي، وهذا قوّى موقفه في السلطة، ولكن يبقى موقفه داخل الجيش غير مضمون.
وقد برز موقف أميركا من الوضع في الجزائر في تصريحات ومواقف عدة كان منها الشهادة التي أدلى بها نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط مارك بريس في مجلس النواب في 22/03/94 حيث قال: «ليس هناك أي شك أن الإسلام السياسي بات يشكل عنصراً مهماً على الساحة السياسية الجزائرية» وقال بأن الإدارة راقبت باهتمام اجتماعات المسؤولين الجزائريين مع ممثلين عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأوضح أن نجاح الحوار يتطلب من الجانبين اتخاذ خطوات محددة لإظهار حسن النية. وقال: «ليس في استطاعة الزعماء الجزائريين خفض حدة الأزمة بالاعتماد على سياسة القمع أكثر من اللزوم. وعلى الأغلب سيستمر العنف في التصاعد في شكل يهدد الاستقرار الجزائري في غياب حصول تغيير سياسي جدّي» وقال بأن النفوذ الأميركي في الجزائر محدود بعكس فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.
وكان الرئيس زروال قال في 18/03/94 بأنه سيبدأ محادثات خلال أيام قليلة مع زعماء سياسيين واجتماعيين لإعادة الجزائر إلى «سيادة الشعب».
وهذه العبارة طالما استخدمها زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ أثناء تقدمهم في المعركة الانتخابية. وقد أثارت هذه العبارة من الرئيس زروال تعليقات غاضبة في جريدة «الوطن» المستقلة (تعتبر قريبة من قوات الأمن) في مقال عنوانه: «الجزائر تسير في طريق انتحاري» وكتبت أن قرار زروال «ربما عرّض وحدة الجيش للخطر».
وقد أجرى رئيس الأركان الجنرال محمد العماري محادثات على مدى ثلاثة أيام مع كبار الضباط بشأن قرار التعبئة واستدعاء الاحتياط.
وقد قال المؤرّخ الفرنسي بنيامين ستورا المتخصص في شؤون الجزائر: «المنطق يقول أنها حرب تتأجج بين معسكرين لا يريدان التفاوض الآن وعلى طرفي نقيض في رؤيتهما لشكل المجتمع». وأضاف: «إن تزايد قوة الجنرال (محمد) العماري (رئيس الأركان) تشير إلى تشدد أكثر في موقف العسكريين الجزائريين تجاه الجماعات الإسلامية».
وقالت وكالة رويتر في 26/03/94: «قررت الجزائر التي تخوض حرباً غير معلنة ضد الأصوليين الإسلاميين استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط للاشتراك في المعركة» وأضافت: «قال ديبلوماسي غربي: إذا استدعت الاحتياطي فإلى أي جانب سيقاتلون. بالتأكيد سيتعاطف بعضهم مع (الجانب الآخر). أنه مثل السماح للعدو بدخول معسكرك» وأضافت: «إن حدوث انقسام في صفوف القوات المسلحة هو أشد ما تخشاه السلطات الجزائرية».
وكانت مجلة «اكسبرس» الفرنسية اعتبرت «أن العماري كان وراء شائعة استدعاء جنود الاحتياط البالغ عددهم (120) ألف رجل للضغط على زروال». وقالت مجلة «جون أنديك»: إن سياسة الحوار التي انتهجها زروال لم تعد تلقى تأييد الجميع، إذ أن خصمه الأساسي اللواء العماري الذي يتولى أيضاً قيادة القوات الخاصة يبدو متقدماً عليه، وما مسارعة قادة الجيش في 20 آذار الماضي إلى إصدار بيان الدعم لزروال إلا إشارة ضعف على موقف زروال.
وقد نقلت جريدة السفير (اللبنانية) في 06/04/94 عن مصدر جزائري ذي خبرة واسعة في المجالات الأمنية قوله: «إن ثمة حملة واسعة في القيادة العسكرية للتخفيف من تأثير الضباط ذوي التربية الفرنسية لإفساح المجال أمام القيادات الشابة والضباط الذي كانوا تلقوا تدريبات في أوروبا الشرقية أو دول أخرى غير فرنسا» وفي أشار إلى غموض الدور الفرنسي تنقل الجريدة عن المصدر قوله: «إن السلطات الرسمية عندنا حاولت جاهدة، وفي أكثر من مناسبة، دفع باريس لإعلان موقف واضح حيال ما يجري، لا سيما بالنسبة للإسلاميين. لكننا كنا في كل مرة نفاجأ بأن فرنسا تعمل على التعامل مع النظام الشرعي والمتطرفين على نسق واحد، وكأنما عمليات الجيش والإسلاميين هي ذات طبيعة واحدة. وكانت الولايات المتحدة تسعى بالقابل إلى مد خطوط واضحة مع المؤسسة العسكرية الجزائرية رغم إدراكنا بأن واشنطن لم ولن تقطع الخطوط الموازية مع الإسلاميين. ولذلك وجدنا أنه لا بد من التعامل مع واشنطن حتى وإن تم ذلك على حساب فرنسا. وقد وجهت الإدارة الأميركية رسالة واضحة إلى زروال تؤكد فيها دعمها لمسيرته وأرفقتها بمساعدات مالية بلغت ملايين الدولارات خصصت لحماية المناطق البترولية».
وتضيف الجريدة عن المصدر قوله: «إن الجيش لم يعد قادراًُ على تباينات قادته، لا سيما بعدما تبيّن أن الإسلاميين مرتبطون بخطوط واسعة مع الخارج تبدأ بالسعودية وتمر بإيران وصولاً إلى السودان وباكستان، وتدرك المؤسسة العسكرية أن الحوار كما كان يراد له سابقاً لم يعد صالحاً لإنقاذ الأوضاع، وإن بات مطلوباً نوع آخر من الحوار والحلول».
ويبدو أن كلاً من زروال (رئيس الدولة ووزير الدفاع) والعماري (رئيس أركان الجيش) أخذ يستقطب الجيش ويستميل الضباط إليه تحسّباً لانقسام الجيش. وفي هذا السياق جاء تعيين الرئيس زروال في 26/03/94 للعميد المتقاعد محمد بتشين (60 سنة) مستشاراً له. وقد وُصِفَ العميد بتشين هذا بأنه رجل انفتاح على الصعيد السياسي، وبأنه عسكري محترف ولديه شعبية كبيرة بين ضباط الجيش، والأرجح أن شعبيته بين ضباط الجيش هي التي دفعت بزروال لتعيينه مستشاراً له.
الآن رجحت كفة زروال بعد إقالته لرضا مالك من رئاسة الحكومة وإبعاده لسليم سعدي عن وزارة الداخلية، وهو يحاول استرضاء شيوخ الجبهة الإسلامية للإنقاذ لتسليمهم السلطة بعد أن يضمن عدم خروجهم عن الخط المرسوم، وفي هذه الحال سيصبح الجيش داعماً وحامياً لهم.
أما ما هو هذا الخط المرسوم، ومن هي الجهة التي رسمته، وإلى أي مدىً يصل هذا الخط، فنحن نرى أن أميركا هي التي رسمته، وهذا الخط هو ليس مجرد إقامة دولة إسلامية في الجزائر لإرضاء التيارات الإسلامية بل هو إشعال ثورة إسلامية تنطلق من الجزائر لتطيح بالأنظمة في الشمال الأفريقي كله ولتمتد إلى بقية أفريقيا. أميركا تريد أن تسخّر الإسلام والثورة الإسلامية والحركات الإسلامية من حيث لا يدرون (وربما بعضهم يدري) لقلب أنظمة حكم والإتيان بأنظمة أخرى تكون في قبضتها كما تريد. وبعد تحقيق مآربها تجهض الثورة الإسلامية وتركز الصيغة التي تناسبها بعد أن تكون اقتلعت نفوذ الدول الأوروبية المنافسة لها.
ولكن هل ستسكت فرنسا والدول الأوروبية الأخرى ذات المصالح، هل ستسكت على خطة أميركا هذه، وهل ستسمح بمرورها؟
الظاهر أن فرنسا لن تسكت. وما تَشدَّدُ رئيس الأركان (العماري) ومحاولة استقطابه لضباط الجيش، ومحاولة استدعائه الاحتياط، وشحن الجيش ضد الحوار مع الحركات المتطرفة (التي تقتل الجيش وقوى الأمن) على حد تعبيره؛ وما إطلاق النداء الذي أطلقه سعيد سعدي من أجل أن يحمل الشعب السلاح لحماية نفسه وتأمين أمنه الذاتي دون الاعتماد على الحكومة التي أصبحت جثة هامدة على حد تعبيره؛ ما ذلك إلا من تحريضات الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا لقطع الطريق على الثورة الإسلامية التي تريدها أميركا. سعيد سعدي هذا قال في المقال الذي نشرته له جريدة «الفيغارد» الفرنسية في 30/03/94: «لا تتوقعوا أن يحصل في الجزائر النموذج الإيراني، بل سيحصل النموذج الأفغاني».
وكان سعيد سعدي قد طلب من وزارة الداخلية (في عهد سليم سعدي) تسليح عناصره بمنطقة القبائل (البربر) وقد لقي طلبه استجابة فورية.
وهناك تقارير تؤكد حصول تهريب السلاح وإدخاله من تونس إلى الجزائر إلى منقطة القبائل.
وفي 13/04/94 عقد حسين آيت أحمد مؤتمراً صحافياً في باريس (وهو من زعماء منطقة القبائل) وحذر من أعمال عنف قد تحصل في مناطق البربر التي تشهد منذ بضعة أسابيع عمليات توزيع أسلحة. وأوضح أن جبهة (جبهة القوى الاشتراكية الجزائرية) تتعرض لضغوط شديدة.
علماً أن سعيد سعدي الذي يتزعّم حزباً صغيراً يدعى (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) هو رجل مخابرات ساهمت الداخلية الجزائرية في صنعه وإبرازه بهدف محدد هو التصدي لنفوذ حسين آيت أحمد في منطقة القبائل.
نحن في «الوعي» لا نكتب هذا الكلام ليكون مجرد تحليل سياسي، بل نكتبه ليكون فعلاً أداة وَعْيٍ على واقع المسلمين، وكيف أن الدول المستعمرة الكافرة تتكالب على المسلمين وبلادهم، ويتخذون من الإسلام مطية له، ويجعلون المسلمين كرة يتقاذفونها بأرجلهم. فهل يعني المسلمون في الجزائر وغيرها هذه الحقائق؟ وهل يتذكرون أنهم هم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؟!.