الدخول في الإسلام كله
2000/07/08م
المقالات
2,034 زيارة
(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين(208) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم(209) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور(210)) [البقرة].
تبين هذه الآيات الكريمة ما يلي:
1. لقد كان بعض الذين أسلموا حديثا من يهود يظنون أنهم لو أبقوا على الإيمان بشيء من التوراة لا يضر ذلك إيمانهم شيئاً، فأنزل الله مبيناً لهم أن الدخول في الإيمان يقتضي الإيمان بكلّ ما أنزل أي بالإسلام كله وأنَّ إبقاء أي شيء من غير الإسلام ولو كان يسيراً يكون اتباعاً لطرق الشيطان الذي هو عدو واضح العداوة للمؤمنين، وفي هذا تأكيد على وجوب الإيمان بكل ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(يا أيها الذين آمنوا) خطاب للذين تركوا الكفر واعتنقوا الإسلام.
(ادخلوا في السلم كافة) أي ادخلوا في الإسلام كله.
فـ(السلم) هنا الإسلام كما فسره ابن عباس رضي الله عنه والمقصود من الإسلام كله أي الإيمان به كله دون استثناء والعمل بشرعه كله دون غيره.
(كافة) حال من (السلم) أي السلم كله بمعنى الإسلام كله.. وأصل (كافّة) من اسم الفاعل (كافّ) بمعنى مانع من كفَّ أي منع. فقولك (هذا الشيء كافّ) أي مانع لأجزائه من التفرّف، فكأنك قلت مجازاً (هذا الشيء جميعه أو كله) بعلاقة السببية. ثم ألحقت (التاء) باسم الفاعل لنقله من الفاعلية من (كفَّ) إلى اسم (كافّة) بمعنى (الكلّ والجميع).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إنها نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بشرائعه وأبقوا على شيء من شرائع موسى ـ عليه السلام ـ فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا نعمل بها. فأنزل الله الآية.
أي أن من دخل في الإسلام، عليه أن يدخل فيه كله، فلا يبقي شرعاً غيره، فالإسلام ناسخ لغيره من الشرائع (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) المائدة: 48 أي: ناسخاً، والإبقاء على شيء من الشرائع السابقة، التي لم يقرها الإسلام، يكون اتباعاً لخطوات الشيطان (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين).
2. لا يصح أن يفسر (السلم) في الآية الكريمة بمعنى مسالمة العدو، وذلك لأن (السلم) ترد بمعنى (الإسلام) و(المسالمة)، أي أن للسلم أكثر من معنى، وبالتالي فهو لفظ مشترك أي متشابه، وتقرير أي المعنيين هو المراد، يفهم من القرائن المتعلقة بذلك في الآيات المحكمة.
فإذا كان (السلم) هنا بمعنى المسالمة، يكون المعنى (ادخلوا في مسالمة العدو كلّ المسالمة) والأمر للوجوب بقرينة (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) وبالتالي تكون المسالمة الكاملة للعدو فرض على المؤمنين، وهذا يناقض المحكم من آيات القتال التي تفرض على المؤمنين قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله وذلك بدخول الناس الإسلام أو دفعهم الجزية والخضوع لأحكام الإسلام (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الأنفال: 39 (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة: 29 والحديث: “الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة”(1). وكلها تفيد مضي القتال للكفار لإعلاء كلمة الله وخضوع الكفار لأحكام الإسلام، وهذا يبين أن (السلم) في الآية الكريمة بمعنى الإسلام وليس مسالمة العدو لمناقضتها بهذا المعنى الأخير (المسالمة) للمحكم من آيات قتال العدو، والمحكم قاضٍ على المتشابه فيكون المعنى قد تعين في الآية بالإسلام أي الدخول في الإسلام كله.
3. أما (السلم) التي وردت في القرآن بمعنى (المسالمة) فقد وردت في آيتين: واحدة في الأنفال والأخرى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وباستعراضهما تتبين الحالة التي يكون فيها (السلم) بمعنى المسالمة:
أ. آية الأنفال (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) الأنفال: 61. هذه الآية تفيد أنه إن مال وعرض الكفار المسالمة فاقبل منهم واعتمد على الله في كلّ ذلك، وعطف التوكل على الله والاعتماد عليه سبحانه على قبول المسالمة إذا عرضوها يدلّ أن المسلمين يقبلون من مركز قوة، ويظهر ذلك من الآيات قبلها: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون @ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون @ وإما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين @ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون @ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون) الأنفال: 56ـ60.
أي قاتلوا الكفار قتالاً شديداً يدخل الرعب والفزع في قلوب من سمعوا به من الأعداء حتى إنهم ليفرون من هول ذلك القتال قبل أن يصل إليهم، وكلّ ذلك مع إدخال الرهبة في قلوب الأعداء الظاهرين والمختفين وذلك من قوة الإعداد.
وبعد كلّ هذه الضربات الهائلة ضد العدو، بعدها إن عرض العدو المسالمة لما وصل إليه من سقوط وانهيار فاقبل منه لأنه يكون عملياً قد استسلم لك وكسرت شوكته.
ب. أما الآية الأخرى ففي سورة محمد صلى الله عليه وسلم: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) محمد: 35.
وهي تدلّ على تحريم الدعوة لمسالمة العدو لأن في ذلك ذلاً وهواناً، ولأن المؤمنين هم الأعلون فالله معهم ولن ينقص شيئاً من أجورهم نتيجة ثباتهم في قتال العدو وعدم مسالمتهم له.
ومن هاتين الآيتين يتبين أنه تحرم مسالمة العدو إلا إذا:
أولاً: عرض العدو المسالمة نتيجة قوة المسلمين وكسر شوكة العدو.
ثانياً: وكان في ذلك عزة للمسلمين وإضعاف للعدو.
وقد أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم شرطين آخرين من خلال صلح الحديبية وهما:
1. أن يكون الصلح (المسالمة) مع العدو مؤقتاً لأن تعطيل الجهاد أو إلغاءه حرام في الإسلام، بل جريمة كبرى كما تدلّ على ذلك النصوص التي ذكرناها.
2. والشرط الآخر أن يكون الصلح المؤقت معقوداً مع كفار محاربين، سلطانهم على أرضهم، وليس مع كيان مغتصب لأرض المسلمين حتى لا يكون الصلح إقراراً لاغتصابهم، لأن صلح الحديبية عقد مع كفار قريش، وكيانهم يومها على أرض لم يفتحها المسلمون بعد، بل كانت تحت سلطانهم قبل فتح المسلمين لها، أما الصلح مع كيان قائم على اغتصاب بلاد المسلمين مثل دولة يهود في فلسطين فهذا لا يصحّ لأن فيه إقراراً لسلطان الكفار على بلاد المسلمين، وهو مخالف لآيات المسالمة في سورتي الأنفال ومحمد ومخالف كذلك لصلح الحديبية، لأن ذلك الصلح بالشروط التي وضعت فيه جعلت الدولة الإسلامية تصبح الندّ بالندّ بالنسبة لقريش، ولم تعد قبائل العرب تخشى قريشاً إن دخلت في دين محمد وعهده، وكذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الهدنة المؤقتة أنْ يُحيِّد قريشاً عن محالفة يهود خيبر للتفرغ لقتال خيبر، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذهابه للعمرة أنَّ يهود خيبر يحاولون التحالف مع قريش لقتال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فتحييد قريش كان نصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان من أوائل الأعمال التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجوعه للمدينة أن غزا خيبر وقضى عليها بعد أن حيّد قريشا من الانضمام لخيبر بموجب صلح الحديبية.
ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راجع من الحديبية إلى المدينة في الطريق: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) الفتح: 1 فكان صلح الحديبية ثم من بعده فتح خيبر فتحاً مبيناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الصلح عزّ وأيَّ عزّ للمسلمين وإضعاف وأيَّ إضعاف للكافرين.
وبغير هذه الشروط المبينة في كتاب الله وسنة رسوله فإنه لا تجوز مسالمة العدو مطلقاً.
ومن هنا يتبين أن (السلم) الذي ورد في القرآن بمعنى المسالمة للعدو، محرم، إلا إن كان لإعزاز الإسلام والمسلمين، وإضعافاً وكسراً لشوكة العدو، وأن يكون مؤقتاً، وأن يعقد مع عدو لا يقوم كيانه على أرض اغتصبها من المسلمين حتى لا يكون في ذلك إقرار لما اغتصبه، وهذا هو المستفاد من آية الأنفال وآية سورة محمد صلى الله عليه وسلم وواقع صلح الحديبية.
4. ثم بين الله سبحانه أنهم إنْ لم يدخلوا في الإسلام كله، وأبقوا على أي شيء من الشرائع السابقة لم يقره الإسلام، فإنهم يكونون بذلك قد أوقعوا أنفسهم في غضب الله وعقابه، وبخاصةٍ وقد بينت لهم الحجج الظاهرة الدالة على أنَّ الإسلام هو الحق، وأنَّ الأديان السابقة قد حرفت وبدلت: (ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران: 85 فبعد الإسلام لا يقبل أي شرع غيره.
(فإن زللتم) أي تنحيتم عن الدخول في الإسلام كله، وأصل الزلل السقوط وأريد به ما ذكر مجازاً.
(فاعلموا أن الله عزيزٌ حكيمٌ) أي أن الله غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم، وهو حكيم لا يعذب إلا بحقّ .
ــــــــــــــ
البخاري: 1423، 1728، أحمد: 6/165، ابن ماجه: 2892.
2000-07-08